سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

مساعٍ لاستقطاب المقاتلين القدامى

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أثارت تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن بلاده هزمت تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، تساؤلات حول مستقبل الاستقرار الأمني فيها. لا سيما أن المجتمع السوري ما زال تحت عبء أعداد كبيرة من التنظيمات الأصولية المتشددة، والتي تتعاقب في مدى تسلمها لزمام الأمور، ما بين من يصبح أكثر تأثيراً، ومن يخفت وهجه من هذه التنظيمات المتطرفة.

إذا ما كان قرار انسحاب القوات الأميركية من سوريا نتيجة سقوط الأماكن التي كانت تحت نفوذ التنظيم الداعشي؛ إلا أن ذلك لا يدل على اختفاء وجودهم في الفضاء السوري، وينعكس ذلك من خلال الهجوم الانتحاري الأخير الذي تعرضت له مدينة منبج في شمال سوريا، والذي أسفر عن 19 ضحية بينهم أربعة أميركيين. وذكرت وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية لـ«داعش» إقرار التنظيم بأن مقاتلاً ينتمي إليه قام بتفجير سترته الناسفة مستهدفاً دورية لقوات التحالف.
وفي ذلك استدلال على أن التنظيم استغل مناسبة الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية لإثبات وجوده، مما يخالف ما صرح به الرئيس الأميركي، وتأكيد أن «داعش» لا يزال صامداً قادراً على الاستمرار. وذكر السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، أن تصريحات ترمب بخصوص قرار الانسحاب من سوريا أدت إلى إثارة الحماسة لدى «داعش» أو إعادة الأمل لديه بقدرته على معاودة النهوض. بينما من الممكن أن يتم فهم قرار الانسحاب الأميركي استسلاماً.

هجمات عشوائية

من جهة أخرى يعطي الفرصة لأطراف دولية أخرى للتدخل بشكل أقوى مثل إيران... وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية تؤكد استمرار نهجها في سوريا والضربات الجوية في المنطقة والعمل مع الشركاء في التحالف من أجل هزيمة «داعش»؛ إلا أن على الحلفاء «تحمل مسؤوليات جديدة».
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من جهته، خلال خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة: «ما زلنا ملتزمين بالتفكيك الكامل لتهديد (داعش) والمعركة المستمرة ضد الإسلام الراديكالي بكل أشكاله»... وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تم أخيراً إجلاء ما يصل إلى 2200 شخص من ضمنهم 180 مقاتلاً ينتمون إلى «داعش» من آخر معقل للتنظيم، والذي كان تحت سيطرته في عام 2014. وعلى الرغم من تبعثر التنظيم الداعشي وتفككه؛ فإن أعضاءه لا يزالون موجودين في المناطق الحدودية، ويمارسون هجمات عشوائية تتخذ من نهج حرب العصابات مسلكاً لها والإتيان بهجمات عشوائية مثل ما حدث في هجوم منبج.
فيما يثير انسحاب القوات الأميركية حيال كيفية التعامل مع الأعداد الكبيرة، المقاتلين المنتمين إلى «داعش» الموجودين في السجون السورية، بالأخص في ظل عدم وجود إمكانيات كفيلة بالتعامل معهم، ومن ضمنهم العديد من المقاتلين الأجانب ممن ترفض دولهم استقبالهم خوفاً من تأثيرهم على مواطنيهم، سواء عبر بث الآيديولوجية المتطرفة أم من خلال شن هجمات إرهابية.
داعشيون آخرون سعوا للانتقال خارج سوريا إلى صحراء العراق بالقرب من منطقة الأنبار، وكجزء أكبر من استراتيجية التنظيم، يظهر الاهتمام في إيجاد مناطق نفوذ جديدة مثل ليبيا وأفغانستان وحتى الصومال ودول أخرى... الأمر الذي يلقي الضوء على ضرورة اجتثاث الفكر الآيديولوجي المتطرف مثل ذلك الذي ينشره «داعش» من أجل إيقاف قدرته على التغلغل إلى المتعاطفين، أو أولئك الذين لديهم قابلية للتطرف والأدلجة. فمدى خطورة التنظيم الداعشي يتجلى قدرته على إقناع أعضائه بتكفير حتى المسلمين وقتلهم، على اعتبار أنه التنظيم الأكثر تشدداً وشيطنة للآخرين منذ بدء أنشطته في العراق عام 2014، إذ نشأ مؤجِّجاً للطائفية مما يزيد من الاضطراب في المنطقة. إلا أن «داعش» في الآونة الأخيرة يواجه تقهقراً إعلامياً إذا ما قورن بفترة انتعاشته في بداية عهده، وذلك نتيجة لتحالف العالم من أجل الحد من قدرته على التأثير وحجب وتعطيل أنشطته وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ندم واعتذار

