ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

شبيهة الأب... سفيرة الرياض لدى أهم دولة بالعالم

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات
TT

ريما بنت بندر بن سلطان... رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

ريما بنت بندر بن سلطان...  رمزٌ يعلن من واشنطن قدوم السعوديات

حين تتكلّم ترسم مشهداً يذكّر بأبيها. ذلك السفير الاستثنائي لدى الولايات المتحدة، الذي ما زال حتى اليوم ينظر إليه كأحد ألمع سفراء العالم وأقواهم حضوراً في واشنطن.
هي كذلك، السيدة التي تعود إلى مرابع الصبا في واشنطن، حين كانت حاضرة توهج الأب، في ملاعب السياسة وحواضن صناعة القرار العالمي، في معنى أن يكون الوطن بارزاً في بلد آخر. كذلك تعود إلى موقع أكبر وأرفع مما كان لها إبان سنوات الدراسة في التسعينات الماضية، فهي اليوم تعود إلى العاصمة الأميركية حاملة معها ملفات مختلفة، في توقيت غير معتاد، كي تثبت أنها سفيرة «فوق العادة».
الجديد في تعيين الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة أمران؛ أن امرأة سعودية أصبحت لأول مرة سفيرة، وأن التوقيت يشير إلى أن الرياض ترى الأمور بشكل أعمق، وإن كانت واشنطن تعيش «غربلة» داخلية بين الكونغرس والبيت الأبيض وما بينهما.

ما يقرب من 90 سنة، هو عمر المملكة العربية السعودية، في صيغتها الثالثة. الدولة التي أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، والد ملوكها، تظهر فيها توالياً بين الفينة والأخرى، اتجاهات أبعد لمسيرة التحديث، غير أن الوتيرة أصبحت أكثر سرعة خلال 3 سنوات، حتى طوت السعودية ما كانت تُرمى به في قضايا هامشية جداً في مجال حقوق النساء.
السعودية دولة تتجه إلى التجديد، وصار من أهم عناوين حكم الملك سلمان بن عبد العزيز، توزير المستحق وتعيين الأكفأ. وهذا، مع العلم أن المعايير الملكية كانت دوماً ذات بنود مختلفة في اختيار وزرائها، فلا ترتبط بمن يثير حضوره في الساحة أصواتاً مرتفعة، بل تتجاوز ذلك لاختيار مَن يكون ذا اطلاع شامل على مجريات الأمور، وشُحذت خبرته في ملفات عدة.

حضور المرأة
اليوم، في كل قرار ملكي يصدر في السعودية، يتهيأ السعوديون والسعوديات، لتوقع أن تكون امرأة بين مَن تُتاح له فرصة الحضور في القرارات. ومن ثم، ما كان غريباً أن تُصدِر السعودية المتجدّدة اليوم قراراً بتعيين امرأة سفيرة لدى أقوى دولة في العالم. إلا أن ما كان لافتاً أن يأتي التعيين في زحام واشنطن.
لقد توقع كثيرون، منذ بعض الوقت، أن تُسنَد إلى المرأة السعودية مناصب قيادية عليا في ضوء ما تشهده البلاد من تطور وتغيير وتمكين. وبالفعل، هذا ما شهده السعوديون والسعوديات خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى أن بعضهن تقدم إلى المناصب العليا في كبريات المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، ناهيك بالقطاع الخاص. وها هي اليوم، أهم عاصمة سياسية في العالم تتأهب للتعرف عن كثب على التغييرات السعودية، عندما تتسلم الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، رسمياً مهام منصبها الحساس سفيرة لبلادها في واشنطن.
الأميرة ريما شاهدة على التحولات، ورمز تعبير كبير، سيطل من أعلى منابر واشنطن للتأكيد على مرحلة التطوير والتقدم التاريخي في السعودية. وكانت الأميرة، الفتاة البكر للأمير بندر بن سلطان، من أبرز السعوديات وأنشطهن خلال السنوات الخمس الماضية، لا سيما في مجالات الأنشطة الاجتماعية والخيرية، حيث باتت تعد أبرز الدعائم المحفّزة للشباب السعودي، خصوصاً الإناث.
الأميرة ريما والدها الأمير بندر بن سلطان، وأمها هيفاء الفيصل أخت «عميد» الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل (رحمه الله). وبالتالي، فهي تحضر إلى سفارة بلادها في واشنطن، التي سبق أن تولاها والدها باقتدار قبلها، متمتعة بخلفية سياسية ودبلوماسية عائلية وعملية.

