مقاومة النساء لاعتداءات الذئاب البشريّة... بذرة انقلاب ثقافي واجتماعي

حركة «أنا أيضاً» انطلقت من أميركا إلى بقية المجتمعات الغربية

مظاهرة في كاليفورنيا تستنكر التمييز ضد المرأة
مظاهرة في كاليفورنيا تستنكر التمييز ضد المرأة
TT

مقاومة النساء لاعتداءات الذئاب البشريّة... بذرة انقلاب ثقافي واجتماعي

مظاهرة في كاليفورنيا تستنكر التمييز ضد المرأة
مظاهرة في كاليفورنيا تستنكر التمييز ضد المرأة

إذا كان هناك ثمّة تحوّل ثقافي نوعي مسّ المجتمعات الغربيّة خلال السنتين الأخيرتين ومثّل نقلة على الصعيد الاجتماعي فيها لا سيّما لناحية حقوق النساء عبر العالم، فلن يكون سوى حراك #MeToo الذي أصبح منذ إطلاقه أكتوبر (تشرين الأول) 2017 علامة على الأزمنة التي نعيش، وقرعاً طال انتظاره لجرس حول ظاهرة الاعتداء الجنسي على النساء التي من شدّة تجذّرها أصبحت كأنها جزء لا يتجزأ من واقع وبنية توزع القوّة وتمظهراً لهيمنة قد تمكنت لطرف في المجتمع على حساب الأطراف الأخرى.
بالطبع فإن مقاومة النساء لاعتداءات الذئاب البشريّة ليست بالشيء الجديد، بل إن رمز ال#MeToo - أنا أيضا - نفسه كان بالفعل موجوداً منذ 2006 عندما ابتدعته الناشطة الأميركيّة تارانا بروك تعبيراً عن تضامن نسوي مع الفتيات الأميركيّات من أصل أفريقي اللواتي كن يتعرضن للانتهاكات الجنسيّة، أي قبل الكشف عن اعتداءات وحش هوليوود الأشهر هارفي وينستين المتسلسلة على النساء في أجواء صناعة السينما الأميركيّة بهوليوود ثمّ إعادة إطلاق الممثلة أليسا ميلانو الهاشتاغ - الظاهرة مجدداً، وذلك بأكثر من عقد كامل. لكن شيئاً ما كان مختلفاً في 2017 عن أي وقت سابق، إذ تضافرت تقنيّات التواصل الحديثة بما نتج عنها من انتشار متشظٍّ لمواقع التواصل الاجتماعي مع حقيقة أن المواجهة كانت داخل وسط يعيش لياليه ونهاراته تحت أضواء الفرجة الساطعة في وقت دفعت الارتدادات الزلزاليّة الناشئة عن الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 التصدّعات المجتمعيّة التي يعيشها الغرب إلى أقصاها. كل ذلك أكسب المواجهة النسائيّة مع الذئاب زخماً إعلامياً غير مسبوق، واندفعت عشرات النساء من النجمات الشهيرات إلى الانخراط فيها كاشفات عما تعرضن إليه من اعتداءات جنسيّة خلال حياتهن المهنيّة من قبل مجموعة ما لبثت تتسع لناحية الأسماء المشهورة.
هذا الزخم الذي أخذ يتعاظم، انتقل شيئا فشيئاً من إطاره الهوليوودي البحت إلى بقيّة أماكن العمل الأخرى سواء في الصناعات الأقل تعرضاً لأضواء الكاميرات كما البنوك والمؤسسات التجاريّة والطبية والأكاديمية والمهنيّة، أو على مستويات اجتماعيّة أدنى حيث النساء في المهن الأقل دخلاً يتعرضن لانتهاكات لا تقل عن تلك التي كشفتها نساء هوليوود دون امتلاكهن قوّة اقتصاديّة تذكر في مواجهة المعتدين. ولم تلبث حمى الثورة أن انتقلت إلى نساء المجتمعات الغربيّة غير الولايات المتحدة: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا والدول الناطقة بالإسبانية، فأُطلقت فضاءاتها السيبيرية هاشتاغات مماثلة لل #MeToo باللغات المحليّة وتوسع موسم صيد الذئاب، حتى بات الكثير منها يتحسس رأسه تخوفاً من اللحظة التي يكشف فيها النقاب عن تاريخه المُظلم.
استمر حراك ال#MeToo مؤثراً في تشكيل المناخ السياسي عبر الغرب لا سيّما الولايات المتحدة، ولم يعد مجرد تكثّف إعلامي يرفع من وعي النساء، بل صار كثيرون ينظرون إليه بوصفه توجهاً ثقافيّاً شاملاً لا - مركزي الطابع في مواجهة العنف الجندري، وإطاراً مرئياً لصحوة مجتمعيّة مستجدة بعد تغافل متمدد حتى وصفه أحدهم بأنّه «حركة مضادة للبطريركيّة ستكسر تراكمات آلاف السنين من التاريخ المسجّل للبشر». ورغم أن هذه التوصيفات تبدو شديدة التفاؤل بقدرة هذا الحراك على تجاوز اللحظة الراهنة واكتساب صفة المنعطف التاريخيّ، فإن أصداءه التي بدأت تصل دنيا الرواية والأدب بتسارعٍ كبير، تشير إلى إمكانات هائلة ما زال يحملها بدلالة أنه قلب ولأول مرّة المعادلة بين الآداب والتغييرات المجتمعيّة، فالأدب بعد #MeToo يبدو لاحقاً للتغيير وضحيّة له ومتسلقاً عليه، بدلاً من دوره التقليدي في نشر بذور الوعي بالحاجة للتغيير.
