سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

مساعٍ لاستقطاب المقاتلين القدامى

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

سوريا... من «داعش» إلى «حراس الدين»

صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)
صبي سوري يمر قرب موقع تفجير منبج حيث لقي 4 جنود أميركيين مصرعهم منتصف الشهر الماضي (أ.ف.ب)

أثارت تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن بلاده هزمت تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، تساؤلات حول مستقبل الاستقرار الأمني فيها. لا سيما أن المجتمع السوري ما زال تحت عبء أعداد كبيرة من التنظيمات الأصولية المتشددة، والتي تتعاقب في مدى تسلمها لزمام الأمور، ما بين من يصبح أكثر تأثيراً، ومن يخفت وهجه من هذه التنظيمات المتطرفة.

إذا ما كان قرار انسحاب القوات الأميركية من سوريا نتيجة سقوط الأماكن التي كانت تحت نفوذ التنظيم الداعشي؛ إلا أن ذلك لا يدل على اختفاء وجودهم في الفضاء السوري، وينعكس ذلك من خلال الهجوم الانتحاري الأخير الذي تعرضت له مدينة منبج في شمال سوريا، والذي أسفر عن 19 ضحية بينهم أربعة أميركيين. وذكرت وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية لـ«داعش» إقرار التنظيم بأن مقاتلاً ينتمي إليه قام بتفجير سترته الناسفة مستهدفاً دورية لقوات التحالف.
وفي ذلك استدلال على أن التنظيم استغل مناسبة الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية لإثبات وجوده، مما يخالف ما صرح به الرئيس الأميركي، وتأكيد أن «داعش» لا يزال صامداً قادراً على الاستمرار. وذكر السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، أن تصريحات ترمب بخصوص قرار الانسحاب من سوريا أدت إلى إثارة الحماسة لدى «داعش» أو إعادة الأمل لديه بقدرته على معاودة النهوض. بينما من الممكن أن يتم فهم قرار الانسحاب الأميركي استسلاماً.

هجمات عشوائية

من جهة أخرى يعطي الفرصة لأطراف دولية أخرى للتدخل بشكل أقوى مثل إيران... وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية تؤكد استمرار نهجها في سوريا والضربات الجوية في المنطقة والعمل مع الشركاء في التحالف من أجل هزيمة «داعش»؛ إلا أن على الحلفاء «تحمل مسؤوليات جديدة».
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من جهته، خلال خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة: «ما زلنا ملتزمين بالتفكيك الكامل لتهديد (داعش) والمعركة المستمرة ضد الإسلام الراديكالي بكل أشكاله»... وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تم أخيراً إجلاء ما يصل إلى 2200 شخص من ضمنهم 180 مقاتلاً ينتمون إلى «داعش» من آخر معقل للتنظيم، والذي كان تحت سيطرته في عام 2014. وعلى الرغم من تبعثر التنظيم الداعشي وتفككه؛ فإن أعضاءه لا يزالون موجودين في المناطق الحدودية، ويمارسون هجمات عشوائية تتخذ من نهج حرب العصابات مسلكاً لها والإتيان بهجمات عشوائية مثل ما حدث في هجوم منبج.
فيما يثير انسحاب القوات الأميركية حيال كيفية التعامل مع الأعداد الكبيرة، المقاتلين المنتمين إلى «داعش» الموجودين في السجون السورية، بالأخص في ظل عدم وجود إمكانيات كفيلة بالتعامل معهم، ومن ضمنهم العديد من المقاتلين الأجانب ممن ترفض دولهم استقبالهم خوفاً من تأثيرهم على مواطنيهم، سواء عبر بث الآيديولوجية المتطرفة أم من خلال شن هجمات إرهابية.
داعشيون آخرون سعوا للانتقال خارج سوريا إلى صحراء العراق بالقرب من منطقة الأنبار، وكجزء أكبر من استراتيجية التنظيم، يظهر الاهتمام في إيجاد مناطق نفوذ جديدة مثل ليبيا وأفغانستان وحتى الصومال ودول أخرى... الأمر الذي يلقي الضوء على ضرورة اجتثاث الفكر الآيديولوجي المتطرف مثل ذلك الذي ينشره «داعش» من أجل إيقاف قدرته على التغلغل إلى المتعاطفين، أو أولئك الذين لديهم قابلية للتطرف والأدلجة. فمدى خطورة التنظيم الداعشي يتجلى قدرته على إقناع أعضائه بتكفير حتى المسلمين وقتلهم، على اعتبار أنه التنظيم الأكثر تشدداً وشيطنة للآخرين منذ بدء أنشطته في العراق عام 2014، إذ نشأ مؤجِّجاً للطائفية مما يزيد من الاضطراب في المنطقة. إلا أن «داعش» في الآونة الأخيرة يواجه تقهقراً إعلامياً إذا ما قورن بفترة انتعاشته في بداية عهده، وذلك نتيجة لتحالف العالم من أجل الحد من قدرته على التأثير وحجب وتعطيل أنشطته وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.

