السياسي الشاب نجيب أبو كيلة هجر اليسار إلى اليمين الشعبوي المتشدد

رئيس السالفادور الجديد دليل على حضور أكبر جالية فلسطينية في أميركا اللاتينية

صعود المتحدّرين من أصول فلسطينية إلى صدارة المشهد السياسي السالفادوري ليس بجديد أو مستغرب
صعود المتحدّرين من أصول فلسطينية إلى صدارة المشهد السياسي السالفادوري ليس بجديد أو مستغرب
TT

السياسي الشاب نجيب أبو كيلة هجر اليسار إلى اليمين الشعبوي المتشدد

صعود المتحدّرين من أصول فلسطينية إلى صدارة المشهد السياسي السالفادوري ليس بجديد أو مستغرب
صعود المتحدّرين من أصول فلسطينية إلى صدارة المشهد السياسي السالفادوري ليس بجديد أو مستغرب

في الثالث من هذا الشهر، شكّل الفوز الساحق الذي حققه نجيب بوكيلي في انتخابات السالفادور الرئاسية منعطفاً حاسماً في التاريخ الحديث لهذا البلد الذي عصفت به حرب أهلية دامية طالت عشرين سنة، قبل أن يبدأ مسيرته السلمية والديمقراطية مطلع تسعينيات القرن الماضي.
والحقيقة أنه لم يسبق أن فاز مرشّح لمنصب الرئاسة في السالفادور من الدورة الأولى للانتخابات، ومن خارج المؤسسة العسكرية والمنظومة الحزبية التي تعاقبت على الحكم منذ ثلاثة عقود في واحد من أكثر البلدان عنفاً في أميركا الوسطى والعالم.

ما إن أعلنت النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية في جمهورية السالفادور، في أميركا الوسطى، حتى ظهر المرشح الفائز نجيب أبو كيلة وحيداً أمام مؤيديه... وقبل أن يخاطبهم تناول هاتفه الجوّال والتقط صورة ذاتية (سيلفي) مع الجماهير المحتشدة للاحتفال بفوزه.
تلك كانت العلامة الفارقة بين الأوصاف الكثيرة التي يتميّز بها هذا الرئيس الشاب (37 سنة) الذي خاض معركته الانتخابية شبه منفرد، تحت شعار القضاء على الفساد والعنف، وضد المنظومة السياسية التي سيطرت على البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية.
أبو كيلة كان يعتمد كليّاً على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكاره وبرنامجه السياسي... والغالبية الساحقة من مؤيديه لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة. كذلك كان يفتقر إلى الدعم البرلماني ولا ينطلق من قاعدة حزبية... بل، ويتحدّر من أصول فلسطينية ومسلمة.

- خلفية شخصية
وُلد نجيب أبو كيلة في كنف عائلة متحدرة من أصول فلسطينية هاجرت إلى السالفادور في مطالع القرن الماضي، أما والده آرماندو أبو كيلة قطان (أو قحطان) فيتحدّر من مدينة القدس لجهة الجَدّ ومن مدينة بيت لحم لجهة الجدة، وأمه سالفادوريّة. ولقد اعتنق آرماندو الإسلام في سن مبكرة وكان نشطاً بين أفراد الجالية الفلسطينية التي تشكّل نسبة 2 في المائة من مجموع سكان السالفادور، وأصاب نجاحاً وافراً في التجارة والأعمال، وأنجب 11 ولداً، منهم نجيب الذي كان يدير شركة للإعلانات قبل أن يتفرّغ للنشاط السياسي مدعوماً من والده. وما يُذكر عن الوالد أرماندو أنه كان صديقاً مقرّباً من إحدى أبرز الشخصيات اليسارية في المشهد السياسي السالفادوري ومؤسس «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني» والمرشح الرئاسي السابق شفيق حنظل، المتحدّر هو أيضاً من أصول فلسطينية.
صعود المتحدّرين من أصول فلسطينية إلى صدارة المشهد السياسي السالفادوري ليس بجديد أو مستغرب في هذا البلد الذي يضمّ ثاني أكبر جالية فلسطينية في أميركا اللاتينية بعد تشيلي. ذلك أنه في عام 2004 فاز بانتخابات رئاسة الجمهورية إلياس أنطونيو سقّا، مرشح اليمين، الذي هو أيضاً هاجرت عائلته من بيت لحم في بدايات القرن الماضي. وكان منافس سقّا في تلك الانتخابات الأمين العام للحزب الشيوعي ومؤسس «جبهة فارابوندو مارتي» شفيق حنظل، المولود في السالفادور من عائلة هاجرت هي أيضاً من مسقط رأس المسيح عيسى بن مريم.
«فتحنا صفحة جديدة في تاريخ البلاد، وجمعنا أصواتاً تفوق ما حصل عليه منافسونا»... هذه كانت العبارات الأولى التي تفوّه بها الرئيس الجديد الذي يحلو له أن يعرّف عن نفسه بأنه «ضد النظام السائد»، مدركاً أن اهتراء هذا النظام وما تولّد بسببه من استياء ونقمة بين المواطنين عموماً، والشباب بشكل خاص، هو ما أوصله إلى الرئاسة في انتخابات لم يشارك فيها نصف السالفادوريين.