من جهة أخرى ظهر عبر وسائل الإعلام التقليدية العديد من اللقاءات مع مقاتلين سابقين انتموا إلى التنظيم وتراجعوا عنه على نسق أبو حذيفة الكندي في لقاء تلفزيوني وهو يحمل الجنسيتين الكندية والباكستانية، قال «إنه نادم على انضمامه إلى (داعش)، وقد جلس لمدة 5 أشهر في مدينة منبج السورية، وعاد إلى كندا»، وذكر أنه يعاني من كوابيس، وأنه على المواطنين الكنديين عدم القلق من المقاتلين السابقين مثله، فهم يرغبون فقط في نسيان ما حدث والمضي قدماً. بغض النظر عن مدى تقهقر الحراك الداعشي في سوريا؛ إلا أن ذلك لا يعني اقتراباً من الاستقرار الأمني أو التخلص من الجماعات المتطرفة فيها، إذ يُقدر عدد القتلى في سوريا نتيجة الهجمات الإرهابية بما يزيد على 34.853 وهي ليست نتاجاً من تنظيم داعش فحسب. ما يمكن توقعه هو أنه سيصبح هناك قلب لموازين التنظيمات، وترجيح كفة الميزان لصالح تنظيمات أصولية أخرى.
ويبدو ذلك جلياً في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، والتي أصبحت ملاذاً لتنظيم القاعدة، وقد سعت «هيئة تحرير الشام»، وهي «جبهة النصرة» سابقاً للاستحواذ على المنطقة منذ أن أعلنت خروجها عن عباءة «القاعدة». بالأخص بعد أن تم الإعلان عن حدوث اتفاق بين تنظيم «هيئة تحرير الشام» والفصائل السورية الموالية لتركيا، الأمر الذي مكّنها من التخلص منها مثل «جبهة التحرير الوطنية»... وقد نشرت حسابات مرتبطة بجبهة النصرة صوراً تُظهر بنود اتفاق بخط اليد بتاريخ 10 يناير (كانون الثاني) الماضي، ما ينص على وقف إطلاق النار وتبادل الموقوفين إثر المعارك التي خاضها الطرفان أخيراً، وخروج القوات الكردية والأميركية من المنطقة.

حرب عصابات

ويظل توقُّع انقراض تنظيم متطرف على حساب آخَر أمراً شديد الصعوبة، لا سيما أن حرب العصابات تستلزم استسلاماً، وهو ما ترفض غالبية هذه التنظيمات القيام به، والاستعاضة عن ذلك بالركون، حتى يتم الحصول على فرص تمكنها من النهوض من جديد.
ففي الوقت الذي سحب فيه «داعش» البساط من «القاعدة» منذ 2014 في كلٍّ من الرقة والموصل والمدن الأخرى، نشهد أخيراً معاودة تنظيمات تابعة للقاعدة واستحواذها على مدن أخرى مثل إدلب، أو دول أخرى مثل اليمن، فيما نهض «داعش» وحاول احتلال جبال تورا بورا معقل أسامة بن لادن، من أجل وضع لوائه فيها وإثبات قوة وجوده. وبعد أن تمكن تنظيم القاعدة من سرقة الوهج الإعلامي لأي تنظيم آخر في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إلا أن الحيثيات المتعلقة بالبروباغندا والحملات الدعائية للجماعات المتطرفة تغيرت، بعد أن أصبح العالم الإلكتروني هو القادر على الوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص ليظفر تنظيم داعش بذلك الوهج.
الأمر الذي يصعب فيه أن يصل المحللون إلى وجود احتمال للتخلص نهائياً من التنظيمات المتطرفة لا سيما في المناطق المنهكة سياسياً وأمنياً والقابلة للسيطرة من قِبل الميليشيات والجماعات الإرهابية. بل لا يزال هناك احتمال ظهور تنظيمات جديدة في ما بعد نبعت جراء الوضع المستفحل في المنطقة نتيجة تعقيد الصراعات المنقسمة في سوريا، التي وقع ضحيةً لها أهالي سوريا نتيجة تفشي العنف والهجمات الإرهابية وإثارة الرعب في قلوبهم، والذي يحمل انعكاسات بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي في سوريا، بعد أن أصبح هناك تسييس للدين من خلال الميليشيات المتطرفة وظهور الطائفية من خلال توجهات المقاتلين المختلفة، والسعي نحو أدلجة المجتمع واستقطاب رجاله وشبانه وحتى صغاره.

مراكز دعوية

وقد ظهر العديد من المساعي من قبل التنظيمات المتطرفة من أجل التأثير على الأهالي السوريين، على نسق المراكز الدعوية التي تظهر أنشطتها إلكترونياً مثل «مركز دعاة الجهاد»، و«مركز دعاة التوحيد» الذي يقوم باستقطاب الشبان وتجنيدهم من خلال الحلقات الدينية والمعسكرات والحملات الدينية.
تنظيم آخر سعى لأدلجة السوريين هو تنظيم «حراس الدين» المتشدد الموالي لتنظيم القاعدة والمتمركز في جنوب شرقي محافظة إدلب، وقد تمكن من استقطاب مزيج من المقاتلين القدامى ممن كانوا منضمين لتنظيم القاعدة، إضافة إلى أعضاء منتمين إلى تنظيم داعش. ويظهر حرص التنظيم على التغلغل في المجتمع السوري من خلال ممارسة الضغوط حتى على الجامعات، مثل اقتحامه جامعة إدلب في ريف المدينة، التي قام بتهديدها بغلقها قسرياً في حال استمرت على نهج الاختلاط بين الجنسين، وهو التهديد نفسه الذي تعرضت له من «هيئة تحرير الشام»، الأمر الذي يدل على سعيهم لفرض التغيير في النسيج الاجتماعي والأنماط الحياتية المعيشة وخلق التشدد الديني... فالعديد من الحيثيات تؤكد ضرورة إعادة تهيئة المجتمع السوري في ما بعد، لتخليصه من أدلجة الدين وتسييسه من قبل المتطرفين وتأثر ووقوع ضحايا في أسر فكره، ليصبح ذلك جزءاً من الاستراتيجيات المدرجة في مرحلة ما بعد الصراع.


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.