«داعش» يستثمر في نسائه

أجبرهن على تجنيد «المتطرفين»

{داعشيات} يحملن السلاح (من مواقع تابعة لـ«داعش»)
{داعشيات} يحملن السلاح (من مواقع تابعة لـ«داعش»)
TT

«داعش» يستثمر في نسائه

{داعشيات} يحملن السلاح (من مواقع تابعة لـ«داعش»)
{داعشيات} يحملن السلاح (من مواقع تابعة لـ«داعش»)

المرأة في التنظيمات الإرهابية تُستغل بطريقة ممنهجة لارتكاب أعمال عنف، بخلاف طبيعتها، وهو ما يُفسر وجود نساء في أوروبا على استعداد لارتكاب أعمال إرهابية، شأنها شأن الرجال، حيث يشعرن بوجوب تلبية نداء محمد العدناني، متحدث «داعش»، بضرورة استهداف الغرب بأعمال إرهابية... لذلك يراهن تنظيم «داعش» الإرهابي مجدداً على النساء لاستقطاب وتجنيد مقاتلين جُدد.
أكد خبراء في الحركات الأصولية أن «النساء لديهن قدرة على التجنيد بصورة فعالة، عبر محادثات من خلال منصات التواصل الاجتماعي». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «داعش» منذ اللحظة الأولى يتعامل مع قضية المرأة بشكل كبير، وقد تتحول إلى سلعة لاستغلالها في الزواج، وأحياناً يتم استغلالها في بث فيديوهات تنقل من خلالها أسلحة وذخائر، خصوصاً أن المرأة يصعب اختراقها من قبل أجهزة الاستخبارات في الدول... فسيطرة التنظيم على النساء فيها طابع استثمار. وفي سوريا، أجبر التنظيم أخيراً النساء على تجنيد مزيد من السيدات عبر منصات التواصل الاجتماعي، وقدم خطاباً ومادة إعلامية تدعو - على حد زعم التنظيم - إلى «نصرة الإسلام والمسلمين» من خلال دعم الدولة «المزعومة». وطالب النساء بعمليات تدوين عبر المنصات الإعلامية، للحديث عن وجوب الهجرة للدولة «المزعومة»، والانضمام إلى التنظيم. وقال مراقبون إن اعتماد «داعش» على النساء من جديد هو لضمان البقاء، بعد هزائمه في سوريا والعراق، وفرار كثير من عناصره، وإعدامه لكثير من مقاتليه أخيراً.

إرهاب عائلي
يُشار إلى أن محرك البحث «غوغل» في يناير (كانون الثاني) الماضي، راقب حسابات بعض الفتيات في سن المراهقة لمنع استدراجهن من قبل «داعش»، بعدما لوحظ انتشار مواد دعائية وأفكار متطرفة على مواقع التنظيم الإلكترونية. وكشفت تقارير ودراسات مصرية أن هناك مساندة من فئات نسائية في جنوب سوريا والعراق لاستقطاب مقاتلين جُدد ومؤيدين للتنظيم. التقارير والدراسات ذكرت أن عودة التنظيم للاعتماد على المرأة في التجنيد يرجع إلى عدة أسباب، منها قدرتها على الحركة دون قيود أمنية تعوق قيامها بعمليات إرهابية، وقدرتها كذلك على نشر الآيديولوجيا المتطرفة بشكل أكبر، فضلاً عن إعادة مفهوم «الإرهاب العائلي». كما أكدت أن التنظيم يسعى حالياً أيضاً إلى تدريب النساء على التعامل مع المتفجرات، فدور النساء في تجنيد «المتطرفين» لا يعتمد فقط على نشر الأفكار، بل توظيف قدرتهن للتأثير على الشباب، وحثهم للانضمام للتنظيم. مراقبون أكدوا أن «الداعشيات» من المرجح أن يلعبن دوراً قوياً في الحفاظ على إرث التنظيم وأفكاره، خصوصاً أن العنصر النسائي يشكل نسبة كبيرة من مقاتلي التنظيم في الفترة من 2013 حتى 2018. التقارير والدراسات أشارت أيضاً إلى أن «داعش» عمل على استخدام استراتيجية تنظيم «القاعدة» الإرهابي في استغلال المرأة لنشر آيديولوجيته الفكرية المتطرفة بين العناصر النسائية الأخرى، إضافة إلى استخدامهن في الترويج الدعائي لأفكاره الخاصة بفكرة «الخلافة المزعومة». فمنذ نهاية 2017، أعلن «داعش» في أحد إصداراته أن «الجهاد ضد الأعداء» واجب على المرأة، كما قام بإنتاج صور دعائية لنساء يقاتلن في معاركه، وكان لهذه الإصدارات أثر في الدور الذي باتت تلعبه النساء داخل التنظيم، إذ وصلت نسبة الفتاوى التي تروج للعنصر النسائي في التنظيم منذ عام 2018 إلى ما يقارب 60 في المائة.
ورغم ذلك، فإن «داعش» يناقض نفسه في مشاركة المرأة بالعمليات القتالية، فصحيفة «النبأ» التابعة للتنظيم شرّعت مشاركة المرأة في القتال، بينما إذاعة «البيان» التابعة للتنظيم رفضت مشاركتها، وكشفت بعض إصدارات التنظيم المرئية عن توظيف المرأة في العمليات القتالية مباشرة، كما أن التنظيم أتاح لعناصره النسائية كشف الوجه، رغم تحريمه ذلك في العمليات، كما أباح اختلاط نساء التنظيم مع الرجال في أثناء وبعد تنفيذ العمليات، رغم تحريمه ذلك.

