أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

أزمة تعريف... أم أزمة مصالح؟

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»
TT

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

أوروبا... بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»

كان لافتاً خلال الأسابيع القليلة الفائتة في كل من فرنسا وبريطانيا حدثان لهما علاقة وثيقة بظاهرة «معاداة السامية». إذ ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً خطبة قال فيها، إن «معاداة الصهيونية شكل من أشكال معاداة السامية». وفي بريطانيا، بينما يتفاقم الصراع السياسي داخل الحزبين الكبيرين، حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض، بسبب مسألة خروج بريطانيا من أسرة «الاتحاد الأوروبي» (بريكست)، أعلن عدد من نواب حزب العمال البريطاني - بعضهم من تجمّع «أصدقاء إسرائيل العماليون» - استقالتهم من عضوية الحزب، وتوزّع تبرير الاستقالات بين الاعتراض على سياسة قيادة الحزب من الـ«بريكست» و«تجذر» معاداة السامية فيه إبان فترة زعامة زعيمه اليساري الحالي جيريمي كوربن.
الحدثان، ناهيك من تنامي قوى اليمين المتطرف - المناهض تقليدياً للأقليات العرقية والدينية والمهاجرين الأجانب - في عموم أوروبا، يسلّطان الضوء على ظاهرة معاداة السامية والحاجة إلى تفسيرها، لا سيما، أنها في حالتي فرنسا وبريطانيا المذكورتين لا تتصلان باليمين المتطرف بل بفكر سياسي بات يرفض أي تمييز بين العداء العنصري لليهود، وانتقاد عقيدة سياسية مثل العقيدة الصهيونية.

