أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

يقودها الفرنسيون في الساحل... وحضور قوي «غير معلن» للأميركيين

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب
TT

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها يوقفون عملياتهم العسكرية ضد ما يسمى تنظيم «داعش» في سوريا والعراق ويستعدون أيضاً للانسحاب من أفغانستان، تلك الساحة السابقة لحرب شرسة ضد الإرهاب بدأت منذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما كان كل ذلك يحدث وتخبو جذوة الحرب العالمية على الإرهاب في الشرق الأوسط، توجهت الأنظار نحو القارة الأفريقية على أنها المركز الجديد لهذه الحرب.
-

تعد أفريقيا واحدة من أكثر مناطق العالم فقراً، كما تنتشر فيها الأمية بمعدلات مهولة، ويعاني كثير من سكانها من انتشار أمراض قاتلة مثل الملاريا والإيدز وفيروس إيبولا، ومع انتشار الفقر والمرض والجهل تصبح أفريقيا بيئة خصبة لنمو وانتشار التنظيمات الإرهابية، خصوصاً إذا أضفنا لما سبق انتشار الظلم الاجتماعي وغياب الديمقراطية وتغلغل الفساد في أغلب الدول، وانعدام أفق بالنسبة للشباب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان القارة.
ولكن في المقابل تشكل القارة البِكرُ ساحةً للصراع بين القوى العالمية بحثاً عن موطئ قدم في قارة لا تزال خصبة للاستثمار، وبحثاً عن نصيب من ثرواتها الهائلة التي لا تزال نائمة تحت باطن الأرض، كالنفط والغاز واليورانيوم والذهب، كل ذلك يجعلها في مرمى التنظيمات الإرهابية الساعية لضرب المصالح الغربية، خصوصاً أن هذه التنظيمات تستغل موقع القارة على ممرات تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية نحو أوروبا، للدخول في شبكات التهريب من أجل تمويل أنشطتها الإرهابية.
مئات المقاتلين الأجانب فروا من ساحة المعارك الطاحنة في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة. ويقول تقرير جديد صدر مطلع شهر مارس (آذار) الحالي عن مركز التفكير الأميركي حول الأمن «ستراتفور»، إن عدداً كبيراً من هؤلاء المقاتلين توجه نحو القارة الأفريقية، ويشير التقرير إلى أن أفريقيا هي «الساحة الجديدة للحرب على الإرهاب».
يوضح التقرير أن في العام الماضي كان هنالك «تزايد ملحوظ» في أعداد المقاتلين الأجانب الذين دخلوا الأراضي الأفريقية والتحقوا بجماعات متشددة تسعى جميعها إلى إقامة دويلات للتطرف على غرار ما قام به «داعش» في سوريا والعراق، ويشكل هؤلاء المقاتلون «خطراً حقيقياً» على القارة السمراء.
كثير من الدول الأفريقية أخذت هذه التحذيرات على محمل الجد، وضاعفت من إجراءاتها الأمنية في المطارات ونقاط العبور الحدودية، لمنع عبور أي مقاتل محتمل داخل أراضيها، وتم وضع كثير من الجنسيات ضمن قائمة «سوداء» يتم التعامل مع مواطنيها بحذر شديد، على غرار ما قامت به الحكومات في السنغال وموريتانيا وغينيا، بينما فضلت دول كثيرة أخرى تعزيز مستوى التعاون الأمني مع تركيا، البلد الذي يشكل محطة عبور رئيسية لنسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب، بعد الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
قد لا تكون أفريقيا بالاهتمام ذاته الذي تحتله منطقة الشرق الأوسط ضمن الأجندات العالمية، بصفتها منطقة حيوية في مجال إنتاج ونقل الطاقة بشكل عام والنفط بصفة خاصة، ولكن تبقى القارة الأفريقية واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم، ولا تزال ثرواتها «غير مكتشفة» ما جعلها محط أنظار كثير من الشركات العالمية المختصة في مجال التنقيب عن النفط والغاز، في إطار البحث عن بديل لمنطقة الشرق الأوسط المزدحمة، كما أن منطقة شمال وغرب أفريقيا المهددة بالإرهاب هي امتداد للأمن القومي في القارة الأوروبية التي لا تبعد عن عواصمها سوى مئات الكيلومترات.
لذا فإن عوامل كثيرة تجذب القوى العالمية لخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، وإن كانت هذه القوى تنخرط في هذه الحرب بمستويات متفاوتة حسب مصالحها، ومناطق وجود هذه المصالح، فعلى سبيل المثال تركز الولايات المتحدة الأميركية أنشطتها ضد الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي القريبة من مضيق باب المندب الفاصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو واحد من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية، وله تأثير كبير في حركة الملاحة العالمية، وتستخدم الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية في جيبوتي (توصف بأنها أكبر قاعدة عسكرية لطائرات الدرون في العالم) لمواصلة الضغط على «حركة الشباب» و«داعش» في الصومال.