- البداية... من مواقع اليسار
بدأ نجيب أبو كيلة مسيرته السياسية داخل صفوف «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني» اليسارية عندما تولّى رئاسة بلدية كوسكاتلان الجديدة في مارس (آذار) من عام 2011، ونجح في تنفيذ عدد من المشروعات الإنمائية التي لفتت إليه الأنظار، فرشّحته «الجبهة» لرئاسة بلدية العاصمة سان سالفادور التي فاز بانتخاباتها في عام 2015، وتميّزت إدارته بنهضة غير مسبوقة في المدينة، وبخاصة في وسطها التاريخي الذي أعيد ترميمه، وأصبح مقصداً سياحياً وتجارياً من الدرجة الأولى بعدما كان مرتعاً للعصابات الإجرامية التي تزرع الرعب منذ سنوات في أنحاء البلاد. ويتوقع أن يكون ملف مواجهة هذه العصابات في طليعة الملفّات الصعبة التي سيتوجب على الرئيس الجديد التعامل معها.
يقول المقرّبون من نجيب أبو كيلة إن والده كان الشخصية الأكثر تأثيراً في حياته ومساره السياسي، وإن العلاقة بينهما كانت حاسمة في الخيارات السياسية التي أقدم عليها. وبعدما اعتنق آرماندو الإسلام وهو في مطلع العقد الثالث من عمره، أصبح إمام العاصمة التي بنى فيها أوّل مسجد تبعته مساجد أخرى في السالفادور وعدد من دول أميركا الوسطى والجنوبية.
ولم يكن نجيب قد أكمل الثامنة عشرة عندما تولّى إدارة إحدى الشركات العائلية لتوزيع الدراجات النارية اليابانية «ياماها» في عام 1999، ومن ثم، أسس شركته الخاصة في ميدان الإعلان، بينما كان يتابع دروسه الجامعية في العلوم القضائية، بيد أنه تخلّى عن دراسته لينصرف إلى أعماله التجارية قبل أن ينتقل إلى المعترك السياسي.
كان للوالد آرماندو الدور الأساس في انضمام ابنه الشاب نجيب إلى «جبهة فارابوندو مارتي» اليسارية المؤيدة للقضية الفلسطينية. ولكن، بعدما تولّى نجيب رئاسة بلدية العاصمة بدأت الخلافات تظهر بينه وبين قادة «الجبهة»، بينما كانت النجاحات السريعة التي حققها تغذّي طموحه نحو مناصب وأهداف أعلى. وفي العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2017 قررت قيادة «الجبهة» طرده عملاً بتوصية من المحكمة الأخلاقية التابعة لمعهدها السياسي، وذلك في أعقاب اتهامه باعتداءات شفوية وجسدية على إحدى أعضاء المجلس البلدي. لكن أوساط نجيب تؤكد أنه هو الذي بادر إلى تقديم استقالته من «الجبهة» بعدما رفضت قيادتها التجاوب مع طلبه الترشّح لرئاسة الجمهورية.

