روما تتغلب على مشاكل السياسة والاقتصاد بالاحتفالات

تميّزت ليلة رأس السنة فيها بعروض الأوبرا والمسرحيات والحفلات الغنائية

ساحة نافونا بوسط روما حيث تقام سوق شعبية سنوية (أ.ب)
ساحة نافونا بوسط روما حيث تقام سوق شعبية سنوية (أ.ب)
TT

روما تتغلب على مشاكل السياسة والاقتصاد بالاحتفالات

ساحة نافونا بوسط روما حيث تقام سوق شعبية سنوية (أ.ب)
ساحة نافونا بوسط روما حيث تقام سوق شعبية سنوية (أ.ب)

حين تسمع الأخبار أو تقرأ الصحف في العاصمة الإيطالية يمكنك أن تظن أن نهاية العالم أصبحت قريبة، فالساسة في إيطاليا يتشاحنون باستمرار، والاقتصاد في انهيار، لكن حيوية الشعب الإيطالي وحبه للثقافة والمرح والاحتفال بأعياد عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة يفوقان المشاكل اليومية والمظاهرات والإضرابات المتتالية وتنبؤات المتشائمين. وحملت الوكالات صورا لاحتفالات متعددة أقيمت في ساحات شهيرة في فلورنسا وفينيسيا وحول المعلم الإيطالي الأشهر «الكولوسيوم» في روما.
وعموما تتميز احتفالات رأس السنة في روما بوجبة سخية يتصدرها السمك وفواكه البحر، وحسب التقاليد الوراثية لا بد من صحن العدس الذي يجلب الحظ السعيد ثم رمي الملابس القديمة من الشباك لوداع الماضي حين تدق الساعة معلنة بدء العام الجديد. وتعددت الخيارات أمام المحتفلين هذا العام، فما بين رؤية مسرحية لشكسبير أو جورج برنارد شو (باللغة الإيطالية طبعا) أو حضور عرض موسيقي ليوهان شتراوس وليهار على أنغام رقصة الفالس أو باليه راقصة لتشايكوفسكي أو تناول وجبة حافلة من خمسة أطباق مع كل المشارب والحلويات، أو الرقص الحديث الصاخب في المرابع الليلية، أو سماع مشاهير المغنين في الصالات الضخمة أو التفرج على اللوحات العالمية في المتحف، أو قضاء ليلة تاريخية مجانية في روما القديمة على أنغام المطربين الجدد ثم الاستمتاع بعرض الألعاب النارية.
وكما هي العادة السنوية لدى أشهر دور الأوبرا والباليه العالمية التي تعرض باليهات شهيرة للموسيقار تشايكوفسكي، عرضت دار الأوبرا بروما باليه «بحيرة البجع» حول الأميرة التي تحولت إلى بجعة إثر لعنة الساحر عليها، وحين يراها الأمير وهو يهم برشق بسهمه لاصطيادها تتحول إلى حسناء فاتنة تحضر حفلا راقصا في قصره، لكنها حيلة الساحر الشرير لأنه بعث بشبيهة لها، وفي النهاية يضحي الأمير بحياته من أجلها ويموت كلاهما، وبذا ينفك السحر ويلقى الساحر حتفه. تعرض هذا الباليه بدل باليه «كسارة البندق»، الذي نراه عادة في عواصم العالم خلال أعياد الميلاد، إنما بإمكانك الاستماع إليها في حفل موسيقي غير راقص في مسرح كبير قريب من مدينة الفاتيكان.
ومن دار الأوبرا شهدت الساحات الشهيرة في العاصمة الإيطالية عددا كبيرا من الزوار، ومنها ساحة نافونا بوسط العاصمة حيث تقام كل عام سوق للمآكل والحلويات وألعاب الأطفال، وتنتشر حوله المطاعم والمقاهي في هذه الساحة الخلابة وفيها تماثيل النحات الشهير برنيني وأشهرها «الأنهر الأربعة». تستمر السوق حتى الخامس من شهر يناير (كانون الثاني) الحالي بعد الاحتفال بعيد البيفانا وهي المرأة العجوز التي تجلب الهدايا للصغار مثل بابا نويل.
أما محبو الموسيقى الإيطالية الخفيفة فاتجهوا إلى أحد مسارح حديقة الموسيقى لرؤية «ليلة الأحلام» مع نجم الغناء المشهور ماسيمو رينييري في ليلة 31 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أما أتباع الموسيقى الكلاسيكية فينتظرون حتى 5 يناير الحالي لرؤية أكبر عازف إيطالي معاصر على البيانو وهو موريتزيو بوليني في حفل بمناسبة عيد البيفانا، يقدم فيه مقطوعات من موسيقى شوبان وديبوسي.
وفي ليلة رأس السنة تنافست مئات المطاعم والمراقص على اجتذاب الجمهور بكل المغريات.. على سبيل المثال هناك العشاء الخاص في قصر جسر ميلفيو التاريخي في شمال العاصمة المبني مائة سنة قبل الميلاد، حيث أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين بعد انتصاره تحول الإمبراطورية من الوثنية إلى المسيحية في القرن الرابع الميلادي، أو الرقص في الديسكو بنصف السعر أو الإقامة في القصر ليلة رأس السنة، وربما يتسنى لمن لا تعوق كاهلهم المصاريف جمع النشاطات الثلاثة كلها.
كما شهد قصر المؤتمرات في جنوب المدينة حفلا للمغني الألماني بول كالكبرينر صاحب الموسيقى الإلكترونية، بينما أقام المغني الإيطالي المخضرم الشهير بيبينو دي كابري حفلا في المسرح الكبير (غراند تياترو) في شمال المدينة قرب جسر ميلفيو، وقد يعرف بعض الذواقة العرب للفن هذا المطرب الكبير أيام شبابه في الستينات حين كان يغني في بيروت في فندق الكومودور بشارع الحمراء.
الحفل الكبير لرأس العام أقامته بلدية روما قرب أهم أثر تاريخي في المدينة وهو الكولوسيوم المدرج التاريخي الروماني، حيث كانت الجماهير تنعم باللهو والمرح أيام الرومان، وانتهى الحفل بالألعاب النارية المبهرة. وتوقع المنظمون أن يبلغ عدد الحضور ما يزيد على 60 ألف متفرج، خاصة لأن الدخول مجاني، وأحيا الحفل نجوم من مغني البوب والموسيقى الشبابية في إيطاليا وعلى رأسهم مليكة أيانه، وهي مغنية صاعدة من أب مغربي وأم إيطالية ولدت في ميلانو عام 1984، وتدربت في معهد فيردي للموسيقى الكلاسيكية، وشاركت في مهرجانات سان ريمو السنوية للغناء، كما شاركت بعض المغنين المعروفين في الغناء مثل أندريا بوتشيللي وفرانشيسكو دي غريغوري. من المغنين الناشئين أيضا نينا زيللي التي مثلت إيطاليا في مسابقة يوروفيزيون في العام الماضي في أذربيجان والمغني دانييل سيلفستري صاحب الأغنية المحبوبة «عيون شرقية»، وكذلك الفرقة الموسيقية الإيطالية «راديشي نيل شيمنتو» (جذور في الإسمنت) المعروفة بألحان موسيقى الريغي من أميركا الوسطى، وقد اختاروا اسم الفرقة من فكرة تصورهم للمجتمع حيث يخنق الإسمنت الأشجار في الطرقات فتضطر إلى تحويل نمو جذورها إلى أعماق الأرض.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».