ولعل نظرة سريعة على قوائم الرّوايات الصادرة حديثاً في الفضاء الأنغلوفوني تظهر استجابة لا شك ستتسارع مستقبلاً لحاجة قراء مرحلة ما بعد ال#MeToo تعيد سرد حكايات الماضي في ضوء جديد أو تقدّم خيالاً يكسر التابوهات المتوارثة، أو حتى تجعل من الاعتداءات الجندريّة مجالاً مستحدثاً لأدب الجريمة الذي طالما بقي ساكتاً عنها وكأنها لم تكن. هناك مثلاً رواية إرين كيلي الجديدة «أمهات متحجرات» التي تسجّل كيف تتعامل المجتمعات مع النساء اللواتي يرفضن الخضوع للأعراف والتقاليد، ورواية روزي برايس «هكذا كان الأحمر» التي تحكي بلسان فتاة تعرضت للاعتداء ورواية ميل غاريث «الطرف المذنب» عن شقاق يقع بين مجموعة من الأصدقاء نتيجة اختلاف مواقفهم بشأن اعتداء كاد أن يحدث أمامهم، وأيضاً رواية كاتبة أدب الجريمة المعروفة دينيس مينا «إدانة» التي تحقق في جرائم كبرى أحدها حادثة اغتصاب.
ولا يخفى بالطبع أن معظم هذه الأعمال التي انفعلت بالأجواء المستحدثة تغلب عليها الكاتبات النساء سواء الجديدات أو حتى الخبيرات اللواتي وكأنهن استعدن ثقة طالما فقدنها للتعبير عن تجاربهن سواء الشخصيّة أو المجتمعيّة. بينما يتسع صدر صناعة النشر لتحويل مثل تلك التجارب إلى أعمال تجاريّة مطبوعة، لا شكّ أساساً بدافع من توقع تجار الكتب لتغيّر نوعي في ذائقة القراء - والقارئات تحديداً - قد يدفع بالأعمال التقليديّة التي تلتزم بالخطوط الحمر القديمة المتعارف عليها إلى زاوية النسيان لمصلحة أعمال تخاطب جمهور ما بعد ال#MeToo.
مع هذا كلّه فإن طبيعة هذا الحراك الثقافي المتسع منذ ما يزيد عن العامين لا تزال شديدة النخبويّة، ومرتبطة عضوياً بتجربة المجتمعات الغربيّة المتقدّمة، كما تختصر مساحة النضال في مواجهة الذئاب البشريّة على موضوعة الاعتداءات الجنسيّة دون النظر للأسس العنصريّة والتمييز العرقي الذي يجعل من النساء المهاجرات إلى مجتمعات الغرب دائماً أهدافاً أسهل نسبيا. ولذا فإن #MeToo ستجد نفسها قريباً في مواجهة استحقاقات حاسمة، فإما أن تتقوقع داخل ذات المربّع الذي وُجدت فيه وبالتالي تذهب في تاريخ تحرر النساء كلحظة استثنائيّة لكن عابرة، أو أنّها تستكمل بناء نضالها كي يتسع لكل نضال ضد التمييز بحق النساء جنسياً كان أو عرقياً أو اقتصاديا أو ثقافياً، وعندئذ تكون كما بذرة انقلاب ثقافي واجتماعي على كل أشكال البطريركية المتقادمة.
لا ينبغي أن يأخذنا التفاؤل كثيراً، ذلك أن هنالك نوعاً من المحافظة الاجتماعية على الأوضاع القائمة متضمن في بنية المنظومة الاقتصادية الرأسماليّة في عهدها النيوليبرالي، الأمر الذي يعني بالضرورة مواجهة مضمونة الخسارة مع حرّاس هيكل الرأسمال، ناهيك عن أن كثيراً من نساء الغرب وإن كنّ مستعدات للنضال لأجل تحسين شروط عيشهن داخل مجتمعاتهن، إلا أنهن غير معنيّات أبداً بدعم نضالات نساء مجتمعات الجنوب أو حتى نساء الطبقات الدنيا والأقليّات في مجتمعاتهن ذاتها. ولعل الأخطر من ذلك كلّه أن هارفي وينستين ليس فريد عصره، بل هو عنوان حالة تكاد تتكرر داخل كل منظومة اجتماع بشري سواء أكانت مكان عمل أو نشاط تطوعي أو حتى إطار العائلات أحياناً، ولن يسلّم هؤلاء الوينستيون على تنوع مشاربهم ومرجعياتهم بسهولة لحراك يبدو ضبابياً، وينتمي إلى الفضاء السيبيري أكثر من كونه واقعاً على الأرض، وسيوظفون ترسانة القوانين والمحامين والنفوذ لحماية أنفسهم تجاه من يحاول كشف جرائمهم السريّة.
إنّه تقاطع طرق له ما بعده، لكنّه يلقي بعبء تعظيم المواجهة وتكريس معطياتها في قوانين وتشريعات وأعراف ثقافيّة على النساء أنفسهن قبل غيرهن. فالمعرفة لم تعد اليوم حكراً على الأقليّة ولا عذر لأحد في قبول الديماغوغيّات العتيقة، وأي انكفاء عن هذه اللحظة المتقدّمة يعني بالضرورة العودة إلى قبضة تنين النظام البطريركي الذي ربما أخفض رأسه قليلاً، لكنّه ما زال حيّاً يُرزق ويَظلم.



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.