الباغوز... رائحة الجثث في كل مكان... والسماء كتلة نار

فارون يروون لـ «الشرق الأوسط» مشاهداتهم في جيب «داعش» الأخير

نساء هربن من جيب «داعش» الاخير شرق سوريا (أ.ب)
نساء هربن من جيب «داعش» الاخير شرق سوريا (أ.ب)
TT

الباغوز... رائحة الجثث في كل مكان... والسماء كتلة نار

نساء هربن من جيب «داعش» الاخير شرق سوريا (أ.ب)
نساء هربن من جيب «داعش» الاخير شرق سوريا (أ.ب)

على بعد 5 كيلومترات شمال بلدة الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا، يجلس مجموعة من الرجال على الأرض في صفوف متراصة. بعد دقائق تصل دفعة جديدة على متن شاحنات نقل كبيرة إلى النقطة نفسها. طُلب من الرجال السير نحو الآخرين للخضوع للتفتيش، ينتظرون إشارة من جندي أميركي كان يقف على مسافة قريبة، وسط انتشار كثيف للقوات الخاصة الأميركية، ومدرعات مصفحة ومقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية» التي فرضت طوقاً أمنياً على المكان.
بعض الرجال كانت ملامحهم آسيوية وآخرون من روسيا ودول غربية وعربية، بشرتهم سمراء اللون يتشابهون، بلحية كثة، يرتدون عباءات بنية أو سوداء اللون فوق ثيابهم، ويضعون قبعات أو كوفيات فوق رؤوسهم. قدموا من آلاف الكيلومترات إلى سوريا أكثر منطقة ساخنة بالشرق الأوسط منذ عام 2011، وطالما حلموا بالعيش في كنف تطرف مشابه لـ«داعش»، فانتهى بهم المطاف في هذه النقطة بانتظار تحديد مصيرهم بعد استسلامهم.
بعد إنهاء عملية التفتيش والتدقيق الأولى في الهويات وأخذ بصماتهم وجمع المعلومات الشخصية، تُنقل النساء مع أطفالهنّ إلى مخيم الهول شمالاً، بينما يتم إيداع الرجال والشباب المشتبه بانتمائهم لتنظيم داعش بسيارات خاصة كانت تقف قريباً، ليتم لاحقاً نقلهم إلى مراكز تحقيق خاصة وإيداعهم في السجون.
ليس خافياً على أحد أنّ هؤلاء هم عناصر تنظيم «داعش» المتطرف، الذين أثاروا الرعب ونشروا الخوف خلال السنوات الماضية بقواعده المتشدّدة وأحكامه المتوحشة. حيث أصدر مناهجه وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 8 ملايين نسمة. في ذروة قوته كان يسيطر على أراض ومدن حضرية في سوريا والعراق المجاور تقدر مساحتها بمساحة بريطانيا.
في هذه النقطة معظم الخارجين من عائلات التنظيم، من جنسيات متعددة، نساء متشحات بالسواد من دول المغرب العربي ومن العراق ودول عربية. وأخريات من دول الاتحاد السوفياتي السابق ومن روسيا والشيشان وإندونيسيا، بالإضافة إلى عائلات قدموا من فرنسا وبلجيكيا ودول غربية.
عائلة من العراق
«أنا شيماء أبلغ من العمر 55 سنة، عراقية من مدينة الموصل. قتل زوجي أثناء المعارك في مسقط رأسي منتصف 2015. على إثر ذلك نزحنا إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا، وبعد اشتداد المعارك هناك، قررنا المجيء إلى سوريا، قصدنا قرية أبو حمام بريف دير الزور الشمالي، ثم هجين والسوسة وشعفة وآخر مكان كنا محاصرين بداخله الباغوز، كنا نتراجع مع انسحاب مقاتلي التنظيم». وتضيف: «لدي ثلاث بنات، أكبرهنّ قتلت قبل خروجنا بثلاثة أيام. لم نتمكن من دفنها جراء المعارك. أما الأخريات فما زلن فتيات وهن جالسات بجانبي. الأولى ولدت 2002 والثانية تصغرها سنة، كما كان لدي ولدان وهما أكبر إخوتهم، قتلوا بغارة جوية في معارك هجين، وبقي عندي ابن عمره عشر سنوات والأصغر عمره 5 سنوات... يجلسون جميعاً بجانبي وسط هذه الصحراء».
