ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

شبيهة الأب... سفيرة الرياض لدى أهم دولة بالعالم

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات
TT

ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

حين تتكلّم ترسم مشهداً يذكّر بأبيها. ذلك السفير الاستثنائي لدى الولايات المتحدة، الذي ما زال حتى اليوم ينظر إليه كأحد ألمع سفراء العالم وأقواهم حضوراً في واشنطن.
هي كذلك، السيدة التي تعود إلى مرابع الصبا في واشنطن، حين كانت حاضرة توهج الأب، في ملاعب السياسة وحواضن صناعة القرار العالمي، في معنى أن يكون الوطن بارزاً في بلد آخر. كذلك تعود إلى موقع أكبر وأرفع مما كان لها إبان سنوات الدراسة في التسعينات الماضية، فهي اليوم تعود إلى العاصمة الأميركية حاملة معها ملفات مختلفة، في توقيت غير معتاد، كي تثبت أنها سفيرة «فوق العادة».
الجديد في تعيين الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة أمران؛ أن امرأة سعودية أصبحت لأول مرة سفيرة، وأن التوقيت يشير إلى أن الرياض ترى الأمور بشكل أعمق، وإن كانت واشنطن تعيش «غربلة» داخلية بين الكونغرس والبيت الأبيض وما بينهما.

ما يقرب من 90 سنة، هو عمر المملكة العربية السعودية، في صيغتها الثالثة. الدولة التي أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، والد ملوكها، تظهر فيها توالياً بين الفينة والأخرى، اتجاهات أبعد لمسيرة التحديث، غير أن الوتيرة أصبحت أكثر سرعة خلال 3 سنوات، حتى طوت السعودية ما كانت تُرمى به في قضايا هامشية جداً في مجال حقوق النساء.
السعودية دولة تتجه إلى التجديد، وصار من أهم عناوين حكم الملك سلمان بن عبد العزيز، توزير المستحق وتعيين الأكفأ. وهذا، مع العلم أن المعايير الملكية كانت دوماً ذات بنود مختلفة في اختيار وزرائها، فلا ترتبط بمن يثير حضوره في الساحة أصواتاً مرتفعة، بل تتجاوز ذلك لاختيار مَن يكون ذا اطلاع شامل على مجريات الأمور، وشُحذت خبرته في ملفات عدة.

حضور المرأة
اليوم، في كل قرار ملكي يصدر في السعودية، يتهيأ السعوديون والسعوديات، لتوقع أن تكون امرأة بين مَن تُتاح له فرصة الحضور في القرارات. ومن ثم، ما كان غريباً أن تُصدِر السعودية المتجدّدة اليوم قراراً بتعيين امرأة سفيرة لدى أقوى دولة في العالم. إلا أن ما كان لافتاً أن يأتي التعيين في زحام واشنطن.
لقد توقع كثيرون، منذ بعض الوقت، أن تُسنَد إلى المرأة السعودية مناصب قيادية عليا في ضوء ما تشهده البلاد من تطور وتغيير وتمكين. وبالفعل، هذا ما شهده السعوديون والسعوديات خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى أن بعضهن تقدم إلى المناصب العليا في كبريات المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ناهيك بالقطاع الخاص. وها هي اليوم، أهم عاصمة سياسية في العالم تتأهب للتعرف عن كثب على التغييرات السعودية، عندما تتسلم الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، رسمياً مهام منصبها الحساس سفيرة لبلادها في واشنطن.
الأميرة ريما شاهدة على التحولات، ورمز تعبير كبير، سيطل من أعلى منابر واشنطن للتأكيد على مرحلة التطوير والتقدم التاريخي في السعودية. وكانت الأميرة، الفتاة البكر للأمير بندر بن سلطان، من أبرز السعوديات وأنشطهن خلال السنوات الخمس الماضية، لا سيما في مجالات الأنشطة الاجتماعية والخيرية، حيث باتت تعد أبرز الدعائم المحفّزة للشباب السعودي، خصوصاً الإناث.
الأميرة ريما والدها الأمير بندر بن سلطان، وأمها هيفاء الفيصل أخت «عميد» الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل (رحمه الله). وبالتالي، فهي تحضر إلى سفارة بلادها في واشنطن، التي سبق أن تولاها والدها باقتدار قبلها، متمتعة بخلفية سياسية ودبلوماسية عائلية وعملية.