- حركته الجديدة
بعد أسبوعين من انفصال أبو كيلة عن «الجبهة» اليسارية، أعلن السياسي الشاب الطموح عبر صفحته على موقع «فيسبوك» ترشّحه لمنصب رئيس الجمهورية عن حركة «الأفكار الجديدة» التي تنوي أن تتحوّل إلى حزب سياسي. وخلال أقلّ من عشرة أيام على إطلاق أبو كيلة حملة لحشد التأييد لحركته الجديدة، تمكّن من جمع أكثر من 250 ألف توقيع وطلب تسجيل الحركة حزباً سياسياً.
مع هذا واجه السياسي الشاب وحركته الوليدة مقاومة شديدة من المؤسسات الرسمية مثل المحكمة الانتخابية ومحكمة العدل العليا وديوان المحاسبة والنيابة العامة، فأطلق حملة احتجاجية وهدّد بإحالة القضية إلى المحاكم الدولية إلى أن وافقت المحكمة الانتخابية على تسجيل حركته حزباً سياسياً في أغسطس (آب) الماضي.
بعد ذلك، خلال حملته الانتخابية، رفض نجيب أبو كيلة المشاركة في المناظرات السياسية مع منافسيه، وركّز انتقاداته بشكل خاص ضد قيادات حزبه (الجبهة) السابق التي اتهمها بالفساد والتعاطف مع «طغاة أميركا اللاتينية» في فنزويلا ونيكاراغوا وهندوراس. كذلك انتقد قرار قطع العلاقات مع تايوان تمهيداً لإقامتها مع الصين الشعبية في العام الماضي، ودعا إلى إنشاء محكمة دولية للنظر في الفساد داخل الإدارات العامة.
المعتقد الديني للرئيس الجديد كان حاضراً بقوة في الحملة الانتخابية، إذ حاول خصومه مهاجمته لكونه من أب مسلم وأم مسيحية، خصوصاً بعد تسريب مجموعة من الصور، ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، تظهره وهو يصلّي في أحد مساجد العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي. وردّ أبو كيلة بالإعلان أن أسرته كاثوليكية مع أن والده وآخرين من عائلته يدينون بالإسلام، كما قال إنه «لا يؤمن بالطقوس ولا بالأديان»... لكنه يؤمن بالسيّد المسيح، ويرفض زواج المثليين والإجهاض إلا في الحالات التي تتعرّض صحّة الأم للخطر.

- شرخ في الجالية الفلسطينية
على صعيد آخر، تجدر الإشارة إلى أن المنحى الذي اتخذه المسار السياسي لنجيب أبو كيلة خلال السنوات الثلاث المنصرمة أحدث شرخاً في أوساط الجالية الفلسطينية التي انقسمت بين مؤيد له ورافض بشدة لمواقفه الشعبوية اليمينية التي تتناقض كليّاً مع الخط اليساري الذي سارت عليه العائلة منذ عقود. ويخشى منتقدوه أن يكون وصوله إلى الرئاسة والمواقف الأخيرة التي صدرت عنه ثمرة صفقة تنذر بقرارات وخطوات أكثر خطورة بعدما يتسلّم مهامه رسمياً في يونيو (حزيران) المقبل. وهنا يشار إلى أنه في العام الماضي، بعدما أعلن ترشيحه للرئاسة، قام نجيب بزيارة إلى إسرائيل تلبية لدعوة من فرع أميركا اللاتينية للمؤتمر اليهودي العالمي. وهناك التقى بمسؤولين إسرائيليين ووقف يصلّي أمام حائط البراق (المبكى)، كما زار متحف المحرقة النازية (الهولوكوست) في القدس الشرقية. وبطبيعة الحال، أثارت تلك الزيارة، وما رافقها من مواقف وتصريحات، عميق الاستياء في أوساط الجالية الفلسطينية التي ذكّر بعض وجهائها بأنه حتى إلياس أنطونيو سقّا، الرئيس الأسبق المتحدر من أصول فلسطينية - الذي كان ينتمي إلى اليمين المتطرف - لم يقدم على خطوة مماثلة. وبالتالي، يخشى كثيرون من أبناء الجالية الفلسطينية أن يذهب أبو كيلة أبعد... فيوافق على اتخاذ قرار بنقل السفارة السالفادورية من تل أبيب إلى القدس الشرقية أسوة بالبرازيل والباراغواي.
أيضاً كان لافتاً أن من بين أوّل المهنئين بفوز أبو كيلة رئيس المؤتمر اليهودي العالمي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. كذلك تلّقى الرئيس السالفادوري الجديد اتصالاً من مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة جون بولتون، بحثا خلاله في مستقبل العلاقات الثنائية وموقف السالفادور من الأزمة الفنزويلية والعلاقات مع بكين. وجاء في تغريدة لبولتون «اتصّلت اليوم بالرئيس نجيب أبو كيلة وهنّأته بالنصر التاريخي الذي حققه، وأعربت له عن دعم الولايات المتحدة. كما ناقشنا سبل تعزيز أواصر الصداقة بين البلدين، وكيفية التعاون من أجل إعادة الديمقراطية إلى فنزويلا والتصدّي للممارسات الجائحة للصين في شبه القارة». وفي معرض تأكيده على المحادثة مع بولتون، قال نجيب أبو كيلة «لن تجد الولايات المتحدة حليفاً لها فحسب في السالفادور، بل صديقاً يطمح إلى توطيد أواصر العلاقة بين الطرفين. بعون الله سنتمكّن من خدمة شعبينا».

