سوق الشعراء وصراع الآيديولوجيا

دورة جديدة من مهرجان المربد الشعري

سوق الشعراء وصراع الآيديولوجيا
TT

سوق الشعراء وصراع الآيديولوجيا

سوق الشعراء وصراع الآيديولوجيا

لا أظن أن العرب أتقنوا صناعة حقيقية، وصدَروها كصناعتهم للشعر، فهو ــ لديهم ــ جنسٌ أصيل، وجزءٌ أساس من وجودهم، حتى وصل في مرحلة من المراحل أنْ يكون الشعر تعويضاً عن الخسارات والنكبات التي تمر به الأمة، فالعرب حين يلجأون إلى البيت الشعري، كأنهم يلجأون إلى البيوت التي ينهبها المعتدون أو المحتلون، فيشعرون بالطمأنينة حين يسكنون البيت الشعري، فيما بيوتهم نهب الريح.
لقد بقي الشعر «ماركة» عربية أصيلة، يصعد سوقها في «بورصة الجمال» مراراً، ولكنَها تنزل أيضاً مراراً، حسب أمزجة الناس، وزحف القوى الناعمة الأخرى على الشعر، ولكن بقيت مؤتمرات الشعر ومهرجاناته الأكثر تأثيراً، وجذباً للنظر، والمراجعة، والتساؤل، ومن أهم هذه المهرجانات ــ كما أظن ــ مهرجان المربد الشعري في العراق.
انعقد المربد في دورته الأولى في عام 1971 في البصرة، بوجود الجواهري والبياتي وسعدي يوسف وأحمد عبد المعطي حجازي وكبار شعراء العربية ونقادها، وهو أول مهرجان شعري عربي تلتقي فيه كل هذه النخب.
وهذا التاريخ له دلالات تخص الزمن العربي الذي أُصيب بجروح عدة، بعد هزيمة «67». وقد كانت السلطة فتية في ذلك الوقت ودعمت بقوة المهرجان، فكان المربد في ذلك الوقت جزءاً من ترميم أبواب الأمة، وهروباً نحو فتح خيمة الذاكرة ليستلقي تحتها الشعراء والأدباء، ومن خلالهم سيستلقي العرب مطمئنين للزمن الأخضر الذي افتقدوه.
إنَ أول خيط في هذه الخيمة كان الاسم «المربد» بكسر الميم وفتح الباء، فهو سوق أدبي وتجاري في البصرة راسخ في الذاكرة الجمعية للعرب جميعاً، يرتاده الشعراء ويتبارون فيه كالفرزدق وجرير وقد مرت عليه أسماء مهمة كبشار بن برد وأبو نواس والفراهيدي والأصمعي وعمرو بن العلاء، وكأن اسم المربد مارد عجيب، فبمجرد ذكر اسمه سوف يحضر التاريخ كله مبتلاً برذاذ الشعراء وصيحاتهم، وببداية صعود العرب إلى السلطة، وإلى مسك الحكم، وهي اللحظة القومية الخالصة للعرب أي لحظة الأمويين. وقد كان الشاعر شفيق الكمالي هو من اقترح اسم مهرجان «المربد» كما يذكر الشاعر سامي مهدي في مدونته الشخصية على «فيسبوك»، والتي ينتصر فيها للمربد السابق أيام إدارته وزملائه للمشهد الثقافي طيلة ثلاثين عاماً.
لقد أسهمت السلطات في العراق على دعم ذلك المهرجان، واستقطاب خيرة الأسماء العربية، التي شكَل المربد لحظة انطلاق هائلة لبعضها، وكأنَ المربد المعاصر فعلاً ذلك السوق الذي يتبارى فيه الشعراء، وبقي على هذا المنوال بجذبه الأدباء، حتى أصبح تقليداً سنوياً راسخاً ينتظره الشعراء من سنة لأخرى، فهو المهرجان الوحيد في الوطن العربي أيام السبعينيات، ولكن السلطة في العراق حالها حال أي نظام ديكتاتوري يحب الاستحواذ على كل شيء، بدأت تزحف نحو المربد لتقضمه شيئاً فشيئاً، حتى تحول في سنواته الأخيرة إلى منصة دعائية للنظام، أفرغها من محتواها الجمالي، والإبداعي، وأول شيء فعله النظام أنَه سحب المربد من البصرة إلى بغداد، وهو جزء من القبضة الحديدية للسلطة، وتقوية المركز على حساب الهامش.
لكن بعد النصف الثاني من التسعينيات، بدأ الشعراء المهمون يسحبون أيديهم من المربد، وبالكاد يحضر في كل دورة اسم أو اسمين من الأسماء المعروفة، فقد دأب على الحضور الشاعر «محمد الفيتوري» ومرة حضر «محمد عفيفي مطر» و«شوقي بغدادي» فمثلاً شعراء الخليج معظمهم قاطعوا العراق بسبب غزو الكويت، إلا بعض الأصدقاء من البحرين وعمان وهم ندرة جداً، والشعراء الكبار شبه مقاطعين مثل «أدونيس، ونزار قباني، ومحمود درويش، وأحمد عبد المعطي حجازي، وسعيد عقل، ومحمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، ومحمد بنيس وآخرين «وأشهد أنَ من يحضر من الشعراء والشاعرات العرب، حتى من غير المعروفين كانوا يعانون الكثير من التعب، ذلك أن سماء بغداد مغلقة، فلا تحط أي طائرة في مطار بغداد، لذلك يضطرون للذهاب إلى الأردن، ومن ثمَ يأتون عبر السيارات إلى بغداد، وهذه مشقة كبيرة لا يمكن تحملها، ولكنهم كانوا يتحملونها ويأتون إلى بغداد، أما العراقيون المقيمون في الداخل فقد كان يحضر معظمهم إلا ما ندر، وللأمانة أقول فقد كانت اللجان التنظيمية للمهرجان لا تفحص النصوص، بل كانت في مرحلة من المراحل تُقرأ نصوص في غاية الاحتجاج والصراخ العالي، وما زلتُ أتذكر نصوص «موفق محمد وكاظم الحجاج» ومن الشباب «عبد نور داود ومضر الألوسي وفارس حرام ومحمد البغدادي ومهدي الغانمي وآخرين، حيث شكلت نصوص هؤلاء الشعراء ثيمة واضحة في أنَها تتجه نحو الاختلاف الموارب.