كفاءة علمية وعملية
للأميرة ريما تقاطعات ثقافية شاملة، فهي عاشت الحياة الغربية على الطريقة الأميركية وخبرتها، لكنها لا تزال تنطق بالأصالة السعودية، مع احترام وطنها وهويته وتقاليده، مع فهم وإدراك كبيرين لكل مراحل التغيرات فيه. ثم إنها، وإن تلقت تعليمها العالي، فحازت بكالوريوس الآداب (بتخصص الدراسات المتحفية) ومن كلية ماونت فيرنون بجامعة جورج واشنطن العريقة في العاصمة الأميركية، فإنها أيضاً عاشت جزءاً من مسيرتها العملية قبل صعودها التدريجي لتسنّم منصبها الدبلوماسي الرفيع، مستشارة في مكتب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث مطبخ السياسة الأكبر والصناعة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
لقد عملت الأميرة ريما وكيلة للتخطيط والتطوير في الهيئة العامة للرياضة عام 2016، وأصبحت أول امرأة تقود اتحاداً متعدد الرياضات في المملكة، من خلال منصبها رئيسة للاتحاد السعودي للرياضة المجتمعية. ويُذكر ضمن سجلّ إنجازات الأميرة عملها إلى جانب وزارة التعليم لتأسيس التعليم الرياضي للفتيات في المدارس، ومشاركة النساء في كثير من المنافسات الرياضية. وأيضاً سبق للأميرة ريما العمل في القطاع الخاص، وكان من المناصب التي تولتها الرئيس التنفيذي لشركة «ألفا إنترناشونال - هارفي نيكلز» في الرياض، وكانت ضمن قائمة مجلة «فاست كومباني» الأميركية للأشخاص الأكثر إبداعاً عام 2014. وكذلك سبق لها أن اختيرت ضمن قائمة مجلة «فوربس الشرق الأوسط» بين أقوى 200 امرأة عربية.
من ناحية ثانية، سيتاح للأميرة ريما من خلال هذا المنصب إكمال مسيرة من العمل الدبلوماسي الصعب والمعقّد توقيتاً وزخماً، الذي اضطلع به عدّة سفراء قبلها كلّهم من الرجال، من بينهم والدها الذي شغله لأكثر من 22 سنة، وآخرهم قبلها الأمير خالد بن سلمان الذي أسند إليه أخيراً منصب نائب وزير الدفاع. وكما هو معروف، يأتي تعيين الأميرة السفيرة، في مرحلة إعادة تفعيل العلاقة بين الحليفين القديمين، تكاد تكمل فترتها الأولى إبان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وهي تأتي بعد شبه فتور حملته سنوات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

تزخيم العلاقة الاستراتيجية
والحقيقة أن اختيار الأميرة ريما للمنصب يؤكد الخطى المتسارعة في عملية تفعيل العلاقة وفق الاستراتيجية التي رسمتها القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وسيكون أمام السفيرة فرصة إنجاز المهمة في طريق تعزيز الشراكة العتيقة بين الرياض وواشنطن، خصوصاً في قضايا الشرق الأوسط، وخصوصاً في تعاملها مع إيران والأزمة السورية. المراقبون السياسيون واثقون من سير العلاقات الثنائية على التطور مهما ظهر من تعقيدات، وهم يجزمون بأنها مستمرة ومثمرة، كون الحليفين القديمين اللاعبين الإقليمي والعالمي الأكثر تأثيراً في ملفات المنطقة، والقدرة على تغيير مجريات الأمور عبر الدبلوماسية الفعالة والاستقرار الاقتصادي.
أيضاً أمام الأميرة ريما فرصة تفعيل أكبر لمشروع «الشراكة الاستراتيجية الجديدة للقرن الحادي والعشرين». ولعل مشروع الشراكة الاستراتيجية للقرن الحالي بمنزلة القاعدة الرئيسية التي سيجري على أساسها بناء علاقات اقتصادية وتجارية جديدة أكثر إنتاجية بين البلدين. وستنطوي هذه العلاقات على مبادرات وتنويع اقتصادي وفق «رؤية السعودية 2030» الهادفة إلى تنويع المصادر والاستفادة من البنية البشرية والاقتصادية للبلاد وتخليص الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط.
وكانت هذه الخطة الاستراتيجية التي أعدتها الحكومة السعودية قد لاقت صداها الإيجابي في الدوائر الاقتصادية عالمياً.
وفي السياق نفسه، أثبتت الأحداث في مختلف الفترات الزمنية اهتماماً أميركياً بمواقف السعودية الثابتة. وهذا أيضاً يدفع المراقبين السياسيين لتوقع أن تكون المنطقة العربية مسرحاً يشهد دوراً فاعلاً لعلاقات أكثر تنسيقاً واستقراراً بين الرياض وواشنطن، لا سيما في ظل ما عاشته وتعيشه المنطقة - من الخليج إلى شمال أفريقيا - من انتفاضات وخضّات واستحقاقات، وظهور مقاربات وإطلالات تستوجب تنسيقاً مستمراً بين العاصمتين. وبطبيعة الحال، هناك أيضاً الواقع القائل إن واشنطن لديها مصالح حيوية في شؤون الطاقة والاقتصاد، وهنا لا غنى عن علاقات متميزة وتفاهم في العمق مع السعودية.

