الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

صبحي شحاتة يقدم رواية حمالة أوجه وأقنعة

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء
TT

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

الحب كلعبة بين الفقراء والأغنياء

يهدي صبحي شحاتة روايته «الحب»، الصادرة حديثاً عن دار «بدائل» بالقاهرة، إلى أم كلثوم «ثومة»، مسلطاً الضوء على هذا الكائن الخرافي منذ لحظة ميلاده وحتى أفوله، وفي لعبة سردية شيقة، تختلط فيها الفانتازيا بالسخرية، الفكاهة بالخرافة والأسطورة، الدعابة بروح المرح والتنكيت.
وتبرز المخيلة الشعبية في بداهتها الخام، كعين أخرى، تراقب وتعلِّق على المشاهد والحالات، من خلال أغاني الحب الشهيرة، والحكم والأمثال الشعبية والأشعار التي تتغنى بالحب، وتتقاطع مع فصول الرواية، كأنها تلخيص لما آلت إليه مصائر الشخوص وحكايتها داخل اللعبة وخارجها أيضاً.
رواية حمالة أوجه وأقنعة، تخفي تحت قشرتها دهاءً أدبياً، تعززه ثقافة واسعة ولغة سلسة مغوية، معجونة بطينة الواقع ومفارقاته، وتملك الذات الساردة قدرة فائقة على وصف الأشياء والوقائع والأحداث والنفاذ إلى ما وراءها، في لعبة لا توازن فيها عاطفياً وإنسانياً، بين الغني والفقر، الحب والكره، الحرمان والشبع، الأصل والقناع... وغيرها من المفارقات التي توسع دائرة الأضداد في مسيرة بشر يعيشون تحت سقف حياة عارية، إلا من الرغبة في الحب والشغف به كطوق نجاة من الفقر والجوع، بل من مباغتات القدر وتطوحات النفس البشرية، حين توهمك بأنك تملك كل شيء.
ربما لذلك يؤمن صبحي شحاتة بمقولة المفكر الفرنسي جيل دولوز الأثيرة: «إن الفعل البشري (فعل الوجود) نصفه للقدر ونصفه للإنسان وفطنته». بل بوعي ضمني من دولوز أحد عشاق نيتشه ومنتقديه، جعل صبحي من حرية الاختلاف والدفاع عنها، حجر الزاوية لفضاء رؤيته في هذه الرواية، هذه الحرية التي شكلت محوراً مهماً في أفكار دولوز وفلسفته، فأن تكتب معنى ذلك أنك تبدع شيئاً، أو على الأقل تحس أن لديك جديداً ينبع من داخلك ويميزك عن الآخرين، حتى تحت وطأة الحيرة والإحساس باللايقين، اللاخصوصية، اللامبالاة، والفوضى إلى حد العدم، والشك حتى في وجودك نفسه.
بدافع من هذا الوعي الضمني يبرز محور دال ومركزي في هذه الرواية، وهو الوجود البديل للأصل. فجوهر الحياة يكمن في كونها وجوداً متغيراً، بالضرورة، قابلاً للعيش بطرق وبدائل متعددة، كما أن هذا الجوهر الثابت المتغير معرض للضمور والذبول والموات، ما لم تتوفر بدائل وأشكال من الممارسة، تمنحه القدرة على التغيير، والانطلاق من نقطة الثبات إلى الحركة، والعكس أيضاً.
في لعبة الحب، كما في الرواية، يفرض الوجود البديل التقمصَ ليس كقناع للاختباء، وإنما محاولة لاكتساب حيوات وصفات وملامح ورتوش جديدة تجعل من فعل التقمص نفسه عابراً للزمان والمكان، صانعة نوعاً من التماهي، ولو بالوهم، بين الوجود بالفعل الأصلي المتروك، وبين الوجود الجديد المكتسب بالقوة، فالتقمص حلقة وصل وفصل بينهما، في الوقت نفسه... وفنياً يوفر التقمص للكاتب غطاءً سردياً، ليكون خارج نصه وداخله أيضاً، ما يمنح شخوصه قدراً من الاستقلالية والاختلاف، فلا يخلط بين صوته وأصواتها ولا بين