ميلانو ترسم مستقبلها بخطوط من ماضيها

أربعة مصممين بريطانيين يُنعشون بيوتاً عريقة ويضخون فيها دماء شابة

من عرض «بوتيغا فينيتا»
من عرض «بوتيغا فينيتا»
TT

ميلانو ترسم مستقبلها بخطوط من ماضيها

من عرض «بوتيغا فينيتا»
من عرض «بوتيغا فينيتا»

منذ فترة وبيوت أزياء إيطالية كبيرة تعاني من الجمود، إلى حد أن البعض اتهمها بالهرم، بالنظر إلى أن أغلبية أصحاب هذه البيوت تعدوا الستين من العمر بسنوات إن لم نقل بعقود. من جيورجيو أرماني إلى روبرتو كافالي مرورا بفالنتينو غارافاني قبل تقاعده وغيرهم. كان لا بد من دماء جديدة تُنعش هذه البيوت وتضخ فيها بعض الحيوية. وبالفعل لم يُقصر المؤسسون في هذا المجال. فجيورجيو أرماني يرعى عدة برامج تدعم الشباب، بينما سلم آخرون المشعل لجيل جديد من المصممين.
بعضهم ركز على أبناء جلدتهم، مثل داري «فالنتينو» التي أناطت المهمة ببير باولو بيكيولي و«غوتشي» بأليساندرو ميكيلي، وبالفعل لم يخيب أي منهما الآمال، لا من الناحية الفنية أو من الناحية التجارية بالنظر إلى ما يحققانه من نجاحات. بعضهم الآخر أختار أسماء بريطانية شابة لهذه المهمة، مثل «سالفاتوري فيراغامو» التي عينت بول أندرو، و«روبرتو كافالي» التي عينت بول ساريدج، و«بوتيغا فينينتا» دانييل لي، و«ماكس مارا» إيان غيريفنز. وكانت النتيجة خلال أسبوع ميلانو لخريف وشتاء 2019 الذي انتهى مؤخرا، مثيرة بنكهتها البريطانية الخفيفة، التي أكد فيها كل هؤلاء المصممين أنهم لا يعيشون بـ«ثقافة الجزيرة» وبأنهم منفتحون على العالم وقادرون على التأقلم بسهولة.
لا يختلف اثنان أن التحدي أمامهم كان كبيرا. فالإيطاليون معروف عنهم تعصبهم للحرفية وإلى التقاليد القديمة، وهذا يعني أنه كان على كل واحد منهم المحافظة على إرث عريق وفي الوقت ذاته إضافة جرعة شبابية وديناميكية تفرضها متطلبات السوق.
بول أندرو تحديدا كان عليه أن يحمل على أكتافه إرثا تم تجميعه على مدى قرن من الزمن تقريبا في دار «سالفاتوري فيراغامو» التي تأسست في عام 1923، لم يكن هو النجم الوحيد في العرض. فبحكم أن الدار تأسست على تصميم الأحذية، فإن مصممها الخاص بهذا الجانب غيوم مياند كان له دور في هذه العملية الصعبة. انتبه بول أندرو سريعا أن عنصر مهم في مهمته هي أن «يُوحد الرؤية» حسب قوله حتى تكتسب الصورة تسلسلا وسلاسة، وهذا ما كان. قال أيضا إنه استلهم تشكيلته، من حذاء قديم. حذاء صممه المؤسس في عام 1942 وكان بمثابة ثورة في ذلك الزمن حيث استعمل فيه جلد الشامواه وتقنية الباتشوورك وألوان قوس قزح. أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان مثيرا وجريئا في ذلك العهد. الأهم من هذا أنه يقول الكثير عن المرأة التي تم تصميمه لها في القرن الماضي. فمن الواضح أنها واثقة لا تخاف الألوان الزاهية بقدر ما ترفض الصورة النمطية وأن تكون عادية. وهذا ما تحديدا ما التقطه المصمم الشاب، وصاغه في أزياء لعبت فيها الجلود دورا مهما إلى جانب الألوان والتقنيات التقليدية والحديثة على حد سواء، فضلا عن نقشات أخذها من الأرشيف وتجلت كرُقع حديثة على الحرير المضلع. استغل إمكانات الدار وما تتوفر عليه من جلود وتقنيات في تطويعها لتكتسب خفة الحرير؛ حيث ظهرت إطلالات كاملة من الجلد الناعم، شملت معاطف بأحزمة وأخرى بقلنسوات تتسم بأسلوب رياضي، إلى جانب استعماله السخي للصوف الياباني والكشمير. لم ينس أن المرأة الناضجة زبونة مهمة