أتذكر لقطة في آخر مربد في زمن النظام السابق أواخر عام 2002 فبعد أنْ ينهي الشاعر قراءة قصيدته عليه أنْ يسلمها إلى الناقد عبد الجبار داود البصري، وهذا تقليد اعتدنا عليه، لأنَ القصائد ستُطبع في كتاب يسمى «ديوان المربد» يُوزَع في المربد القادم، وكان هناك موظف مخصص لجمع النصوص، وقد قرأ الشاعر «كزار حنتوش» - وكان من الشعراء الصعاليك المهمين - نصوصه ونزل، فذهب إليه ذلك الموظف ليأخذ قصائده فصاح بوجهه كزار حنتوش «منو راح يطبع ديوان المربد ؟؟ بوش؟؟» وقد حلَ الرعب في باحة القاعة، لأنَ الأميركان قد وصل أسطولهم إلى الخليج، ولم تبق إلا أشهر معدودات ليدخلوا بغداد، فيما بغداد وحكومتها تتوعد بدفن الأميركان على أسوار بغداد، فكيف بشاعرٍ يصيح عالياً ويتساءل ساخراً هل سيطبع بوش أعمال المربد هذا لتوزع في المربد القادم؟؟. سقط النظام ودخل الأميركان أسوار بغداد دون أنْ يُدفنوا فيها كما توعدهم النظام وتوعدتهم قصائد المربد الأخير وحلَ الصمت.
انتهى حكم المركزيات وتهشم، وبتهشمه انتقل المربد إلى البصرة، فقد أصرَ أدباؤها في أنْ يكون المربد بمدينتهم فقط، وكانت هذه الخطوة الأولى للتحول في الإدارة الثقافية، ذلك أن وزارة الثقافة سلَمت أمورها للأدباء، ولم تعد ذلك الآمر الناهي، فاستمر أدباء البصرة مع وزارة الثقافة مع شخصيات ثقافية بإقامة مهرجان المربد كل عام.
لكن الصورة تغيَرت كثيراً، فعلى مدى 7 سنوات تقريباً لم تطأ أقدام العرب جميعاً أرض المربد، واتخذوا جميعهم موقفاً بمقاطعة أي نشاط ثقافي، وتحوَل المربد إلى مهرجان محلي، نرى نفس الوجوه في الداخل، مع تغيرٍ وحيد، وهو حضور شعراء وأدباء عراقيين مغتربين فبدأنا نرى فوزي كريم، وعبد الكريم الكاصد، ومحمد سعيد الصكار، وصادق الصايغ، عدنان الصايغ، وياسين النصير وعشرات غيرهم «انتهى زمن الأدلجة للمربد»، فالشعراء أحرار فيما يكتبون، ويقولون، وبقي تجمعهم هذا حصناً يقيهم من الطائفية، والمحاصصة، فالمربد وشعراؤه ظلوا اللقاح الأكثر نجاعة ضد فايروس الطائفية، والمناطقية، وبقي الشعراء والأدباء يحجون إلى البصرة كل عام، حتى استمالوا زملاءهم العرب الذين بدأوا يتوافدون على البصرة وبغداد، لأن الصورة تكشفت لهم بشكل واضح وجلي.
لقد انقطع المربد في البصرة حين أقيم في عام 2005 عن بقية المرابد السابقة وذلك من خلال إعطائه تسلسل رقم (1) وبهذا صنعوا فاصلاً تاريخياً عن بقية المرابد، إلا أن الزملاء في البصرة ومنذ عامين قرروا أن يستأنفوا لحظة المربد الأولى التي ترأسها الجواهري فأعطوه رقم (32) دورة كاظم الحجاج، فيما كانت هذه السنة الدورة رقم (33) دورة حسين عبد اللطيف.
ولكن ما يلاحظ على دورات المربد الأخيرة هو عدم تدوين النصوص بديوان خاص يطبع تحت مسمى أعمال المربد الشعرية والنقدية منها، وهذا خلل كما اظن لأن التوثيق مهم في هذه الحالة، وما يلاحظ أيضا هو غياب أسماء الشعراء الشباب من الدعوات ــ في الأعم الأغلب ــ وهذه ظاهرة غير صحية استبعاد الصوت الشبابي من الإسهام بمهرجان مثل المربد، ولكن يحسب لهذا المهرجان هو التفاته للأسماء الشعرية وتسمية المربد بها وجعل المحاور النقدية حول شاعر من الشعراء المؤثرين بالثقافة العراقية، وخيراً فعل أصدقاؤنا في البصرة هذه السنة حين جعلوا دورة المربد لهذا العام باسم الشاعر الراحل «حسين عبد اللطيف»، فهو شاعر مؤثر في المناخ الكتابي لأدباء العراق وللبصرة على وجه التحديد.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.