أثارت تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن بلاده هزمت تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، تساؤلات حول مستقبل الاستقرار الأمني فيها. لا سيما أن المجتمع السوري ما زال تحت عبء أعداد كبيرة من التنظيمات الأصولية المتشددة، والتي تتعاقب في مدى تسلمها لزمام الأمور، ما بين من يصبح أكثر تأثيراً، ومن يخفت وهجه من هذه التنظيمات المتطرفة.
إذا ما كان قرار انسحاب القوات الأميركية من سوريا نتيجة سقوط الأماكن التي كانت تحت نفوذ التنظيم الداعشي؛ إلا أن ذلك لا يدل على اختفاء وجودهم في الفضاء السوري، وينعكس ذلك من خلال الهجوم الانتحاري الأخير الذي تعرضت له مدينة منبج في شمال سوريا، والذي أسفر عن 19 ضحية بينهم أربعة أميركيين. وذكرت وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية لـ«داعش» إقرار التنظيم بأن مقاتلاً ينتمي إليه قام بتفجير سترته الناسفة مستهدفاً دورية لقوات التحالف.
وفي ذلك استدلال على أن التنظيم استغل مناسبة الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية لإثبات وجوده، مما يخالف ما صرح به الرئيس الأميركي، وتأكيد أن «داعش» لا يزال صامداً قادراً على الاستمرار. وذكر السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، أن تصريحات ترمب بخصوص قرار الانسحاب من سوريا أدت إلى إثارة الحماسة لدى «داعش» أو إعادة الأمل لديه بقدرته على معاودة النهوض. بينما من الممكن أن يتم فهم قرار الانسحاب الأميركي استسلاماً.
هجمات عشوائية
من جهة أخرى يعطي الفرصة لأطراف دولية أخرى للتدخل بشكل أقوى مثل إيران... وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية تؤكد استمرار نهجها في سوريا والضربات الجوية في المنطقة والعمل مع الشركاء في التحالف من أجل هزيمة «داعش»؛ إلا أن على الحلفاء «تحمل مسؤوليات جديدة».
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من جهته، خلال خطابه الذي ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة: «ما زلنا ملتزمين بالتفكيك الكامل لتهديد (داعش) والمعركة المستمرة ضد الإسلام الراديكالي بكل أشكاله»... وفقاً لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تم أخيراً إجلاء ما يصل إلى 2200 شخص من ضمنهم 180 مقاتلاً ينتمون إلى «داعش» من آخر معقل للتنظيم، والذي كان تحت سيطرته في عام 2014. وعلى الرغم من تبعثر التنظيم الداعشي وتفككه؛ فإن أعضاءه لا يزالون موجودين في المناطق الحدودية، ويمارسون هجمات عشوائية تتخذ من نهج حرب العصابات مسلكاً لها والإتيان بهجمات عشوائية مثل ما حدث في هجوم منبج.
فيما يثير انسحاب القوات الأميركية حيال كيفية التعامل مع الأعداد الكبيرة، المقاتلين المنتمين إلى «داعش» الموجودين في السجون السورية، بالأخص في ظل عدم وجود إمكانيات كفيلة بالتعامل معهم، ومن ضمنهم العديد من المقاتلين الأجانب ممن ترفض دولهم استقبالهم خوفاً من تأثيرهم على مواطنيهم، سواء عبر بث الآيديولوجية المتطرفة أم من خلال شن هجمات إرهابية.
داعشيون آخرون سعوا للانتقال خارج سوريا إلى صحراء العراق بالقرب من منطقة الأنبار، وكجزء أكبر من استراتيجية التنظيم، يظهر الاهتمام في إيجاد مناطق نفوذ جديدة مثل ليبيا وأفغانستان وحتى الصومال ودول أخرى... الأمر الذي يلقي الضوء على ضرورة اجتثاث الفكر الآيديولوجي المتطرف مثل ذلك الذي ينشره «داعش» من أجل إيقاف قدرته على التغلغل إلى المتعاطفين، أو أولئك الذين لديهم قابلية للتطرف والأدلجة. فمدى خطورة التنظيم الداعشي يتجلى قدرته على إقناع أعضائه بتكفير حتى المسلمين وقتلهم، على اعتبار أنه التنظيم الأكثر تشدداً وشيطنة للآخرين منذ بدء أنشطته في العراق عام 2014، إذ نشأ مؤجِّجاً للطائفية مما يزيد من الاضطراب في المنطقة. إلا أن «داعش» في الآونة الأخيرة يواجه تقهقراً إعلامياً إذا ما قورن بفترة انتعاشته في بداية عهده، وذلك نتيجة لتحالف العالم من أجل الحد من قدرته على التأثير وحجب وتعطيل أنشطته وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.
ندم واعتذار
من جهة أخرى ظهر عبر وسائل الإعلام التقليدية العديد من اللقاءات مع مقاتلين سابقين انتموا إلى التنظيم وتراجعوا عنه على نسق أبو حذيفة الكندي في لقاء تلفزيوني وهو يحمل الجنسيتين الكندية والباكستانية، قال «إنه نادم على انضمامه إلى (داعش)، وقد جلس لمدة 5 أشهر في مدينة منبج السورية، وعاد إلى كندا»، وذكر أنه يعاني من كوابيس، وأنه على المواطنين الكنديين عدم القلق من المقاتلين السابقين مثله، فهم يرغبون فقط في نسيان ما حدث والمضي قدماً. بغض النظر عن مدى تقهقر الحراك الداعشي في سوريا؛ إلا أن ذلك لا يعني اقتراباً من الاستقرار الأمني أو التخلص من الجماعات المتطرفة فيها، إذ يُقدر عدد القتلى في سوريا نتيجة الهجمات الإرهابية بما يزيد على 34.853 وهي ليست نتاجاً من تنظيم داعش فحسب. ما يمكن توقعه هو أنه سيصبح هناك قلب لموازين التنظيمات، وترجيح كفة الميزان لصالح تنظيمات أصولية أخرى.