ووفية للدار، لكنه لم ينس أيضا أن عليه أن يجذب زبونات شابات، لهذا كانت هناك الكثير من الفساتين المنسدلة والخفيفة إلى جانب التايورات المفصلة، في محاولة ذكية للجمع بين الأجيال، وكذلك الجمع بين القوة والشاعرية. كان للرجل أيضا مجموعة مهمة في هذه التشكيلة، وراعى فيها المصمم هي الأخرى كل الأذواق. ففيها ما يُلبي متطلبات رجل يمضي أوقاته بين أحضان الطبيعة، من خلال السترات والمعاطف المصممة من جلد الأيل والقماش المخملي المضلّع وقماش الجبردين، ومنها ما يلبي حاجة رجل أعمال، من خلال بدلات مفصلة، بعضها بأسلوب رياضي تغلب عليه الأكتاف الناعمة وجيوب عريضة على الصدر، بأقمشة بريطانية وإيطالية تقليدية.
في دار «روبرتو كافالي»، اجتهد المصمم البريطاني بول ساريدج بدوره أن يُلمع ماضيها ويعيده إلى الواجهة بشكل جديد. غاص في الأرشيف وتلاعب ببعض الرموز التقليدية فيما بدأ وكأنه تحية للمؤسس، لكن لحسن الحظ، لم يغرق في الحنين إلى الماضي. لم يغرف من رموزه بنهم، لأنه، وكما قال، كان واعيا أن مهمته هي التذكير بمجد الماضي وليس العودة إليه. من هذا المنظور كانت نقوش النمر والفهد التي اشتهرت بها الدار حاضرة في الأزياء النسائية والرجالية على حد سواء، لكن بألوان مثل الفوشيا والأزرق وما شابههما من ألوان أخرى ونقشات كلها تصرخ بالرفض أن تبقى لصيقة بامرأة أو رجل فاتهما قطار الموضة.
ربما يكون عرض «بوتيغا فينيتا» هو الأكثر إثارة للانتباه خلال أسبوع ميلانو. انتظره عشاق الموضة على أحر من الجمر لعدة أسباب. أولها أن المصمم البريطاني دانيال لي تخرج من معهد «سانترال سانت مارتن» الشهير، وثانيا عمل مع عدة بيوت أزياء عالمية أكد فيها قدراته. ثالثا، وهذا هو الأهم، كان اليد اليمنى لمصممة «سيلين» فيبي فيلو السابقة، وبالتالي كانت شريحة كبير تأمل أن يأتي ما يقدمه نسخة عن أسلوبه في الدار الفرنسية، حتى يأخذهم إلى زمن فيبي فيلو بعد أن ألغى المصمم هادي سليمان الكثير من شخصيتها وبصماتها في عرضه الأخير. أمر أثار حفيظتهم وغضبهم عليه. فبالنسبة لهم لم يكن أسلوبها موضة أو مجرد أزياء بقدر ما كان هوية تعكس شخصيتهن ونضجهن الثقافي والفكري من خلال تصاميم هندسية وألوان تتسم ببرودة أعصاب لا يتقنها سواها. لكن دانييل لي لم يقع في المطب. لم يكن ما قدمه لـ«بوتيغا فينيتا» مطبوعا بأسلوب «سيلين»، على الأقل ليس بشكل واضح، ربما لأنه كان مُدركا لهذه التوقعات وخائفا من المقارنات. في المقابل، تعمد الابتعاد عما كان متوقعا منه وعانق رموز الدار الإيطالية التي التحق بها منذ عام تقريبا. والنتيجة كانت تشكيلة تشعر بأنها إيطالية الأناقة لكن خفيفة الروح فيها جُرأة وبعض الشقاوة البريطانية. كانت هناك الكثير من الإطلالات بياقات مفتوحة قال إنه استلهمها من لوحات تجسد عصر النهضة الإيطالية، لأن هذا الجزء من الجسد «هو الذي لا تشعر المرأة بالحرج عند إبرازه في أي مرحلة من عمرها»، لكن كانت هناك الكثير من الخامات المترفة وخاصة الجلود، بحكم أن الدار، مثل «سالفاتوري فيراغامو»، قامت على الإكسسوارات بداية.