ندم واعتذار

من جهة أخرى ظهر عبر وسائل الإعلام التقليدية العديد من اللقاءات مع مقاتلين سابقين انتموا إلى التنظيم وتراجعوا عنه على نسق أبو حذيفة الكندي في لقاء تلفزيوني وهو يحمل الجنسيتين الكندية والباكستانية، قال «إنه نادم على انضمامه إلى (داعش)، وقد جلس لمدة 5 أشهر في مدينة منبج السورية، وعاد إلى كندا»، وذكر أنه يعاني من كوابيس، وأنه على المواطنين الكنديين عدم القلق من المقاتلين السابقين مثله، فهم يرغبون فقط في نسيان ما حدث والمضي قدماً. بغض النظر عن مدى تقهقر الحراك الداعشي في سوريا؛ إلا أن ذلك لا يعني اقتراباً من الاستقرار الأمني أو التخلص من الجماعات المتطرفة فيها، إذ يُقدر عدد القتلى في سوريا نتيجة الهجمات الإرهابية بما يزيد على 34.853 وهي ليست نتاجاً من تنظيم داعش فحسب. ما يمكن توقعه هو أنه سيصبح هناك قلب لموازين التنظيمات، وترجيح كفة الميزان لصالح تنظيمات أصولية أخرى.
ويبدو ذلك جلياً في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، والتي أصبحت ملاذاً لتنظيم القاعدة، وقد سعت «هيئة تحرير الشام»، وهي «جبهة النصرة» سابقاً للاستحواذ على المنطقة منذ أن أعلنت خروجها عن عباءة «القاعدة». بالأخص بعد أن تم الإعلان عن حدوث اتفاق بين تنظيم «هيئة تحرير الشام» والفصائل السورية الموالية لتركيا، الأمر الذي مكّنها من التخلص منها مثل «جبهة التحرير الوطنية»... وقد نشرت حسابات مرتبطة بجبهة النصرة صوراً تُظهر بنود اتفاق بخط اليد بتاريخ 10 يناير (كانون الثاني) الماضي، ما ينص على وقف إطلاق النار وتبادل الموقوفين إثر المعارك التي خاضها الطرفان أخيراً، وخروج القوات الكردية والأميركية من المنطقة.

حرب عصابات

ويظل توقُّع انقراض تنظيم متطرف على حساب آخَر أمراً شديد الصعوبة، لا سيما أن حرب العصابات تستلزم استسلاماً، وهو ما ترفض غالبية هذه التنظيمات القيام به، والاستعاضة عن ذلك بالركون، حتى يتم الحصول على فرص تمكنها من النهوض من جديد.
ففي الوقت الذي سحب فيه «داعش» البساط من «القاعدة» منذ 2014 في كلٍّ من الرقة والموصل والمدن الأخرى، نشهد أخيراً معاودة تنظيمات تابعة للقاعدة واستحواذها على مدن أخرى مثل إدلب، أو دول أخرى مثل اليمن، فيما نهض «داعش» وحاول احتلال جبال تورا بورا معقل أسامة بن لادن، من أجل وضع لوائه فيها وإثبات قوة وجوده. وبعد أن تمكن تنظيم القاعدة من سرقة الوهج الإعلامي لأي تنظيم آخر في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إلا أن الحيثيات المتعلقة بالبروباغندا والحملات الدعائية للجماعات المتطرفة تغيرت، بعد أن أصبح العالم الإلكتروني هو القادر على الوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص ليظفر تنظيم داعش بذلك الوهج.
الأمر الذي يصعب فيه أن يصل المحللون إلى وجود احتمال للتخلص نهائياً من التنظيمات المتطرفة لا سيما في المناطق المنهكة سياسياً وأمنياً والقابلة للسيطرة من قِبل الميليشيات والجماعات الإرهابية. بل لا يزال هناك احتمال ظهور تنظيمات جديدة في ما بعد نبعت جراء الوضع المستفحل في المنطقة نتيجة تعقيد الصراعات المنقسمة في سوريا، التي وقع ضحيةً لها أهالي سوريا نتيجة تفشي العنف والهجمات الإرهابية وإثارة الرعب في قلوبهم، والذي يحمل انعكاسات بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي في سوريا، بعد أن أصبح هناك تسييس للدين من خلال الميليشيات المتطرفة وظهور الطائفية من خلال توجهات المقاتلين المختلفة، والسعي نحو أدلجة المجتمع واستقطاب رجاله وشبانه وحتى صغاره.

مراكز دعوية

وقد ظهر العديد من المساعي من قبل التنظيمات المتطرفة من أجل التأثير على الأهالي السوريين، على نسق المراكز الدعوية التي تظهر أنشطتها إلكترونياً مثل «مركز دعاة الجهاد»، و«مركز دعاة التوحيد» الذي يقوم باستقطاب الشبان وتجنيدهم من خلال الحلقات الدينية والمعسكرات والحملات الدينية.
تنظيم آخر سعى لأدلجة السوريين هو تنظيم «حراس الدين» المتشدد الموالي لتنظيم القاعدة والمتمركز في جنوب شرقي محافظة إدلب، وقد تمكن من استقطاب مزيج من المقاتلين القدامى ممن كانوا منضمين لتنظيم القاعدة، إضافة إلى أعضاء منتمين إلى تنظيم داعش. ويظهر حرص التنظيم على التغلغل في المجتمع السوري من خلال ممارسة الضغوط حتى على الجامعات، مثل اقتحامه جامعة إدلب في ريف المدينة، التي قام بتهديدها بغلقها قسرياً في حال استمرت على نهج الاختلاط بين الجنسين، وهو التهديد نفسه الذي تعرضت له من «هيئة تحرير الشام»، الأمر الذي يدل على سعيهم لفرض التغيير في النسيج الاجتماعي والأنماط الحياتية المعيشة وخلق التشدد الديني... فالعديد من الحيثيات تؤكد ضرورة إعادة تهيئة المجتمع السوري في ما بعد، لتخليصه من أدلجة الدين وتسييسه من قبل المتطرفين وتأثر ووقوع ضحايا في أسر فكره، ليصبح ذلك جزءاً من الاستراتيجيات المدرجة في مرحلة ما بعد الصراع.


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».