- آمال كبيرة واصطفاف يميني
كثيرة هي الآمال التي يعقدها السالفادوريون على الرئيس الشعبوي الشاب للخروج من دوّامة العنف والإجرام والفساد والتخلّف الاقتصادي التي تتخبطّ فيه البلاد. وهم يأملون منه تنفيذ الوعود البرّاقة التي أطلقها في حملته الانتخابية، ومنها: مرفأ جديد ومطار دولي وقطار سريع وشبكة مواصلات برّية. لكن أبو كيلة يعرف جيداً أن أيّاً من هذه المشروعات الكبرى لن يكتب لها التنفيذ من دون ضمان مساعدات خارجية كبيرة. ثم إن مواجهة العصابات والمنظمات الإجرامية، التي تسيطر على مناطق كثيرة في البلاد سيطرة شبه كاملة، تستلزم دعماً وخبرات واسعة أعلنت تل أبيب استعدادها لتقديمها بالتعاون مع واشنطن. وعلى صعيد الاصطفاف السياسي الإقليمي، يتوقع أن تكون البشائر الأولى للانعطاف السياسي مع وصول أبو كيلة إلى رئاسة السالفادور انضمامه إلى تحالف قادة اليمين المتشدد في أميركا اللاتينية، والاعتراف بشرعية الرئيس الفنزويلي بالوكالة خوان غوايدو، والتخلّي عن الرئيس اليساري نيكولاس مادورو، بجانب تضييق الخناق حول رئيس نيكاراغوا الذي وصفه أبو كيلة بأنه «أبشع من الديكتاتور السابق أناستازيو سوموزا»، إلا أن انطلاقة ولاية الرئيس الجديد تواجه عجزاً في الكوادر السياسية والفنية، كما هي الحال مع كل الحركات الشعبوية التي وصلت إلى الحكم على صهوة معارضة النظام السائد ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الدعم البرلماني الضئيل الذي يعتمد عليه لتنفيذ وعوده الإصلاحية والإنمائية.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بولوارتي تضع البيرو في مواجهة مع حكومات المنطقة

رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
TT

بولوارتي تضع البيرو في مواجهة مع حكومات المنطقة

رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)