اختراق المجتمعات
الكلام السابق يتفق مع ما ذكره كوين جينز، وزير العدل البلجيكي، من أن الدور الذي تسنده جماعات التطرف إلى المرأة شهد تطوراً خطيراً، فلم يعد إقدام النساء المقاتلات على القيام بعمليات عسكرية أمراً من المحذورات الآيديولوجية.
ويشار إلى أن هناك العشرات من النساء البلجيكيات المنتميات إلى «داعش» اللائي يشكلن خطراً، رغم عدم توفر النية لدى الغالبية منهن للمشاركة الفعلية في مناورات عسكرية إرهابية، حيث إن دوافعهن كانت تكمن في إطار مجموعة من الأسباب الآيديولوجية والشخصية، كالمشاركة في المشروع الآيديولوجي لـ«داعش».
من جانبه، قال عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إنه «ليس بجديد استغلال النساء من قبل التنظيمات الإرهابية، فالمرأة عنصر رئيسي في المكون الآيديولوجي لجميع التنظيمات، و(داعش) منذ اللحظة الأولى تعامل مع قضية المرأة بشكل كبير، والتقارير الغربية بدأت تنتبه لذلك أخيراً؛ بأن (داعش) لن يستمر من دون الاعتماد على النساء».
وأضاف عبد المنعم أن فكرة تجنيد النساء عند «داعش» تتعدى الـ40 في المائة، فالمرأة وسيلة للتجنيد واختراق المجتمعات، ويظهر أثرها بقوة جداً، لافتاً إلى أن أدبيات «داعش» فيها نظرة دونية للمرأة، وبالتالي يمكن أن تتحول لسلعة في الزواج، وأحياناً يتم استغلالها في بث فيديوهات لنقل الأسلحة والذخائر، خصوصاً أن المرأة يصعب اختراقها من قبل أجهزة الاستخبارات في الدول، فالسيطرة على النساء سيطرة فيها طابع استثمار.
ومنذ عام 2017، بعد فقد التنظيم لكثير من مقاتليه ومواقعه، حافظ على انتشاره عبر منصاته الإلكترونية، بل عمل على إنشاء كثير من الحسابات الوهمية التي حاول من خلالها استقطاب مؤيديه ونشر أفكاره والتحريض على العمليات الإرهابية، خصوصاً في أوروبا. فقد عمل التنظيم على الانتشار بشكل مكثف عبر «تليغرام»، كوسيلة للمراوغة والبعد عن المنصات الإلكترونية التي أنشأتها الدول من أجل متابعة محتوى التنظيم المتطرف عبر «فيسبوك» و«تويتر»، ولذلك تنبه «تليغرام» وأغلق ما يقرب من 8500 قناة تبث أفكاراً متطرفة تابعة لـ«داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة.
وقال رسمي عجلان، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «دور النساء في (داعش) لا يتمثل في حمل الأسلحة، أو التقاط الصور التذكارية في الصحراء، بل يلعبن دوراً محورياً من وراء الكواليس»، مضيفاً أن نساء «داعش» لديهن القدرة على تجنيد المزيد من «المتطرفين» بصورة فعالة عبر محادثات طويلة، وعليهن دور أعمق في زرع المذهبية، من خلال الاشتراك في تجنيد أخريات عبر منصات التواصل.