ومضت بالقول: «لا، أنا لستُ بنتا؛ أنا هيفاء متزوجة من مقاتل لا يزال مرابطا بالباغوز. لقد قرر القتال حتى النهاية. أما نحن فخرجنا بأمر من أبو بكر البغدادي القرشي. فالنساء والأطفال مستضعفات لذلك أصدر قرارا بالسماح بخروجهنّ. نمنا اليوم هنا ونأمل في ترحيلنا اليوم لمخيم الهول شمالاً. عندما جاء الصحافيون والكاميرات، قدموا لنا كل شيء، من طعام ودواء وخبز. ولكن لا أحد يكترث لنا، عندما نأكل يجب أن نرفع البرقع والخمار، لكن مع وجود هذا الكم من الأشخاص الغرباء لا أحد يحترم خصوصيتنا. يأتون لالتقطاط الصور وإجراء المقابلات وهذا غير مقبول».
تقول ثانية: «أما أنا فأدعى وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة أيضاً من مقاتل مغربي ولقي حتفه في معركة هجين قبل أشهر، عندما تزوجت كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 16 وأنجبت منه طفلة عمرها 9 أشهر، لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر، من كان والدها، وكيف قتل، أين أنجبتها، وأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
أرملة من طاجيكستان
«اسمي أسماء أنحدر من طاجيكستان، أنا مسلمة وعمري 27 سنة. أرملة ولدي 4 أطفال جميعهم من مواليد سوريا. زوجي كان من طاجيك وكان يعمل في مصر يمتلك شركة صغيرة للتجارة. انضم إلى تنظيم (القاعدة) بداية 2012، بعدما قرر والدي الانضمام إليها وسافر رفقة والدتي وإخوتي الصغار إلى مدينة إدلب غرب سوريا بالعام نفسه، قتل بغارة جوية أما والدتي فلا تزال تعيش هناك. لا تعلم عني شيئا منذ شهرين، سأتصل بها عندما يتسنى لي ذلك».
أنا هنا بسبب زوجي الذي قرر السفر لسوريا بداية 2013. بداية كان مقاتلا مع تنظيم «جبهة النصرة» - هيئة تحرير الشام الآن - وبعد احتدام القتال بينها وبين تنظيم «داعش»، قرر الالتحاق بالأخيرة وقصدنا مدينة الرقة مع إعلان السيطرة على مناطق في شهر يناير (كانون الثاني) 2014، وبعد إعلان معركة الرقة نهاية 2016، خرجنا إلى مدينة الميادين ثم البوكمال وبعد اشتداد القتال هناك قصدنا بلدة الباغوز. منذ أشهر ونحن لا ننعم بالاستقرار والأمان. أحمل حقيبة صغيرة معي أضع بداخلها بعض الملابس لأطفالي أما أنا فمنذ شهر أرتدي هذه الملابس السوداء.
أجلس في هذه النقطة الصحراوية أنتظر دوري للسماح بنقلي إلى مخيم الهول. عناصر التنظيم تحدثوا كثيراً أن القوات المهاجمة من الكفار والخوارج، عندما وصلنا إلى هنا كانت معاملتهم حسنة. كما كان في استقبالنا جنود أميركيون مع منظمة أميركية خيرية تقدم لنا الطعام والخبز وحفاضات الأطفال وتعالج المصابين.
بقيت أكثر من 3 أيّام من دون طعام. بعد وصولنا إلى هنا أكلت بعض الخبز والمعلبات، أعطوني علبة حليب وأطعمت طفلي الصغير، وأكل أطفالي وشربوا مياها صحية لكن التعب والبرد ينخر أجسادنا النحيلة من شهور الحصار هناك.
أتفقد أطفالي الصغار كل ثانية وطفلي الصغير يبكي باستمرار. أكبرهم من مواليد 2014 ولد بالرقة، أما الثاني فولد في الميادين، والثالث في البوكمال، وأصغرهم ولد قبل شهرين بالباغوز. كل ما أتمناه في هذه اللحظة أن ألتقي مع والدتي وأعيش معها في مكان ما».
من أعزاز بريف حلب
«أنا فاطمة عمري 22 سنة متحدرة من بلدة أعزاز بريف حلب الشمالي. زوجة زعيم بالتنظيم. زوجي ينحدر من دولة عربية وأكبر مني بعشرين سنة. عائلتي وافقت على زواجي لكونه مسؤولا بارزا. في معركة الباغوز أصيب إصابة بليغة، وعندما أعلنت الهدنة الأخيرة قرر الخروج وهو محتجز لدى الأميركيين لا أعلم ماذا سيكون مصيره.
أنجبت منه طفلتين: الأولى ماتت بسبب المرض والحصار المفروض على البلدة لعدم وجود طبيب جراح وأدوية، والثانية عمرها 7 أشهر لكنها تبكي منذ أمس بسبب البرد والجوع. في معارك حلب فقدت كل وثائقي، بطاقتي الشخصية وجواز سفري، لا أحمل أي إثبات لشخصيتي، أما زوجي فحمل كل أوراقه وصحبها معه.