أحلامه وأحلامها، محتفظاً بهويته الفنية، وممسكاً بخيوط وزاويا اللعبة، يحركها من خلف فعل القص، كصانع ومخرج لها، حتى وهو يروي عنها أو يحكي بلسان أبطالها، أو يشتبك معهم فكرياً ونفسياً، أو حين يتم تبديل دفة الضمائر لكسر تقنية المخاطب الغالبة على نسق السرد، وتنويعها، لتداخل الضمائر في نسيجها الضمائر، وتتقلب ما بين الأنا المتكلم الحاضر والغائب، والمفرد والجمع. لا يهدف الكاتب من وراء كل هذا لإبراز مهارته الفنية فحسب، بل ليضفي على الوجود البديل شرعية وواقعية، ويقنعنا بصدقية ما يحدث بالفعل.
يجسد «المانيكان» الشاب بطل الرواية ابن الحارة الشعبية الفقيرة نمط الوجود البديل للأصل، الذي يجسده الشاب الثري ابن الملياردير الوزير، صاحب النفوذ والجاه والسلطة، وتكشف الرواية عن مفارقات شاسعة ونقاط مشتركة بينهما في النظر إلى الحياة والوجود، فثمة حالة من الوجود بالتضايف، بين طرفين نقيضين، أحدهما يمثل نعيم السفح حيث الرفاهية والقوة وسطوة المال، والآخر يمثل حضيض السطح، حيث العدم والخواء، لكن في اللعبة وعلى السطح، توحدهما لحظات من اللهو والدعة العابرة الهشة، فكلاهما يضمر إعجاباً بالآخر، ويتعامل معه أحياناً كقرين، يمثل البعد عنه خسارة فادحة للطرفين وتهديداً لوجوده.
يعزز ذلك ثقافة «المانيكان» وحبه للرقص والفن، ورؤيته العدمية للوجود، التي تنعكس على كتاباته الروائية والقصصية حبيسة الإدراج، لكنها مع ذلك تجذب الشاب الثري «المحفظة»، وتجعله يلتصق به كظله.
يعلق الشاب «المانيكان» على ذلك في مشهد نافذ الدلالة بعد أن اجتاز ببراعة، وللمرة الثالثة، عملية اختيار الملابس لصديقه الشاب «المحفظة» (كناية عن الثراء الفحش) من محل فخيم بالمول، معرياً جسده ببراءة وتلقائية للفتيات الجميلات العاملات، حتى أنه يرقص مع إحداهن، بعد أن يلاحظ انجذابها الشديد إليه، وكأنها تعرفه، بل كأن سراً ما بينهما يجهله، لكنه يسري في دمه... يقول «المانيكان» مسائلاً نفسه في نجوى داخلية موجعة ص (35 و36): «تتجول قفزاً بلا هدف كعفريت في مغارته حقاً، والملابس تترى على جسدك بكل الأشكال والألوان والصور، هل هذه الصور تحاكي صاحبك فيك، أم مجرد مجاز لصاحبك، أم العكس، هو مجاز لك بفلوسه، وأنت من تختار له القناع المناسب، تفرض عليه ذوقك».
بهذه الروح والنزوع الفردي الجواني ينمي الكاتب خيوط لعبته، ويشدها درامياً إلى مصائر ومسارات إنسانية تتشكل في أطر محددة ومرسومة بعناية وذكاء أدبي لافتين... فيكتشف أن فتاة المول «دنيا» الجميلة الناضجة، المسكونة بأسطورة إيزيس وأوزوريس، التي راقصها وأطلقت زعرودة مدوية في المول ابتهاجاً بوصولها أخيراً إلى حبيبها وفتى أحلامها، يكتشف أنها تعرف حقيقته كـ«مانيكان» مأجور، مجرد بديل وظل لصديقه الشاب «المحفظة» الثري، يؤدي دوره بشكل عارض متقمصاً شخصيته وذوقه في اختيار الملابس، وأنها تجاوره في السكن بالحي الشعبي، وشاهدته وهو نائم شبه عار في سريرة القذر وحجرته الأكثر قذارة فوق سطح البيت بجوار عشش الفراخ ومناشر الغسيل، وأن رجولته فتنتها، وشغفتْ بجسده الفرعوني الأسمر الفاره، وأنها كذلك تزور أخته المسنة التي أخنى عليها الدهر، بعد أن فاتها قطار الزواج ولم تجد الحبيب المأمول، وتعيش وجوداً