ويبدو ذلك جلياً في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، والتي أصبحت ملاذاً لتنظيم القاعدة، وقد سعت «هيئة تحرير الشام»، وهي «جبهة النصرة» سابقاً للاستحواذ على المنطقة منذ أن أعلنت خروجها عن عباءة «القاعدة». بالأخص بعد أن تم الإعلان عن حدوث اتفاق بين تنظيم «هيئة تحرير الشام» والفصائل السورية الموالية لتركيا، الأمر الذي مكّنها من التخلص منها مثل «جبهة التحرير الوطنية»... وقد نشرت حسابات مرتبطة بجبهة النصرة صوراً تُظهر بنود اتفاق بخط اليد بتاريخ 10 يناير (كانون الثاني) الماضي، ما ينص على وقف إطلاق النار وتبادل الموقوفين إثر المعارك التي خاضها الطرفان أخيراً، وخروج القوات الكردية والأميركية من المنطقة.
حرب عصابات
ويظل توقُّع انقراض تنظيم متطرف على حساب آخَر أمراً شديد الصعوبة، لا سيما أن حرب العصابات تستلزم استسلاماً، وهو ما ترفض غالبية هذه التنظيمات القيام به، والاستعاضة عن ذلك بالركون، حتى يتم الحصول على فرص تمكنها من النهوض من جديد.
ففي الوقت الذي سحب فيه «داعش» البساط من «القاعدة» منذ 2014 في كلٍّ من الرقة والموصل والمدن الأخرى، نشهد أخيراً معاودة تنظيمات تابعة للقاعدة واستحواذها على مدن أخرى مثل إدلب، أو دول أخرى مثل اليمن، فيما نهض «داعش» وحاول احتلال جبال تورا بورا معقل أسامة بن لادن، من أجل وضع لوائه فيها وإثبات قوة وجوده. وبعد أن تمكن تنظيم القاعدة من سرقة الوهج الإعلامي لأي تنظيم آخر في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إلا أن الحيثيات المتعلقة بالبروباغندا والحملات الدعائية للجماعات المتطرفة تغيرت، بعد أن أصبح العالم الإلكتروني هو القادر على الوصول إلى أكبر عدد من الأشخاص ليظفر تنظيم داعش بذلك الوهج.
الأمر الذي يصعب فيه أن يصل المحللون إلى وجود احتمال للتخلص نهائياً من التنظيمات المتطرفة لا سيما في المناطق المنهكة سياسياً وأمنياً والقابلة للسيطرة من قِبل الميليشيات والجماعات الإرهابية. بل لا يزال هناك احتمال ظهور تنظيمات جديدة في ما بعد نبعت جراء الوضع المستفحل في المنطقة نتيجة تعقيد الصراعات المنقسمة في سوريا، التي وقع ضحيةً لها أهالي سوريا نتيجة تفشي العنف والهجمات الإرهابية وإثارة الرعب في قلوبهم، والذي يحمل انعكاسات بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي في سوريا، بعد أن أصبح هناك تسييس للدين من خلال الميليشيات المتطرفة وظهور الطائفية من خلال توجهات المقاتلين المختلفة، والسعي نحو أدلجة المجتمع واستقطاب رجاله وشبانه وحتى صغاره.
مراكز دعوية
وقد ظهر العديد من المساعي من قبل التنظيمات المتطرفة من أجل التأثير على الأهالي السوريين، على نسق المراكز الدعوية التي تظهر أنشطتها إلكترونياً مثل «مركز دعاة الجهاد»، و«مركز دعاة التوحيد» الذي يقوم باستقطاب الشبان وتجنيدهم من خلال الحلقات الدينية والمعسكرات والحملات الدينية.
تنظيم آخر سعى لأدلجة السوريين هو تنظيم «حراس الدين» المتشدد الموالي لتنظيم القاعدة والمتمركز في جنوب شرقي محافظة إدلب، وقد تمكن من استقطاب مزيج من المقاتلين القدامى ممن كانوا منضمين لتنظيم القاعدة، إضافة إلى أعضاء منتمين إلى تنظيم داعش. ويظهر حرص التنظيم على التغلغل في المجتمع السوري من خلال ممارسة الضغوط حتى على الجامعات، مثل اقتحامه جامعة إدلب في ريف المدينة، التي قام بتهديدها بغلقها قسرياً في حال استمرت على نهج الاختلاط بين الجنسين، وهو التهديد نفسه الذي تعرضت له من «هيئة تحرير الشام»، الأمر الذي يدل على سعيهم لفرض التغيير في النسيج الاجتماعي والأنماط الحياتية المعيشة وخلق التشدد الديني... فالعديد من الحيثيات تؤكد ضرورة إعادة تهيئة المجتمع السوري في ما بعد، لتخليصه من أدلجة الدين وتسييسه من قبل المتطرفين وتأثر ووقوع ضحايا في أسر فكره، ليصبح ذلك جزءاً من الاستراتيجيات المدرجة في مرحلة ما بعد الصراع.