بعد التدهور الأخير في الأوضاع الأمنية التي تشهدها البيرو، بسبب الأزمة السياسية العميقة التي نشأت عن عزل الرئيس السابق بيدرو كاستيو، وانسداد الأفق أمام انفراج قريب بعد أن تحولت العاصمة ليما إلى ساحة صدامات واسعة بين القوى الأمنية والجيش من جهة، وأنصار الرئيس السابق المدعومين من الطلاب من جهة أخرى، يبدو أن الحكومات اليسارية والتقدمية في المنطقة قررت فتح باب المواجهة السياسية المباشرة مع حكومة رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي، التي تصرّ على عدم تقديم موعد الانتخابات العامة، وتوجيه الاتهام للمتظاهرين بأنهم يستهدفون قلب النظام والسيطرة على الحكم بالقوة.
وبدا ذلك واضحاً في الانتقادات الشديدة التي تعرّضت لها البيرو خلال القمة الأخيرة لمجموعة بلدان أميركا اللاتينية والكاريبي، التي انعقدت هذا الأسبوع في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيريس، حيث شنّ رؤساء المكسيك والأرجنتين وكولومبيا وبوليفيا هجوماً مباشراً على حكومة البيرو وإجراءات القمع التي تتخذها منذ أكثر من شهر ضد المتظاهرين السلميين، والتي أدت حتى الآن إلى وقوع ما يزيد عن 50 قتيلاً ومئات الجرحى، خصوصاً في المقاطعات الجنوبية التي تسكنها غالبية من السكان الأصليين المؤيدين للرئيس السابق.
وكان أعنف هذه الانتقادات تلك التي صدرت عن رئيس تشيلي غابرييل بوريتش، البالغ من العمر 36 عاماً، والتي تسببت في أزمة بين البلدين مفتوحة على احتمالات تصعيدية مقلقة، نظراً لما يحفل به التاريخ المشترك بين البلدين المتجاورين من أزمات أدت إلى صراعات دموية وحروب دامت سنوات.
كان بوريتش قد أشار في كلمته أمام القمة إلى «أن دول المنطقة لا يمكن أن تدير وجهها حيال ما يحصل في جمهورية البيرو الشقيقة، تحت رئاسة ديما بولوارتي، حيث يخرج المواطنون في مظاهرات سلمية للمطالبة بما هو حق لهم ويتعرّضون لرصاص القوى التي يفترض أن تؤمن الحماية لهم».
وتوقّف الرئيس التشيلي طويلاً في كلمته عند ما وصفه بالتصرفات الفاضحة وغير المقبولة التي قامت بها الأجهزة الأمنية عندما اقتحمت حرم جامعة سان ماركوس في العاصمة ليما، مذكّراً بالأحداث المماثلة التي شهدتها بلاده إبّان ديكتاتورية الجنرال أوغوستو بينوتشي، التي قضت على آلاف المعارضين السياسيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي.
وبعد أن عرض بوريتش استعداد بلاده لمواكبة حوار شامل بين أطياف الأزمة في البيرو بهدف التوصل إلى اتفاق يضمن الحكم الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، قال «نطالب اليوم، بالحزم نفسه الذي دعمنا به دائماً العمليات الدستورية في المنطقة، بضرورة تغيير مسار العمل السياسي في البيرو، لأن حصيلة القمع والعنف إلى اليوم لم تعد مقبولة بالنسبة إلى الذين يدافعون عن حقوق الإنسان والديمقراطية، والذين لا شك عندي في أنهم يشكلون الأغلبية الساحقة في هذه القمة».
تجدر الإشارة إلى أن تشيلي في خضمّ عملية واسعة لوضع دستور جديد، بعد أن رفض المواطنون بغالبية 62 في المائة النص الدستوري الذي عرض للاستفتاء مطلع سبتمبر (أيلول) الفائت.
كان رؤساء المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا قد وجهوا انتقادات أيضاً لحكومة البيرو على القمع الواسع الذي واجهت به المتظاهرين، وطالبوها بفتح قنوات الحوار سريعاً مع المحتجين وعدم التعرّض لهم بالقوة.
وفي ردّها على الرئيس التشيلي، اتهمت وزيرة خارجية البيرو آنا سيسيليا جيرفاسي «الذين يحرّفون سرديّات الأحداث بشكل لا يتطابق مع الوقائع الموضوعية»، بأنهم يصطادون في الماء العكر. وناشدت المشاركين في القمة احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، والامتناع عن التحريض الآيديولوجي، وقالت «يؤسفني أن بعض الحكومات، ومنها لبلدان قريبة جداً، لم تقف بجانب البيرو في هذه الأزمة السياسية العصيبة، بل فضّلت تبدية التقارب العقائدي على دعم سيادة القانون والنصوص الدستورية». وأضافت جيرفاسي: «من المهين القول الكاذب إن الحكومة أمرت باستخدام القوة لقمع المتظاهرين»، وأكدت التزام حكومتها بصون القيم والمبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، رافضة أي تدخّل في شؤون بلادها الداخلية، ومؤكدة أن الحكومة ماضية في خطتها لإجراء الانتخابات في الموعد المحدد، ليتمكن المواطنون من اختيار مصيرهم بحرية.
ويرى المراقبون في المنطقة أن هذه التصريحات التي صدرت عن رئيس تشيلي ليست سوى بداية لعملية تطويق إقليمية حول الحكومة الجديدة في البيرو بعد عزل الرئيس السابق، تقوم بها الحكومات اليسارية التي أصبحت تشكّل أغلبية واضحة في منطقة أميركا اللاتينية، والتي تعززت بشكل كبير بعد وصول لويس إينياسيو لولا إلى رئاسة البرازيل، وما تعرّض له في الأيام الأخيرة المنصرمة من هجمات عنيفة قام بها أنصار الرئيس السابق جاير بولسونارو ضد مباني المؤسسات الرئيسية في العاصمة برازيليا.