«معاداة السامية» عبارة تُعبّر عن ظاهرة تجلّت عبر القرون في ممارسات الاضطهاد والعنصرية الممنهجة ضد أفراد الدين اليهودي، شملت مذابح إسبانية وإنجليزية وروسية وحملات طرد من عدة دول عبر التاريخ، وبلغات الأوج مع «المحرقة النازية» (الهولوكوست). اليوم، عادت عبارة «معاداة السامية» لتهيمن على النشرات الإخبارية العالمية، وأطلقت جدلا اتّخذ أبعاداً سياسية من نوع جديد في أوروبا الغربية، تخلط أحياناً بين العنصرية والاضطهاد الذي ما زالت الجاليات اليهودية تعاني منه... وانتقاد ممارسات دولة إسرائيل والآيديولوجية الصهيونية. ولقد برز الجدل في كل من باريس ولندن بشكل أساسي، حيث اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «معاداة الصهيونية الشكل الحديث لمعاداة السامية»، بينما أحدثت اتهامات متزايدة في بريطانيا أكبر انشقاق سياسي منذ أربعة عقود. وفي حين تبحث حكومات أوروبا الغربية عن تعريف جديد لمعاداة السامية من دون التضييق على حرية التعبير، تستغل بعض حركات اليمين المتطرف الفراغ السياسي الذي سببه تراجع شعبية الأحزاب التقليدية لتعزيز خطابات معاداة السامية، والإسلاموفوبيا، وحتى نظريات تفوق العرق الأبيض.
حتى وقت كتابة هذه السطور، شهدت بريطانيا انشقاق 9 نواب بارزين من حزب العمال، احتجاجاً على قضايا متعلقة بـ«بريكست» وظاهرة معاداة السامية «المتجذرة» في الحزب اليساري على حد قول أحدهم. وبهذا الصدد، قالت النائبة لوسيانا بيرغر، وهي نائبة يهودية من تجمع «أصدقاء إسرائيل العماليون» التي بادرت في الانشقاق مع 6 نواب آخرين، إن «القرار كان صعباً ومؤلماً، لكنه ضروري». ورأت أن الحزب أصبح «معاديا للسامية بمؤسساته»، مضيفة أنها باتت «تخجل ومحرَجة» من تمثيلها لحزب العمال، كما أنّها تترك خلفها ثقافة من «التعصب والتخويف».
بدوره، اعتبر إيان أوستن، آخر نائب منشق، أنه يشعر «باستياء بالغ للإهانة والحزن اللذين تسبب بهما جيريمي كوربن (زعيم الحزب)، وحزب العمال للشعب اليهودي». وقال إنه «يخجل» من سلوكه تحت قيادة زعيم المعارضة اليسارية. وأضاف النائب الذي تبناه لاجئ يهودي نجا من «الهولوكوست»، لصحيفة محلية، أنه «من المروّع أن تتسبب ثقافة من التطرف ومعاداة السامية واللاتسامح في ابتعاد نواب جيدين، وأشخاص صالحين ممن كرسوا حياتهم للعمل السياسي العام». وتابع أوستن أن «اليسار المتشدد يتولى الآن زمام الحزب، وسيتخلصون من عدد من النواب التقليديين اللائقين. ولا أستطيع أن أرى كيف سيعود إلى الحزب التقليدي الذي فاز في الانتخابات وغيّر البلاد نحو الأفضل».
ثم هناك جوان رايان، النائبة المستقيلة، التي كانت ترأس حتى انشقاقها تجمع «أصدقاء إسرائيل العماليون»، إذ قالت بدورها إن الحزب بزعامة كوربن أصبح «مصاباً بآفة العنصرية المعادية لليهود». ويُذكر أن سلسلة الاستقالات الأخيرة جاءت بعد حملة انتقادات يتعرّض لها كوربن على خلفية طريقة معالجته قضية الاتهامات بمعاداة السامية داخل حزب العمال. كما سُلّط الضوء على تصريحات سابقة له أيد فيها حماس و«حزب الله» - الذي تتجه بريطانيا إلى حظره بالكامل -، إذ وصفهما بـ«الأصدقاء»، قبل أن يتراجع عن ذلك عام 2016.
في الجانب المقابل من النقاش، يعتبر أعضاء في حزب العمال أن هذه الاتهامات «مبالغ فيها» لأسباب سياسية. وهذا موقف دفع ثمنه النائب كريس ويليامسون، الذي عُلّقت عضويته في الحزب يوم الأربعاء الماضي، ويواجه تحقيقاً رغم تقديمه اعتذاراً علنياً. ويشاطر هذا الرأي مايك كوشمان، المتحدّث باسم «الصوت اليهودي في حزب العمال»، الذي قال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه لا ينفي وجود ظاهرة معاداة السامية داخل حزب العمال، لكنه يشكّك في كونها متفشية بشكل هيكلي وبحجم ضخم. ويضيف كوشمان أن «حزب العمال يواجه مشكلات كبرى، مثل الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد السود». وتابع: «جل الأدلة تشير إلى أنه كلما اتّجهنا نحو اليمين (السياسي)، تزايدت معاداة السامية»، متسائلا عن سبب كل هذا الاهتمام في الوقت الذي يواجه حزبه مشكلات كبرى.