أما في العرض الذي قدمه البريطاني إيان غيرفيثز لدار «ماكس مارا» فكانت الصورة مختلفة. ربما تكون تجارية أكثر لكنها كانت تثير الابتسام والسعادة في النفوس. منبع هذه السعادة أنها ذكرتنا نوعا ما بعروض الراحل جياني فرساتشي في الثمانينات، حين كانت العارضات السوبر يمشين على المنصة ثلاث أو رُباع، بابتسامات واسعة وخطى واثقة ولسان حالهن يقول بأن لا شيء مستحيل في الحياة وأنهن مستعدات لمواجهة كل تحدياتها بالأناقة. كان يؤمن مثل غيره بأن الإبهار فعلا يُحرر المرأة ويمنحها القوة. فيما عدا هذا، كانت الصورة التي التقطها إيان غريفيثز، عصرية بكل عناصرها وتفاصيلها الأخرى. فقد أثبت المصمم منذ انضمامه للدار أنه يعرف من هي زبونتها، وبأي قطعة سيُرضيها، لهذا كان المعطف هو البطل بلا منازع. قد يأخذ أشكالا مختلفة وألوانا متنوعة لكنه يبقى أنيقا ولافتا يُغني المرأة عن أي قطعة أخرى في الموسمين المقبلين. ما زاد من قوة الصورة ودراميتها أنه استعمل لونا واحدا في إطلالة كاملة، قد تشمل بنطلونا أو تنورة مع كنزة وحذاء عالي الرقبة. كان الهدف خلق تأثير درامي بلون واحد وبدرجات متقاربة عوض تكسيرها أو التخفيف منها، لا سيما أنها كما أثبت صورة «تحيي» ولا تميت. ورغم أن اللون البيج الجملي المرتبط بالدار غالبا، إلا أنه أدخل درجات أخرى منه إلى جانب ألوان قوس قزح المتوهجة مثل الأزرق والفوشيا وغيرها، وهو ما شكل مفاجأة في غاية الجمال.
> عرض «فندي»... رسالة حب لكارل لاغرفيلد
> كان متوقعاً وطبيعياً أن يتحول عرض «فندي» إلى احتفال حزين؛ فقد كان آخر تشكيلة أشرف كارل لاغرفيلد على تصميمها قبل رحيله في الأسبوع الماضي. فرغم أن اسم المصمم اشتهر أكثر مع «شانيل»، فإن قصته مع دار «فندي» تعدّ من «أطول قصص الحب»؛ حسب قول سيلفيا فندي. قصة عمرها 54 عاماً، بدأت عندما كان شاباً، ولم تخبُ شعلتها إلا بموته. وأكدت سيلفيا، سليلة العائلة المؤسسة وهي أيضاً صديقته وزميلته في العمل، أنه أشرف على كل تفاصيلها، بدءاً من رسم الاسكيتشات إلى اختيار الخامات والألوان. وأضافت أن آخر ما تتذكره قبل موته بأيام قليلة مكالمتهما معاً التي كان شغله الشاغل فيها أن «تكون التشكيلة غنية وجميلة». لهذا كان العرض لكل من تابعه بمثابة الفصل الأخير من قصة رومانسية. لم يكن مأتماً حزيناً، وبالتالي لم يكن ضرورياً أن يتذكر الضيوف محاسنه أو أن يذكروها، لأنه كان حاضراً معهم طوال الـ15 دقيقة، وهي مدة عرض شاركت فيه مجموعة من عارضاته المفضلات مثل كايا غيربر وجيجي حديد... وغيرهما. بعد نهاية العرض ذكرت سيلفيا فندي أنه كان رسالة حب، مضيفة أن «علاقته مع (فندي) أطول من قصة حب، لأنها ستستمر للأبد».
وكان المصمم قد التحق بالدار الإيطالية في عام 1965، وعمل مع كل أفراد العائلة التي كانت مؤلفة من 5 أخوات، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى مجموعة «إل في آم آش». طوال هذا الوقت كانت له بطاقة بيضاء يتصرف بموجبها بحرية وبعقد بلا نهاية، وهو ما يمكن القول إنه فريد من نوعه في عالم الموضة. لهذا فإن فقدانه بالنسبة لسيلفيا التي عملت معه لـ24 عاماً بمثابة فقدان فرد من أفراد العائلة.
من ناحية ما تم عرضه من تصاميم، فإن كل شيء فيها يشير إلى أن المصمم كان يعرف أنها ستكون آخر تشكيلة له، بعد أن اشتد عليه المرض، لهذا صب فيها كل ما يملكه من قوة. أول مجموعة تميزت بياقات مربوطة على العنق، تلتها مجموعة بأكتاف محددة، ثم أخرى مزينة بالفرو عند الحواشي، وطبعاً كان هناك كثير من الجلود المقطعة بالليزر. وطبعاً لم يرد أن يُنهي هذا الفصل من حياته من دون أن يترك أثره مطبوعاً عليها، من خلال لوغو كان قد صممه في عام 1981 ظهر في كثير من الأزرار والنقشات. لكن الموضة لم تكن بحاجة إلى هذا اللوغو لكي تتذكره.


