روسيا تريد حلّ لغز «فريق دياتلوف» بعد 60 عاماً من الغموض

روايات كثيرة حول موت 9 طلّاب من عشّاق التزلج

«بورتريه سيكولوجي» لكل من الضحايا
«بورتريه سيكولوجي» لكل من الضحايا
TT

روسيا تريد حلّ لغز «فريق دياتلوف» بعد 60 عاماً من الغموض

«بورتريه سيكولوجي» لكل من الضحايا
«بورتريه سيكولوجي» لكل من الضحايا

ستون عاما كاملة مضت على حادثة يلفّها الغموض حتى يومنا هذا. يعرفها أي مواطن من الجمهوريات السوفياتية السابقة باسم حادثة «فريق دياتلوف». وما دفع بهذه القصة الغريبة إلى الواجهة مجدداً، إعلان النيابة العامة الرّوسية يوم أمس، عزمها إعادة التحقيق في الحادثة، في محاولة جديدة لإزالة الغموض الذي يلفّها.
أمّا فصول هذه القصة الغامضة فقد بدأت من تشكيل مجموعة سياحية، من عشّاق التزلج على الثّلج، ضمّت ستة طلاب من معهد الأورال للبولتكنيك، ومعهم ثلاثة خريجين من المعهد ذاته، فضلا عن متخصّص خبير في التزلج والمسير الشّتوي، شكّلوا معاً في فبراير (شباط) من العام 1959. مجموعة سياحية قادها إيغر دياتلوف، طالب السنة الخامسة في المعهد، ولذلك سُميت الحادثة باسمه، وكذلك يحمل اسمه الجبل الذي وقعت فيه الحادثة.
وضعت المجموعة خطّة المسير في نهاية يناير (كانون الثاني)، وانطلقوا بعد أيام بين قرى في شمال الأورال، وهدفهم النهائي الصّعود إلى قمم جبلي «أوتورتين» و«أويكو - تشاكور». ووفق تلك الخطة كان من المفترض أن يرسلوا برقية عند وصولهم منطقة محددة، في موعد أقصاه 14 فبراير. إلّا أنّهم لم يرسلوا أي برقية. ومن ثمّ لم يصلوا في الموعد المحدّد (20 فبراير) إلى قرية كانت النّقطة النهائية في المسير. عندها شُكّلت فِرق بحث وإنقاذ. وفي 26 فبراير عثر فريق بحث على خيمة تعود للمجموعة بالقرب من قمة جبل هناك، وفيها أغراضهم ووثائقهم الشّخصية. وفي اليوم التالي عثروا على جثث أربعة من أعضاء المجموعة، ملقاة باتجاهات مختلفة، على مسافات بعيدة عن الخيمة، بينهم دياتلوف، قائد المجموعة. وفي شهر مارس (آذار) عثروا على جثة خامسة، بينما لم يُعثر على جثث الأربعة المتبقين إلّا في شهر مايو (أيار)، بعد ذوبان الثلج، وكانت جثثهم على بعد نحو 2.5 كم عن موقع الخيمة. ولم ينجُ من الحادثة سوى شاب واحد، تخلّف عن المسير بسبب إصابة في قدمه.
الغموض بدأ مع بداية التحقيقات، حين قال المحققون إنّ أعضاء المجموعة، لأسباب مجهولة، خرجوا من الخيمة في 2 فبراير، من دون أن يأخذوا معهم ألبسة دافئة، واتّجهوا نحو أسفل الجبل، إلّا أنّهم أخطأوا الاتجاه، وقرّر بعضهم العودة لأخذ ألبسة، ولم يتمكنوا من ذلك بسبب عاصفة شديدة، ولقي الجميع حتفهم خلال ساعات. نتائج التشريح كشفت أنّ ستة منهم ماتوا بسبب البرد، وعلى الجثث الأخرى عثر أطباء التشريح على إصابات داخلية، من دون علامات خارجية على الجسد، ناجمة عن «تأثير قوة شديدة لم تُحدّد». وكان مثيرا للاهتمام استنتاج التحقيق بأن أعضاء الفريق فتحوا شقّاً في الخيمة، وعلى ما يبدو أنّهم غادروها على عجل، الأمر الذي يثير حتى اليوم تساؤلات في الأسباب التي دفعتهم لذلك. ولم تتأكد أي من فرضيات التحقيق، بأنّ لصوصا ربما قاموا بذلك، أو سكانا من القبائل المحلية، لأنّ كل مقتنيات الضحايا كانت في الخيمة من دون أن يمسها أحد. حينها قرّرت النيابة العامة إغلاق القضية وقالت إنّ أعضاء المجموعة ماتوا نتيجة تعرضهم لقوة طبيعة خارقة لم يتمكنوا من مواجهتها.
منذ ذلك الحين صدرت مئات الرّوايات في أسباب مصرعهم. البعض يؤكد أنّ كائنات فضائية تزور تلك المنطقة، وأنّ تلك الكائنات لسبب ما، قتلت المجموعة وألقت جثثهم في مناطق مختلفة. وقال آخرون إنّ العلماء السوفيات كانوا يُجرون أبحاثا سرّية في إمكانية نقل الأجسام بواسطة تردّدات معينة، وقتل جنود أعضاء المجموعة بعد أن دخلوا الأنفاق واكتشفوا ما يجري هناك. وقد أُنتج فيلم سينمائي يتبنى هذه الرواية. وهناك من يقول إنّ «لعنة» الجبل هي التي سببت لهم الذّعر وجعلتهم يفرّون من الخيمة، حفاة من دون ملابس شتوية أو معدّات مناسبة، وركضوا في جهات مختلفة، فقتلهم البرد خلال العاصفة. وحتى يومنا هذا تبقى غامضة ومجهولة، الأسباب التي دفعت 9 شبان وفتيات، للهرب من الخيمة على عجل لدرجة أنّهم لم ينتظروا إلى حين فتح بابها، بل فتحوا شقا في جدارها وخرجوا عبره، حفاة بألبسة خفيفة، رغم أنّ درجة الحرارة يومها، كانت 30 درجة مئوية تحت الصّفر. كما يثير تساؤلات عدم وجودهم معاً، وإنّما تناثر جثثهم في مناطق مختلفة بعيداً عن الخيمة. هذا فضلا عن طبيعة تلك الإصابات الغريبة في أجسامهم التي لم تترك علامات ظاهرة، وإنّما تسببت بأضرار داخلية مميته لأعضاء الجسم.
في محاولتها الجديدة لإزالة الغموض عن تلك القضية، تعتمد النيابة العامة الرّوسية ثلاث فرضيات رئيسية، كلها على صلة بطبيعة المنطقة، منها أنّ انهيارا ثلجياً كان خلف الحادثة، ودفع أعضاء المجموعة للهرب بسرعة مذعورين باتجاهات مختلفة. وهناك فرضية بأنّ صفيراً يصدر في المنطقة نتيجة تضاريس الجبل، ربما سبب للمجموعة حالة فقدان سيطرة على الأعصاب وأدى إلى هذه النهاية المأساوية. وسيضع المحققون «بورتريها سيكولوجيا» لكل واحد من الضحايا، وسيدرسون الكثير من المعطيات عن طبيعة المكان وغيرها، للكشف عن ملابسات ما جرى منذ 60 عاماً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)