كوشمان - وهو ناشط يهودي يساري - يُرجع المبالغة في التهم المتعلقة بمعاداة السامية في حزب العمال إلى ثلاثة عوامل رئيسية: الأول، يتعلّق بموقف بعض النواب العماليين في مجلس العموم الرافض لانتخاب كوربن زعيماً للحزب عام 2015، لعدد من الأسباب، أبرزها دعمه لحقوق الفلسطينيين، والثاني هو سياسات حزب المحافظين وحلفائه في الإعلام، التي تقوم على استخدام أي «سلاح متاح» لمهاجمة العمال، والثالث يتعلّق بـ«المدافعين عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية، والذين لا يريدون أن يتزعم منتقد لهذه الجرائم أكبر حزب في أوروبا الغربية».
ومن ثم، انتقد كوشمان الخلط بين انتقاد إسرائيل وسياساتها من جهة ومعاداة السامية من جهة أخرى، قائلا إنه لا يقبل فكرة أن «إسرائيل تتحدث باسم يهود العالم. فهي لا تتحدّث باسمي». واعتبر أنه ينبغي تحدّي الخطابات التي تساوي بين الدين اليهودي والصهيونية، لأن هناك فارقاً بين «اليهود والإسرائيليين والصهيونيين». وبينما أكد كوشمان أنه كان نفسه ضحية لمعاداة السامية، رأى أن اتهام شخص زوراً بمعاداة السامية، خاصة إن كان يهوديا، وخاصة إن صدر الاتهام من غير يهودي، «جارح بالقدر نفسه».
واعتبر كوشمان أن الخطر «الحقيقي والحالي ضد اليهود في بريطانيا ينبع من (جماعات) اليمين المتطرف، التي تهاجم اليهود كأفراد ويعتدون على ممتلكاتهم». وأضاف أنه مع صعود اليمين المتطرف في هذا البلد «يضع هاجس معاداة السامية في اليسار كل اليهود، بمن فيهم اليهود اليساريون، في خطر أكبر».
لا تنفي الامتدادات السياسية الخطر الحقيقي والمتصاعد لمعاداة السامية، إذ إن أحدث إحصاءات وزارة الداخلية البريطانية وجدت أن 52 في المائة من جرائم الكراهية المسجلة من 2017 إلى 2018 استهدفت المسلمين، ثم اليهود الذين استهدفوا بـ12 في المائة من الجرائم. وبدورها، وجدت دراسة نشرت نتائجها صحيفة «الغارديان» مطلع هذا العام أن البريطانيين يقومون بـ170 ألف بحث «معاد للسامية» على محرّك «غوغل» سنوياً، 10 في المائة من هذه الأبحاث تضمّنت عبارات مثل «يجب أن يموت اليهود» و«اقتلوا اليهود»، و«اليهود عنصريون وشريرون».
ومع تسجيل ارتفاع في مظاهر العنصرية ضد اليهود من هجمات جسدية إلى تغريدات معادية للسامية بدفع من صعود اليمين المتطرف وارتفاع سلوكيات معادية للسامية في اليسار، يتزايد الخلط بين جرائم الكراهية هذه وانتقاد إسرائيل وسياساتها. وبهذا الصدد، يقول كنعان مالك، الكاتب في صحيفة «الغارديان»، إن «ارتفاع معاداة السامية ترافق مؤخراً بخلط بين مفهوم معاداة الصهيونية من جهة والعنصرية ضد اليهود من جهة أخرى». وبينما يقر كنعان بأن «بعض السلوكيات المعادية لإسرائيل تحمل أحياناً في طياتها معاداة للسامية، لكن ينبغي التمييز بين الحالتين».
ويتفق كثيرون مع طرح كنعان، ويعتبرون أن معاداة السامية تعبّر عن السلوكيات والمشاعر العدائية والمتحيزة ضد اليهود. في حين تشير الصهيونية إلى حركة سياسية وآيديولوجية سعت لإنشاء دولة لليهود على أراضي فلسطين التاريخية.
وللجدل حول الخلط بين المفهومين تاريخ طويل، خاصة داخل حزب العمال الذي سبق أن علّق عضوية عمدة لندن الأسبق كين ليفينغستون، بعد سلسلة تعليقات عن إسرائيل، منها أن أدولف هتلر «كان مؤيداً للصهيونية قبل الهولوكست»، كما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي). ويرفض الداعون إلى عدم الخلط بين انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية ومعاداة السامية فكرة أن يتم استخدام كلمة «صهيوني» لمهاجمة اليهود ضمنا. كما يشيرون إلى أن الصهيونية مشروع سياسي يدعمه غير اليهود، أبرزهم المسيحيون الإنجيليون.
بدورها، وجدت دراسة نشرها «معهد أبحاث السياسة اليهودية» عام 2017، ومقره لندن، أن المشاعر المعادية لإسرائيل والمشاعر المعادية للسامية ليست بالضرورة مترابطة. واكتشفت الدراسة أن «السلوكيات المعادية لإسرائيل ليست، كقاعدة عامة، سلوكيات معادية للسامية». وتوضح أن «غالبية الأشخاص الذين يحملون سلوكيات تعادي إسرائيل ليسوا معادين للسامية»، مستدركة أن «هناك في الوقت نفسه أقلية كبيرة من الأشخاص الذين يحملون مشاعر معادية لإسرائيل ومعادية للسامية».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.