مقالات ذات صلة

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة أبدعت فيها «ديور» والمغنية لايدي غاغا في أولمبياد باريس (غيتي)

2024... عام التحديات

إلى جانب الاضطرابات السياسية والاقتصادية، فإن عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض لا تُطمئن صناع الموضة بقدر ما تزيد من قلقهم وتسابقهم لاتخاذ قرارات استباقية.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة ماثيو بلايزي مصمم «بوتيغا فينيتا» سابقاً (غيتي)

2024...عام الإقالات والتعيينات

تغييرات كثيرة شهدتها ساحة الموضة هذا العام، كانت من بينها إقالات واستقالات، وبالنتيجة تعيينات جديدة نذكر منها:

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)

الجينز الياباني... طرق تصنيعه تقليدية وأنواله هشة لكن تكلفته غالية

على الرغم من تعقيد الآلات المستعملة لصنعه، فإن نسيجه يستحق العناء، ويتحول إلى قماش ناعم جداً بمجرّد تحويله إلى سروال جينز.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
TT

الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)

في عالم الموضة هناك حقائق ثابتة، واحدة منها أن حلول عام جديد يتطلب أزياء تعكس الأمنيات والآمال وتحتضن الجديد، وهذا يعني التخلص من أي شيء قديم لم يعد له مكان في حياتك أو في خزانتك، واستبدال كل ما يعكس الرغبة في التغيير به، وترقب ما هو آتٍ بإيجابية وتفاؤل.

جولة سريعة في أسواق الموضة والمحال الكبيرة تؤكد أن المسألة ليست تجارية فحسب. هي أيضاً متنفس لامرأة تأمل أن تطوي صفحة عام لم يكن على هواها.

اقترح المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 قطعاً متنوعة كان فيها التول أساسياً (رامي علي)

بالنسبة للبعض الآخر، فإن هذه المناسبة فرصتهن للتخفف من بعض القيود وتبني أسلوب مختلف عما تعودن عليه. المتحفظة التي تخاف من لفت الانتباه –مثلاً- يمكن أن تُدخِل بعض الترتر وأحجار الكريستال أو الألوان المتوهجة على أزيائها أو إكسسواراتها، بينما تستكشف الجريئة جانبها الهادئ، حتى تخلق توازناً يشمل مظهرها الخارجي وحياتها في الوقت ذاته.

كل شيء جائز ومقبول. المهم بالنسبة لخبراء الموضة أن تختار قطعاً تتعدى المناسبة نفسها. ففي وقت يعاني فيه كثير من الناس من وطأة الغلاء المعيشي، فإن الأزياء التي تميل إلى الجرأة والحداثة اللافتة لا تدوم لأكثر من موسم. إن لم تُصب بالملل، يصعب تكرارها إلا إذا كانت صاحبتها تتقن فنون التنسيق. من هذا المنظور، يُفضَّل الاستثمار في تصاميم عصرية من دون مبالغات، حتى يبقى ثمنها فيها.