خلايا مستقبلية
وعن لغة المرأة في تجنيد الشباب عبر الإنترنت، أكد عبد المنعم أن «اللغة الأكثر إثارة تكون سبيل لتجنيد المرأة للشباب، لكن الظاهر هو دعوة الداعشي للمرأة للانضمام للتنظيم عن طريق العاطفة، بأنها ستكون من طليعة المجاهدات - على حد الزعم - وأن جهاد النساء هو التربية وإنجاب الأولاد والتعبير عن الطاعة، لافتاً إلى أن بعض الداعشيات يوجهن الدعوة لأخريات للانضمام للتنظيم. وعقب انضمامهن، يوجهن الدعوة لأزواجهن للانضمام للتنظيم أيضاً، وهذا وارد بشكل كبير في أوروبا، لأن التجنيد عبر الإنترنت أقوى من التجنيد المباشر، لأن الالتقاء بالنساء صعب.
وذكرت تقارير أمنية أن غالبية مقاتلي التنظيم في الرقة والموصل تعكف على لملمة شتاتها، علماً بأن 30 في المائة فقط من إجمالي أربعين ألف مقاتل أجنبي انضموا إلى صفوف «داعش» هم الذين عادوا إلى ديارهم أو انتقلوا إلى دولة ثالثة.
وقال عمرو عبد المنعم إن «45 في المائة من العدد السابق عناصر نسائية، وبعض الدول خوفاً من هذه العناصر، بدأت ترسل هذه الأسر إلى دول أخرى صداها واسع غير مسيطر عليها من الناحية الأمنية، مثل بعض الدول الأفريقية التي تعيش فيها النساء لإعداد أجيال ليكونوا خلايا مستقبلية».
وفي الصدد ذاته، أكدت الدراسات والتقارير أن «داعش» أعطى أهمية خاصة للنساء لكونهن أفضل أداة لنقل أفكاره المتطرفة، فالدور الرئيسي الذي كانت تلعبه النساء في بداية نشأة التنظيم هو الإنجاب، وتلقين أبنائهن الفكر المتطرف منذ نعومة أظافرهم، والمجندات في أغلب الأحيان صغار السن، تم تجنيدهن عبر شبكة الإنترنت، ورحلوا جميعاً للحاق بصديق، وأنه من خلال استجواب «العائدات» من نساء «داعش» تبين أن الانضمام إلى المشروع الداعشي هو عبارة عن قضية التزام آيديولوجي.


مقالات ذات صلة

المشرق العربي طائرة من سلاح الجو العراقي خلال إحدى المهمات ضد تنظيم «داعش» (أرشيفية - واع)

العراق: المجال الجوي غير مؤمّن بالكامل

أقر العراق بأن مجاله الجوي غير مؤمّن بالكامل، في حين أكد اتخاذ إجراءات لتحسين القدرات الدفاعية بعد التعاقد مع كوريا الجنوبية قبل أشهر لامتلاك منظومة متطورة.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي الجيش العراقي يُطلق النار على مسلحي «داعش» عام 2017 (رويترز)

العراق: انفجار قنبلة يصيب 4 في كركوك

كشفت مصادر بالشرطة أن أربعة أصيبوا عندما انفجرت قنبلة على جانب أحد الطرق في مدينة كركوك بشمال العراق اليوم (السبت).

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي عناصر من القوات الحكومية في البادية (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

دمشق تواصل تمشيط البادية شرق حمص وملاحقة «داعش» بدعم من الطيران الروسي

رجّحت مصادر محلية أن يكون هدف حملة تقوم بها قوات تابعة لدمشق هو تأمين طرق البادية السورية الواصلة بين مناطق الحدود مع العراق ومحافظة حمص.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي فوزية أمين سيدو امرأة إيزيدية اختطفها «داعش» في العراق وتم إنقاذها بعملية في غزة (وزارة الخارجية العراقية)

عملية بقيادة أميركية تحرر إيزيدية من غزة بعد 10 سنوات في الأسر

قال مسؤولون عراقيون وأميركيون إن شابة إيزيدية عمرها 21 عاماً اختطفها مسلحون من تنظيم «داعش» في العراق قبل أكثر من عقد تم تحريرها من قطاع غزة هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.