المشهد الأميركي الداخلي
وعلى صعيد متصل، كانت الأشهر الماضية قد اتسمت بنقاشات وسجالات داخل الكونغرس الأميركي، وفي الإعلام الأميركي أيضاً، ارتفعت فيه بعض الأصوات المشككة والسلبية. وكان منها من وصل إلى وضع علامات استفهام على شرعية دعم واشنطن للعمليات العسكرية، بل تعداه إلى نقاش بعض الأصوات المناهضة للرئيس الأميركي ترمب، حول جدوى الإصلاحات الاجتماعية في السعودية، لكن كل ذلك ربما أخذ وهجه في الانطفاء مع أن بعض الجمر ما زال في الموقد.
ولكن الأصوات عميقة التأثير في الكونغرس، ومعها كبار المقرّرين في وزارة الخارجية الأميركية، وكذلك وزارة الدفاع (البنتاغون)، ترى أن الرياض هي حجر الأساس.
وتعتبر أن العلاقة الاستراتيجية الجيدة تشكل ضمانة كبرى لواشنطن في الشرق الأوسط، وذلك من خلال النظر لأهمية السعودية في سوق الاقتصاد والطاقة واستقرار الاقتصاد العالمي من جهة، ومن جهة ثانية على صعيد الاستقرار السياسي والأمني في وجه تزايد طموحات الطامحين ومغامرات المتطرفين.
وبالفعل، يرى مراقبون في الرياض أن السعودية «لم تكن أبداً البادئة في الضغط على الزناد... وهي لكونها دولة ذات ثقل وتقاليد عريقة في الحكم والسياسة، لا تنزلق باتجاه الخوض في نقاشات عقيمة في مواضيع ذات شؤون داخلية للدول الأخرى». ويتابع أحدهم: «حالياً نلاحظ أن الولايات المتحدة تتبنى مواقف أكثر إيجابية مع التقدم السعودي الإصلاحي، بينما هناك مع الموقف الأميركي بشأن إيران».
وحقاً، توجد في أروقة القرار داخل واشنطن إيجابية تجاه السعودية يغذيها إيمان بأهميتها، حتى بين ساسة الحزب الديمقراطي، الذي يميل، مثل منافسه الحزب الجمهوري، إلى استمرار ريادة أميركا للدول في العالم. ولقد أظهرت المؤشرات أن بعض الديمقراطيين يقفون مع الرئيس الأميركي ترمب في موضوع الاتفاق النووي الإيراني، وذلك لأن المواجهة التي تريد طهران فرضها في المنطقة ليست دينية أو طائفية فحسب، بل مواجهة عالمية مفتوحة تمثل فيها الخير، بينما يمثل المتصدون لأطماعها، والرافضون قلاقلها، الشر.

تعرف... وتتكلم بلغة واحدة
من هنا تعرف الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان تفاصيل الحياة السياسية في واشنطن، وتأتي مع رحلة تحديث سعودية في كل اتجاه، ولها من المكانة في قضايا ومفاصل العمل الدبلوماسي الكثير. إنها سيدة تهتم بتطورات الحياة في بلادها، وصوت صادق يعي تداخل القضايا وعمق الحياة وأهميتها في تكوين قوة نفوذ في مؤسسات الولايات المتحدة.
إنها في الاتجاه ذاته اليوم، تركز على سعودية جديدة. وترى أن الاستثمار في رأس المال البشري والسماح للناس بالنمو والتعلم والتطور هو أحد أهم أوجه النمو الاقتصادي. وكانت قد قالت في أحد لقاءاتها: «نريد رؤية القطاع الدولي يجلب الخبرات ويعزز التطوير للأفراد الذين سيعملون في هذا القطاع... نحتاج الأدوات والموارد محلية وأجنبية. نحن بحاجة إلى النظر في انتشار الفئات العمرية».
الأميرة السفيرة تتحدث مع الجميع بلغة واحدة، وفق منطق «تعالوا وتحدثوا إلينا إذا أردتم مزيداً من المعلومات والتفاصيل. نحن مهتمون... نريد أفكاراً خارج الصندوق لأعمال غير تقليدية للبنية التحتية والصناعة ككل. نود أن نكون رائدين عالمياً».
فترة حيوية ستعيشها السفارة في واشنطن، لأن نسخة أخرى من بندر بن سلطان ستعود، أو ربما أكثر من ذلك. فـ«سيدة» السفارة أول سعودية بمرتبة وزير، وأول سفيرة، وفي أي مكان.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.