مع أن المخمل لا يحتاج إلى إضافات فإن إيلي صعب تفنن في تطريزه لخريف وشتاء 2024 (إيلي صعب)

المصممون وبيوت الأزياء يبدأون بمغازلتها بكل البهارات المغرية، منذ بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) تقريباً، تمهيداً لشهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول). فهم يعرفون أن قابليتها للتسوق تزيد في هذا التوقيت. ما يشفع لهم في سخائهم المبالغ فيه أحياناً، من ناحية الإغراق في كل ما يبرُق، أن اقتراحاتهم متنوعة وكثيرة، تتباين بين الفساتين المنسدلة أو الهندسية وبين القطع المنفصلة التي يمكن تنسيقها حسب الذوق الخاص، بما فيها التايورات المفصلة بسترات مستوحاة من التوكسيدو أو كنزات صوفية مطرزة.

بالنسبة للألوان، فإن الأسود يبقى سيد الألوان مهما تغيرت المواسم والفصول، يليه الأحمر العنابي، أحد أهم الألوان هذا الموسم، إضافة إلى ألوان المعادن، مثل الذهبي أو الفضي.

المخمل كان قوياً في عرض إيلي صعب لخريف وشتاء 2024... قدمه في فساتين وكابات للرجل والمرأة (إيلي صعب)

ضمن هذه الخلطة المثيرة من الألوان والتصاميم، تبرز الأقمشة عنصراً أساسياً. فكما الفصول والمناسبات تتغير، كذلك الأقمشة التي تتباين بين الصوف والجلد اللذين دخلا مناسبات السهرة والمساء، بعد أن خضعا لتقنيات متطورة جعلتهما بملمس الحرير وخفته، وبين أقمشة أخرى أكثر التصاقاً بالأفراح والاحتفالات المسائية تاريخياً، مثل التول والموسلين والحرير والمخمل والبروكار. التول والمخمل تحديداً يُسجِّلان في المواسم الأخيرة حضوراً لافتاً، سواء استُعمل كل واحد منهما وحده، أو مُزجا بعضهما ببعض. الفكرة هنا هي اللعب على السميك والشفاف، وإن أتقن المصممون فنون التمويه على شفافية التول، باستعماله في كشاكش كثيرة، أو كأرضية يطرزون عليها وروداً وفراشات.

التول:

التول كما ظهر في تشكيلة المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 (رامي علي)

لا يختلف اثنان على أنه من الأقمشة التي تصرخ بالأنوثة، والأكثر ارتباطاً بالأفراح والليالي الملاح. ظل طويلاً لصيقاً بفساتين الزفاف والطرحات وبأزياء راقصات الباليه، إلا أنه الآن يرتبط بكل ما هو رومانسي وأثيري.

شهد هذا القماش قوته في عروض الأزياء في عام 2018، على يد مصممين من أمثال: إيلي صعب، وجيامباتيستا فالي، وسيمون روشا، وهلم جرا، من أسماء بيوت الأزياء الكبيرة. لكن قبل هذا التاريخ، اكتسب التول شعبية لا يستهان بها في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعدد من الأسباب مهَّدت اختراقه عالم الموضة المعاصرة، على رأسها ظهور النجمة الراحلة غرايس كيلي بفستان بتنورة مستديرة من التول، في فيلم «النافذة الخلفية» الصادر في عام 1954، شد الانتباه ونال الإعجاب. طبقاته المتعددة موَّهت على شفافيته وأخفت الكثير، وفي الوقت ذاته سلَّطت الضوء على نعومته وأنوثته.

التول حاضر دائماً في تشكيلات المصمم إيلي صعب خصوصاً في خط الـ«هوت كوتور» (إيلي صعب)

منذ ذلك الحين تفتحت عيون صناع الموضة عليه أكثر، لتزيد بعد صدور السلسلة التلفزيونية الناجحة «سيكس أند ذي سيتي» بعد ظهور «كاري برادشو»، الشخصية التي أدتها الممثلة سارة جيسيكا باركر، بتنورة بكشاكش وهي تتجول بها في شوارع نيويورك في عز النهار. كان هذا هو أول خروج مهم لها من المناسبات المسائية المهمة. كانت إطلالة مثيرة وأيقونية شجعت المصممين على إدخاله في تصاميمهم بجرأة أكبر. حتى المصمم جيامباتيستا فالي الذي يمكن وصفه بملك التول، أدخله في أزياء النهار في تشكيلته من خط الـ«هوت كوتور» لعام 2015.

