«بيروت ∞»... معرض حب بلا حدود في قطع فنية

تعدّه كارلا برشيني تحية تكريمية للعاصمة التي تعشقها

كتلة من الإسمنت جمعت كارلا فيها الحضارتين الشرقية والغربية بـ«مفتاح جنيف»
كتلة من الإسمنت جمعت كارلا فيها الحضارتين الشرقية والغربية بـ«مفتاح جنيف»
TT

«بيروت ∞»... معرض حب بلا حدود في قطع فنية

كتلة من الإسمنت جمعت كارلا فيها الحضارتين الشرقية والغربية بـ«مفتاح جنيف»
كتلة من الإسمنت جمعت كارلا فيها الحضارتين الشرقية والغربية بـ«مفتاح جنيف»

رغم إقامتها خارج لبنان لنحو 15 سنة، لم تستطع الفنانة التشكيلية كارلا برشيني أن تتخلّص من تأثير بلدها الأم عليها. فالشعور بالحنين والرغبة بالعودة إليه لازماها طيلة فترة هجرتها. وبُعيد عودتها إليه منذ سنوات قليلة قررّت أن تكرّمه على طريقتها في معارض كثيرة، أحدثها بعنوان «بيروت ∞».
«يسكنني حب بيروت منذ نعومة أظافري، والفضل بذلك يعود إلى والدي الذي زرع في حب الوطن». تقول كارلا في حديث لـ«الشرق الأوسط». وتضيف: «كلّ شيء في لبنان أحبّه، إيجابيا كان أو سلبيا. وهذه التناقضات التي تغلّفه دفعتني لأقوم بهذا المعرض وأترجمها في قطع فنية». وهي تؤكّد أنّ لبنان وأهله عالجوها وأصبحت تتمتع بالسلام والمصالحة مع الذات.
ويتضمن المعرض الذي يستضيفه غاليري «آرت أوف 56» في بيروت، لوحات وقطعا فنية استخدمت فيها الفنانة برشيني مواد الإسمنت والحديد والخشب وغيرها من مواد جلدية وأخرى ملونة. وفي رأيها فإنّ العاصمة بيروت التي طمرتها المياه 7 مرات وكانت في كل مرة تستطيع الانبعاث من جديد، تماما كما تخبرنا به أسطورة طائر الفينيق، لن يتعلّق مصيرها بعد اليوم بالأرقام. «لن يستطيع أحد بعد اليوم، أن يكسر بيروت أو أن يخرّبها. ففترات الدّمار والحروب التي مرّت عليها، جعلتها مدينة ناضجة لا تؤثر فيها أي تغييرات». تعلّق كارلا برشيني التي تصف حبّها لمدينة بيروت باللامتناهي. فليس هناك من حدود أو مسافات قد تستطيع أن تفصل ما بينهما.
ومن مشاهداتها في شوارع بيروت التراثية كما في مار مخايل والجميزة والصنائع وغيرها استوحت الفنانة اللبنانية موضوعاتها. فصوّرت من عمارتها الهندسية العريقة نافذة من الحديد الأحمر تأخذ شكل المندلون. ومن علبة كرتون للعصير (بون جوس) يعرفه اللبنانيون صغارا وكبارا منذ أكثر من نصف قرن باسم «الهرم»، تبدأ حكاية كارلا برشيني مع بيروت. فهي وضعت 17 هرما كرتونيا في صندوق يحمل اسم ماركة هذا العصير داخل إطار زجاجي بعد أن غلّفتها بورق الذهب من عيار 24 قيراطا.
«هي بمثابة تحية تكريمية لجميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم، لكون هذا العصير يجمعهم حوله من دون تفرقة فيوحّدهم بنكهته ولونه وبطعمه منذ أكثر من 50 عاما. وهذا العصير لا نجده إلّا في لبنان، ولذلك أعتبره رمزاً من رموز طفولتنا الذي لا نزال متعلّقين به حتى اليوم».
مغرمة كارلا برشيني بمدينتها الأم، فهي رغم الجنسية السويسرية التي تتمتع بها بعيد إقامتها ودراستها في جنيف، بقيت بيروت تسكن في أفكارها وتلوح في خيالها. «لقد تخصّصت في علم النفس ومارستها كمهنة في دول أوروبية كفلورانس وجنيف وغيرهما، إلّا أنّ والدي قال لي يوماً احرصي على القيام بما يجعلك سعيدة». عندها قرّرت أن أعود إلى لبنان وأعمل في مجال الفن، هذا المجال الذي سبق وعمل به والدي فورثته منه بالجينات على ما أعتقد».
ومع الإسمنت الذي بات يجتاح المدينة بأكملها، تقدّم قطعا فنية مختلفة مستخدمة فيها هذه المادة للإشارة إلى أنّ بيروت تتمتع بصلابتها نفسها. «أردت تحويل كل السّلبية التي يمكن أن يراها الآخرون في مدينتي إلى عناصر إيجابية. فهذا هو بلدي الذي أحب و(بيروتي) التي أعشقها كما هي». ونشاهد بين أعمالها قفازات رياضة الملاكمة التي تجيدها مصنوعة من هذه المادة، وكذلك مربعات أرضية لأحد شوارع منطقة الحمراء لفتتها فصورتها في عمل فني. وفي إطار خشبي مفرّغ من الوسط وضعت فيه كتلة إسمنتية بعد أن لوّنتها على شكل لعبة معروفة (كيوبس)، تنقل لنا كمية التناقض الذي يجتاح بيروت فيبرز جماليتها. وفي كتلة إسمنتية يخترقها مفتاح قديم تصوّر برشيني التواصل ما بين الشرق والغرب. «عندما اشتريت هذا المفتاح في مدينة جنيف حيث كنت أعيش لفترة، قالت لي البائعة يومها إنّه يُعرف بـ(مفتاح جنيف). ومنه استوحيت فكرة جمع الحضارتين لا سيما أن لبنان عرف بـ(سويسرا الشرق)». ومن أغطية السيارات المصنوعة من الحديد صنعت لبيروت أجنحة، وتعلق: «رغم وزنها الثّقيل فقد رغبت بالتحليق بها عالياً للإشارة إلى مدينتي التي رغم الأثقال التي حملتها عبر الزمن، استطاعت أن تحتفظ بقدرتها على الطيران».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».