حاولنا الهروب مراراً. أول مرة طلب منا المهرب 5 آلاف دولار أخذ نصف المبلغ ولاذ بالفرار. بينما في المرة الثانية دفعنا ألفي دولار مقابل إيصالنا إلى الحدود العراقية، وعندما وصلنا إلى مخيم الباغوز بعد مشي استغرق 6 ساعات، قلنا إنها الحدود لوجود مخيم ثان هناك، لكن اكتشفنا سريعاً أن المهرب خدعنا وهرب هو الآخر.
لذلك بقينا آخر دفعة. انتظرنا هناك 12 ساعة حتى خرجنا من البلدة، ومنذ أمس ونحن هنا في هذه الصحراء القاحلة مع هبوب الغبار والرياح الجافة. كنا نعيش في الملاجئ والحفر. كل عائلة قامت بحفر جورة كبيرة للاختباء أثناء القصف. أكثر منطقة آمنة كانت المخيم الواقع جنوب البلدة على ضفة الفرات.
زوجي يرفض العودة إلى بلده، قد نبقى في سوريا إذا سمح لنا بذلك، أو نسافر إلى تركيا، المهم ننتهي من هذه الإجراءات ونعبر إلى المخيم، وبعد الإفراج عن زوجي سنقرر أين نعيش».
من تونس إلى الباغوز
«أنا سعدية من دولة تونس. عمري 26 سنة. كنت أدرس اللغة العربية في بلدي، وبعدما قررت أسرتي السفر إلى سوريا صيف 2015 جئت معهم. تجلس هنا والدتي وشقيقتي الأصغر مني، تجلس هنا أيضا خالتي وبناتها الثلاث وابنها البالغ من العمر 8 سنوات. قتل والدي في معركة دير الزور، أما زوج خالتي فأصيب في معركة الباغوز وسلم نفسه أمس نجهل مصيره، وخالتي كان لديها ابنها البكر يقاتل في صفوف التنظيم، قرر البقاء للقتال ورفض بشدة الخروج معنا.
أما الحياة بالباغوز فكنا معظم الوقت نأكل الحشائش ونشرب مياه الفرات. فقدت الأغذية والسلع الأساسية. لم يكن هناك أدوية أو أطباء، الحياة كانت صعبة للغاية. قبل ثلاثة أيام وأثناء القصف العنيف، تحولت السماء إلى كتلة من النار، شعرت أن الأرض احترقت بالكامل، كنت أقول إنه لن يسلم أحد ليلتها. في اليوم الثاني بقي لهيب النار وسحب الدخان تغطي المكان. روائح الجثث المتفسخة كانت في كل مكان. لم نصدق أننا نجونا من الموت».
عائلة من إندونيسيا
«اسمي نور خيرت وعمري 22 سنة. نجلس هنا أنا ووالدتي وأخواتي الصغار. والدي سلم نفسه. كان في البداية مقاتلا لكنه كان يدرس اللغة العربية في معاهد التنظيم. في صيف عام 2015، قطعنا آلاف الكيلومترات في رحلة جوية أقلعت من العاصمة جاكرتا مسقط رأسي، متجهين نحو مدينة إسطنبول التركية، ومنها أكملنا الرحلة براً على متنِ حافلة حديثة، قاصدين مدينة كِلس التركية الحدودية مع سوريا. عبرنا سراً من خلال منفذ بلدة الراعي الحدودي على الطرف السوري الذي كان يخضع آنذاك لسيطرة التنظيم، قصدنا مدينة منبج بريف حلب الشرقي، ثم ذهبنا إلى مدينة الرقة وجهتنا المقصودة آملين العيش في ظل (داعش).
تعرفت على صفحات مقاتلي التنظيم عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. قرأت كثيرا عنهم وعن مناطق سيطرتهم التي كنا نظن أنها ستكون المكان الأفضل لنعيش فيه، حيث بإمكاني ارتداء اللباس الشرعي دون قيود، وأستطيع أن أعبر بحرية عن مظهري كفتاة مسلمة. للأسف الواقع كان عكس الكلام الافتراضي، اكتشفنا كذب ادعاءاتهم وزيف وعودهم، عايشنا ظلمهم وشاهدنا كيف كانوا يعاقبون الناس، قالوا لنا إن الطبابة بالمجان والعلاج في المشفى على نفقة التنظيم، وحتى الأدوية تعطى للمريض مجاناً، كل ذلك كان كذبا في كذب. كثير من عناصر التنظيم طلبوني للزواج، لكنني وأهلي كنا نرفض، لأنهم لا يصلحون للزواج، يتزوجون لمدة شهر أو شهرين إما يقتلون في المعارك أو يطلّقون نساءهم ويتزوجون مرة ثانية.
تنقلنا بين سوريا والعراق، وكلما كانت مدينة أو بلدة تتعرض للهجوم كنا نقصد مكانا آخر. المعارك لم تهدأ منذ أكثر من عامين كنا ندرك أن التنظيم سيخسر في النهاية. ننتظر انتهاء الإجراءات هنا ونقلنا إلى مخيم الهول وننتظر تحديد مصيرنا. سنعود إلى بلدي، فالحكومة سترأف بحالنا».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».