كفاءة علمية وعملية
للأميرة ريما تقاطعات ثقافية شاملة، فهي عاشت الحياة الغربية على الطريقة الأميركية وخبرتها، لكنها لا تزال تنطق بالأصالة السعودية، مع احترام وطنها وهويته وتقاليده، مع فهم وإدراك كبيرين لكل مراحل التغيرات فيه. ثم إنها، وإن تلقت تعليمها العالي، فحازت بكالوريوس الآداب (بتخصص الدراسات المتحفية) ومن كلية ماونت فيرنون بجامعة جورج واشنطن العريقة في العاصمة الأميركية، فإنها أيضاً عاشت جزءاً من مسيرتها العملية قبل صعودها التدريجي لتسنّم منصبها الدبلوماسي الرفيع، مستشارة في مكتب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث مطبخ السياسة الأكبر والصناعة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
لقد عملت الأميرة ريما وكيلة للتخطيط والتطوير في الهيئة العامة للرياضة عام 2016، وأصبحت أول امرأة تقود اتحاداً متعدد الرياضات في المملكة، من خلال منصبها رئيسة للاتحاد السعودي للرياضة المجتمعية. ويُذكر ضمن سجلّ إنجازات الأميرة عملها إلى جانب وزارة التعليم لتأسيس التعليم الرياضي للفتيات في المدارس، ومشاركة النساء في كثير من المنافسات الرياضية. وأيضاً سبق للأميرة ريما العمل في القطاع الخاص، وكان من المناصب التي تولتها الرئيس التنفيذي لشركة «ألفا إنترناشونال - هارفي نيكلز» في الرياض، وكانت ضمن قائمة مجلة «فاست كومباني» الأميركية للأشخاص الأكثر إبداعاً عام 2014. وكذلك سبق لها أن اختيرت ضمن قائمة مجلة «فوربس الشرق الأوسط» بين أقوى 200 امرأة عربية.
من ناحية ثانية، سيتاح للأميرة ريما من خلال هذا المنصب إكمال مسيرة من العمل الدبلوماسي الصعب والمعقّد توقيتاً وزخماً، الذي اضطلع به عدّة سفراء قبلها كلّهم من الرجال، من بينهم والدها الذي شغله لأكثر من 22 سنة، وآخرهم قبلها الأمير خالد بن سلمان الذي أسند إليه أخيراً منصب نائب وزير الدفاع. وكما هو معروف، يأتي تعيين الأميرة السفيرة، في مرحلة إعادة تفعيل العلاقة بين الحليفين القديمين، تكاد تكمل فترتها الأولى إبان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وهي تأتي بعد شبه فتور حملته سنوات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

تزخيم العلاقة الاستراتيجية
والحقيقة أن اختيار الأميرة ريما للمنصب يؤكد الخطى المتسارعة في عملية تفعيل العلاقة وفق الاستراتيجية التي رسمتها القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز.
وسيكون أمام السفيرة فرصة إنجاز المهمة في طريق تعزيز الشراكة العتيقة بين الرياض وواشنطن، خصوصاً في قضايا الشرق الأوسط، وخصوصاً في تعاملها مع إيران والأزمة السورية. المراقبون السياسيون واثقون من سير العلاقات الثنائية على التطور مهما ظهر من تعقيدات، وهم يجزمون بأنها مستمرة ومثمرة، كون الحليفين القديمين اللاعبين الإقليمي والعالمي الأكثر تأثيراً في ملفات المنطقة، والقدرة على تغيير مجريات الأمور عبر الدبلوماسية الفعالة والاستقرار الاقتصادي.
أيضاً أمام الأميرة ريما فرصة تفعيل أكبر لمشروع «الشراكة الاستراتيجية الجديدة للقرن الحادي والعشرين». ولعل مشروع الشراكة الاستراتيجية للقرن الحالي بمنزلة القاعدة الرئيسية التي سيجري على أساسها بناء علاقات اقتصادية وتجارية جديدة أكثر إنتاجية بين البلدين. وستنطوي هذه العلاقات على مبادرات وتنويع اقتصادي وفق «رؤية السعودية 2030» الهادفة إلى تنويع المصادر والاستفادة من البنية البشرية والاقتصادية للبلاد وتخليص الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط.
وكانت هذه الخطة الاستراتيجية التي أعدتها الحكومة السعودية قد لاقت صداها الإيجابي في الدوائر الاقتصادية عالمياً.
وفي السياق نفسه، أثبتت الأحداث في مختلف الفترات الزمنية اهتماماً أميركياً بمواقف السعودية الثابتة. وهذا أيضاً يدفع المراقبين السياسيين لتوقع أن تكون المنطقة العربية مسرحاً يشهد دوراً فاعلاً لعلاقات أكثر تنسيقاً واستقراراً بين الرياض وواشنطن، لا سيما في ظل ما عاشته وتعيشه المنطقة - من الخليج إلى شمال أفريقيا - من انتفاضات وخضّات واستحقاقات، وظهور مقاربات وإطلالات تستوجب تنسيقاً مستمراً بين العاصمتين. وبطبيعة الحال، هناك أيضاً الواقع القائل إن واشنطن لديها مصالح حيوية في شؤون الطاقة والاقتصاد، وهنا لا غنى عن علاقات متميزة وتفاهم في العمق مع السعودية.