في غضون ذلك، تفضل قوى عالمية أخرى خوض الحرب على الإرهاب في مناطق أخرى من القارة، على غرار فرنسا التي تخوض منذ أكثر من 6 سنوات حرباً شرسة ضد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي ينشط في منطقة الساحل الأفريقي، وهي منطقة نفوذ حيوي بالنسبة لفرنسا وتوجد بها مصالح فرنسية كبيرة، من أبرزها مناجم اليورانيوم في شمال النيجر.
دول أوروبية أخرى كثيرة تخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، إما بالتحالف مع الفرنسيين أو الأميركيين، بينما يتزايد بقوة النفوذ الروسي والصيني في القارة، وهو نفوذ اقتصادي في البداية، ولكنه يتجاوز ذلك ليصبح نفوذاً أمنياً وعسكرياً مع توقيع اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الحكومات المحلية لمحاربة «الإرهاب».
منذ أن بدأ كثير من مناطق القارة الأفريقية يقع تحت براثن الجماعات المتشددة، كان كثيرون يتوقعون أن القارة تحتاج لسنوات حتى تحتل صدارة الاهتمام فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، بينما تشير الأرقام إلى أن أفريقيا قد تحولت بالفعل إلى مركز لهذه الحرب، وهي الآن في قلب الإعصار وفي صدارة الاهتمام الدولي، ذلك ما يؤكده تقرير صادر مطلع العام الحالي عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية.
ويقول المركز في تقريره الجديد إن «الحرب العالمية ضد الإرهاب في أفريقيا» تجري على 4 جبهات رئيسية هي: الصومال، وحوض بحيرة تشاد، والساحل (وسط مالي والمناطق الحدودية)، ومصر، ويزيد المركز الأفريقي معززاً هذه المعطيات بأرقام تكشف أن عدد الجماعات المتشددة قد تضاعف في أفريقيا خلال العام الماضي (2018)، وهي زيادة تعود في أغلبها إلى عمليات انشقاق وتصدع في صفوف هذه الجماعات.
وقال المركز إن 13 دولة أفريقية واجهت خلال العام الماضي هجمات إرهابية يومية، فيما تراجع عدد ضحايا الإرهاب في القارة بنسبة 12 في المائة بالمقارنة مع حصيلة الضحايا خلال عام 2017، وبنسبة 50 في المائة بالمقارنة مع الحصيلة في عام 2015، ويعود هذا التراجع الكبير إلى انخفاض معدل هجمات جماعة «بوكو حرام» في شمال نيجيريا، التي انخفض عدد ضحاياها العام الماضي بنسبة 35 في المائة، كما تقلص عدد القتلى الذين أسقطتهم حركة الشباب الصومالية بنسبة 15 في المائة، أما «داعش» فقد تراجع عدد ضحاياه بنسبة 21 في المائة.
خلال العام الماضي، تراجعت الهجمات الإرهابية التي شنتها «بوكو حرام» بنسبة 25 في المائة، بينما تضاعفت 3 مرات الهجمات التي شنتها «الدولة الإسلامية في أفريقيا الغربية»، وهي جماعة منشقة عن «بوكو حرام» أعلنت عام 2015 مبايعة «داعش»، وسحبت البساط بشكل شبه كامل من تحت التنظيم القديم «بوكو حرام»، رغم أنها لا تزال تحمل اسمه في كثير من الأحيان، وقد شن هذا التنظيم خلال العام الماضي 83 هجوماً إرهابياً، بزيادة كبيرة بالمقارنة مع العام قبل الماضي (2017) الذي شن فيه التنظيم 27 هجوماً فقط، فيما ارتفعت حصيلة قتلى التنظيم بنسبة 58 في المائة.
أما «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه الذين ينشطون في منطقة الساحل والصحراء، فقد سجلوا أكبر نسبة زيادة في العمليات الإرهابية خلال العام الماضي، حين تضاعفت هجماتهم من 144 هجمة خلال 2017 لتصل في 2018 إلى 322 هجمة، فيما تضاعف عدد الضحايا من 366 قتيلاً خلال عام 2017 ليصل في 2018 إلى أكثر من 611 قتيلاً، كما زاد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه من اتساع الرقعة الجغرافية التي ينشطون فيها، لتشمل بالإضافة إلى شمال ووسط مالي، مناطق من بوركينا فاسو والنيجر.

بوركينا فاسو تشهد أخيراً أكبر عدد من الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل، وأصبحت توصف بأنها الحلقة الأضعف من بين دول الساحل، إذ تضاعف عدد الهجمات الإرهابية على أراضيها، وهي هجمات في أغلبها من تنفيذ مقاتلين تابعين لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وآخرين من «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»، وقد ارتفعت هذه الهجمات من 34 هجوماً خلال 2017 لتصل العام الماضي إلى 136 هجوماً.
أما في منطقة شمال أفريقيا، فقد بقيت أنشطة تنظيم «داعش» على حالها خلال العام الماضي، إذا لم تشهد أي زيادة أو نقصان بالمقارنة مع 2017، فيما تمثل الهجمات التي يشنها «تنظيم داعش في سيناء» نسبة تتزايد، حيث شن التنظيم في سيناء 283 هجوماً من أصل 344 هجوماً شنتها جميع فروعه في القارة.
اللافت في الإحصائيات الصادرة عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، هو ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم «داعش» في شمال موزمبيق، الذي يطلق عليه محلياً «تنظيم الشباب»، وشن هذا التنظيم الصاعد خلال العام الماضي 55 هجوماً راح ضحيتها 164 قتيلاً.


مقالات ذات صلة

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».