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» استعملت فيها ماريا غراتزيا تشيوري التول كأرضية طرزتها بالورود (ديور)

ما حققه من نجاح جعل بقية المصممين يحذون حذوه، بمن فيهم ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور» التي ما إن دخلت الدار بوصفها أول مصممة من الجنس اللطيف في عام 2016، حتى بدأت تنثره يميناً وشمالاً. تارة في فساتين طويلة، وتارة في تنورات شفافة. استعملته بسخاء وهي ترفع شعار النسوية وليس الأنوثة. كان هدفها استقطاب جيل الشابات. منحتهن اقتراحات مبتكرة عن كيفية تنسيقه مع قطع «سبور» ونجحت فعلاً في استقطابهن.

المخمل

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» اجتمع فيها المخمل والتول معاً (ديور)

كما خرج التول من عباءة الأعراس والمناسبات الكبيرة، كذلك المخمل خرج عن طوع الطبقات المخملية إلى شوارع الموضة وزبائن من كل الفئات.

منذ فترة وهو يغازل الموضة العصرية. في العام الماضي، اقترحه كثير من المصممين في قطع خطفت الأضواء من أقمشة أخرى. بملمسه الناعم وانسداله وألوانه الغنية، أصبح خير رفيق للمرأة في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الدفء والأناقة. فهو حتى الآن أفضل ما يناسب الأمسيات الشتوية في أوروبا وأميركا، وحالياً يناسب حتى منطقة الشرق الأوسط، لما اكتسبه من مرونة وخفة. أما من الناحية الجمالية، فهو يخلق تماوجاً وانعكاسات ضوئية رائعة مع كل حركة أو خطوة.

تشرح الدكتورة كيمبرلي كريسمان كامبل، وهي مؤرخة موضة، أنه «كان واحداً من أغلى الأنسجة تاريخياً، إلى حد أن قوانين صارمة نُصَّت لمنع الطبقات الوسطى والمتدنية من استعماله في القرون الوسطى». ظل لقرون حكراً على الطبقات المخملية والأثرياء، ولم يُتخفف من هذه القوانين إلا بعد الثورة الصناعية. ورغم ذلك بقي محافظاً على إيحاءاته النخبوية حتى السبعينات من القرن الماضي. كانت هذه هي الحقبة التي شهدت انتشاره بين الهيبيز والمغنين، ومنهم تسلل إلى ثقافة الشارع.

يأتي المخمل بألوان غنية تعكس الضوء وهذه واحدة من ميزاته الكثيرة (إيلي صعب)

أما نهضته الذهبية الأخيرة فيعيدها الخبراء إلى جائحة «كورونا»، وما ولَّدته من رغبة في كل ما يمنح الراحة. في عام 2020 تفوَّق بمرونته وما يمنحه من إحساس بالفخامة والأناقة على بقية الأنسجة، وكان الأكثر استعمالاً في الأزياء المنزلية التي يمكن استعمالها أيضاً في المشاوير العادية. الآن هو بخفة الريش، وأكثر نعومة وانسدالاً بفضل التقنيات الحديثة، وهو ما جعل كثيراً من المصممين يسهبون فيه في تشكيلاتهم لخريف وشتاء 2024، مثل إيلي صعب الذي طوعه في فساتين و«كابات» فخمة طرَّز بعضها لمزيد من الفخامة.

من اقتراحات «سكاباريللي» (سكاباريللي)

أما «بالمان» وبرابال غورانغ و«موغلر» و«سكاباريللي» وغيرهم كُثر، فبرهنوا على أن تنسيق جاكيت من المخمل مع بنطلون جينز وقميص من الحرير، يضخه بحداثة وديناميكية لا مثيل لها، وبان جاكيت، أو سترة مستوحاة من التوكسيدو، مع بنطلون كلاسيكي بسيط، يمكن أن ترتقي بالإطلالة تماماً وتنقلها إلى أي مناسبة مهمة. الشرط الوحيد أن يكون بنوعية جيدة حتى لا يسقط في خانة الابتذال.