المشهد الأميركي الداخلي
وعلى صعيد متصل، كانت الأشهر الماضية قد اتسمت بنقاشات وسجالات داخل الكونغرس الأميركي، وفي الإعلام الأميركي أيضاً، ارتفعت فيه بعض الأصوات المشككة والسلبية. وكان منها من وصل إلى وضع علامات استفهام على شرعية دعم واشنطن للعمليات العسكرية، بل تعداه إلى نقاش بعض الأصوات المناهضة للرئيس الأميركي ترمب، حول جدوى الإصلاحات الاجتماعية في السعودية، لكن كل ذلك ربما أخذ وهجه في الانطفاء مع أن بعض الجمر ما زال في الموقد.
ولكن الأصوات عميقة التأثير في الكونغرس، ومعها كبار المقرّرين في وزارة الخارجية الأميركية، وكذلك وزارة الدفاع (البنتاغون)، ترى أن الرياض هي حجر الأساس.
وتعتبر أن العلاقة الاستراتيجية الجيدة تشكل ضمانة كبرى لواشنطن في الشرق الأوسط، وذلك من خلال النظر لأهمية السعودية في سوق الاقتصاد والطاقة واستقرار الاقتصاد العالمي من جهة، ومن جهة ثانية على صعيد الاستقرار السياسي والأمني في وجه تزايد طموحات الطامحين ومغامرات المتطرفين.
وبالفعل، يرى مراقبون في الرياض أن السعودية «لم تكن أبداً البادئة في الضغط على الزناد... وهي لكونها دولة ذات ثقل وتقاليد عريقة في الحكم والسياسة، لا تنزلق باتجاه الخوض في نقاشات عقيمة في مواضيع ذات شؤون داخلية للدول الأخرى». ويتابع أحدهم: «حالياً نلاحظ أن الولايات المتحدة تتبنى مواقف أكثر إيجابية مع التقدم السعودي الإصلاحي، بينما هناك مع الموقف الأميركي بشأن إيران».
وحقاً، توجد في أروقة القرار داخل واشنطن إيجابية تجاه السعودية يغذيها إيمان بأهميتها، حتى بين ساسة الحزب الديمقراطي، الذي يميل، مثل منافسه الحزب الجمهوري، إلى استمرار ريادة أميركا للدول في العالم. ولقد أظهرت المؤشرات أن بعض الديمقراطيين يقفون مع الرئيس الأميركي ترمب في موضوع الاتفاق النووي الإيراني، وذلك لأن المواجهة التي تريد طهران فرضها في المنطقة ليست دينية أو طائفية فحسب، بل مواجهة عالمية مفتوحة تمثل فيها الخير، بينما يمثل المتصدون لأطماعها، والرافضون قلاقلها، الشر.

تعرف... وتتكلم بلغة واحدة
من هنا تعرف الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان تفاصيل الحياة السياسية في واشنطن، وتأتي مع رحلة تحديث سعودية في كل اتجاه، ولها من المكانة في قضايا ومفاصل العمل الدبلوماسي الكثير. إنها سيدة تهتم بتطورات الحياة في بلادها، وصوت صادق يعي تداخل القضايا وعمق الحياة وأهميتها في تكوين قوة نفوذ في مؤسسات الولايات المتحدة.
إنها في الاتجاه ذاته اليوم، تركز على سعودية جديدة. وترى أن الاستثمار في رأس المال البشري والسماح للناس بالنمو والتعلم والتطور هو أحد أهم أوجه النمو الاقتصادي. وكانت قد قالت في أحد لقاءاتها: «نريد رؤية القطاع الدولي يجلب الخبرات ويعزز التطوير للأفراد الذين سيعملون في هذا القطاع... نحتاج الأدوات والموارد محلية وأجنبية. نحن بحاجة إلى النظر في انتشار الفئات العمرية».
الأميرة السفيرة تتحدث مع الجميع بلغة واحدة، وفق منطق «تعالوا وتحدثوا إلينا إذا أردتم مزيداً من المعلومات والتفاصيل. نحن مهتمون... نريد أفكاراً خارج الصندوق لأعمال غير تقليدية للبنية التحتية والصناعة ككل. نود أن نكون رائدين عالمياً».
فترة حيوية ستعيشها السفارة في واشنطن، لأن نسخة أخرى من بندر بن سلطان ستعود، أو ربما أكثر من ذلك. فـ«سيدة» السفارة أول سعودية بمرتبة وزير، وأول سفيرة، وفي أي مكان.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».