متخيلاً مع زوج وابنة متخيلين، اسمها «دنيا» أيضاً. ينمي الراوي الكاتب لعبته وولعه بالعيش في حياة متخيلة، في ظل الوجود البديل، فيشيع عن غزو شباب الأثرياء من أبناء الطبقة الراقية للأحياء الشعبية، يجلسون على المقاهي الرثة، يتأملون الفتيات الفقيرات بملابسهن المهلهلة المتسخة ووجوههن المسحوقة تحت رحى الفقر والحرمان بحثاً عن شغف الحب، في فطريته الخام الملوثة القذرة، مطلقين جواسيسهم وحراسهم، في الحارات والأزقة يبحثون عن فتاة واقعة في حب مستحيل مع فتى فقير، لا يقدر على الزواج ومتطلبات الحياة الزوجية، وفي اللحظة المناسبة التي يعجز عنها الفني الفقير، يتقدم الشاب الثري لخطبتها والزواج منها. ولا تجد أسرة الفتاة سوى الإذعان، بل الابتهاج أمام محفظته المنتفخة بالأموال التي لا تنتهي، وفي الوقت الذي لا يجد الفتي العاشق الفقير سوى الوقوف على حافة النيل مفكراً في الانتحار، تلتقطه امرأة ثرية بعربتها الفارهة، وتضمه إلى أحضانها كزوج وعاشق، ليصبح الوجود البديل وجوداً مرناً يتحرك في مسارات حية متقاطعة، فهو يوماً لك ويوماً عليك. إنه زمن عابر تختلط فيه القمة بالقاع ويصبحان قناعاً للعبة فارغة مشدودة دائماً إلى النواة الأصل، بذرة الحكاية ووهجها العفوي الفطري، المسكون بلهفة البدايات، وشهوة اللمسة الأولى.
يطالعنا ذلك على نحو سافر في قصة الفتاة الكاتبة المنتحلة الفقيرة صاحبة مكتبة في حي شعبي، الذي يمثل معها «المانيكان» لمدة يوم واحد دور الحبيب المولع بحبها، الذي يطاردها كظلها، فتأخذه في جولة بالحي الشعبي ليراه الناس، ثم يذهب معها إلى ندوة أدبية لمناقشة قصتها المسروقة منه، ويكيل لها أقصى أنواع النقد... حينئذ يهرع «محفظة» من الأثرياء إلى قطع الطريق عليه، ويقتنصها زوجة له، بفعل إغراءات العز والثروة... تنتشر اللعبة ويصبح لها سوقاً، بل شركات خاصة ممولة عالمياً ومحلياً، للاستثمار في الحب من جنة الفقراء القذرة منبعه الأصلي، على أسس علمية ودعائية جذابة. كما تنهض جماعات ثورية معارضة من شباب الفقراء لمقاومة هذه الغزو الشرس من طبقة الأثرياء الملاعين لحياتهم الكادحة الفقيرة.
تبلغ لعبة «دنيا» ذروتها، حين يخطبها حبيبها العاشق «المانيكان» من أهلها، مفجراً صراعاً محموماً مع صديقه «المحفظة» الثري، الذي يرى أنها أحبته هو في شخصيته التي تقمصها «المانيكان»، وأنه الأولى بها، من هذا العدمي الفقير الذي لا يملك شيئاً، ويعيش عالة عليه. تحت الضغط والتهديد والإغراء بالمال يقنع «المانيكان» صاحب الوجود الرمزي المتخيل حبيبته دنيا بالزواج من صديقه الثري، وأنه لا مناص من ذلك، ضارباً بحبها وكل توسلاتها وبكائها المرير عرض الحائط.
يتحول عرس دنيا الأسطوري بالمول إلى ما يشبه ثورة جياع وفوضى عارمة على يدي أبناء الحي، الذين يعيدون دنيا لحبيبها «المانيكان». ورغم هذا يبقى سؤال المهم في هذه الرواية: إذن... ما الحب، حين نجرده من فكرة الإرادة الحرة الخلاقة للحياة... هل نحن أمام سارد حكاء، أراد أن ينتقم من الحب، باسم الحب نفسه، وهل الفقراء هم طينة الحب وعجينته البكر النقية المشتهاة، وهل الأغنياء لا يستطيعون أن يمارسوه بشغف داخل طبقتهم...


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.