تحالف عالمي لتطوير قاعات العرض في المتحف المصري

المتحف المصري في التحرير من الخارج
المتحف المصري في التحرير من الخارج
TT

تحالف عالمي لتطوير قاعات العرض في المتحف المصري

المتحف المصري في التحرير من الخارج
المتحف المصري في التحرير من الخارج

تعلن وزارة الآثار المصرية في 10 فبراير (شباط) المقبل، عن خطة تطوير المتحف المصري في التحرير، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بتكلفة إجمالية تقدر بـ3 ملايين و100 ألف يورو، تُنفّذ على 5 مراحل خلال 5 سنوات.
وفي ذلك، قال الدكتور حسن سليم، رئيس لجنة سيناريو العرض المتحفي في المتحف المصري، لـ«الشرق الأوسط» إن «خطة تطوير المتحف المصري تُصاغ من خلال تحالف متاحف، يضم أهم 5 متاحف في العالم، وهي المتحف المصري بتورينو، ومتحف اللوفر، والمتحف البريطاني، ومتحف برلين، ومتحف ليدن في هولندا، إضافة إلى المكتب الاتحادي للبناء والتخطيط الإقليمي، والمعهد الفرنسي لعلوم الآثار، والمعهد المركزي للآثار»، مشيراً إلى أن «هذا التحالف يعكف على العمل مع لجنة علمية مصرية لوضع تصور لسيناريو العرض المتحفي للمتحف المصري، في أعقاب نقل مجموعة من القطع الأثرية منه إلى المتحف الكبير».
وكانت إلهام صلاح، رئيسة قطاع المتاحف في وزارة الآثار، قد أكّدت في تصريحات صحافية سابقة أنّه «تم اختيار أهم 5 آلاف قطعة أثرية للحفاظ على هوية المتحف، ويجري حالياً وضع تصور لسيناريو العرض، باستخدام التكنولوجيا، لمنحه صبغة عالمية، من دون المساس بهويته وتاريخه»، لافتة إلى أنّه «سيُحتفظ بفكرة سيناريو العرض الحالية المعتمدة على الزمن أو (عقارب الساعة) في سيناريو العرض الجديد».
وأعلن الاتحاد الأوروبي قبل أيام، عن تعاون المتاحف الأوروبية مع مصر لتطوير المتحف المصري في التحرير، ووضع رؤية استراتيجية له.
ويرجع تاريخ إنشاء المتحف المصري في التحرير إلى القرن التاسع عشر، وقد بدأ بمبنى صغير في الأزبكية عام 1835، ومن ثمّ انتقل إلى أكثر من مكان، قبل أن يستقر في موقعه الحالي. ففي عام 1897 وضع المعماري الفرنسي مارسيل دورنون تصميم المتحف على ضفاف النيل، في امتداد ثكنات الجيش البريطاني في ذلك الوقت، ووُضع حجر أساس المتحف في الأول من أبريل (نيسان) عام 1897، في حضور الخديوي عباس حلمي الثاني، وافتُتح المتحف في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1902.عانى المتحف على مدار سنوات من تكدّس القطع الأثرية، التي وصلت إلى أكثر من 160 ألف قطعة، حتى لقّبه البعض بالمخزن، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء متاحف أخرى، مثل المتحف المصري الكبير، ومتحف الحضارة، بهدف تفريغ المتحف المصري، وإعادة الحياة له.
وأوضح سليم، أن «خطة تطوير المتحف مقسمة على 5 مراحل، وتستمر لمدة 5 سنوات»، مشيراً إلى أن «المرحلة الأولى تستمر لمدة عامين، ومن المفترض أن تتضمّن وضع الخطة العامة للمتحف، والتصور الخاص بالمعروضات في المدخل»، لافتاً إلى أن «التصور المقترح لسيناريو العرض المتحفي حتى الآن يعتمد على الترتيب الزمني للحقب والعصور الأثرية». وقال إن «العرض يبدأ بوضع قطع أثرية من عصور ما قبل التاريخ، وعصري الأسرة الأولى والثانية، وسيتم اختيار القطع بعناية، مع الحرص على أن تكون قطعاً متفردة، (أيقونات) تظهر الإبداع في تلك الفترة». وأضاف أن «من بين أهم القطع المختارة في هذه الفترة (رأس بين سلامة)، أول رأس لمعبود، وتليها مقبرة الزعيم المعروفة بالمقبرة 100 باعتبارها أول رسم في الحضارة المصرية، من ثم نضع تمثالين للملك نع مر وزوجته، وهما تمثالان نادران لا يملكهما أي متحف من متاحف العالم، ثم ستُوزّع القطع الخزفية التي تمثل هذه الفترة وفقاً لترتيب زمني بدءاً من بني سلامة، مروراً بالبداري ونقادة 1، ونقادة 2، ونقادة 3». تابع سليم: «وسيتم الإبقاء على التماثيل الأربعة الموجودة في الأركان في الغاليري الجنوبي»، مشيراً إلى أن «التمثالين الموجودين على اليمين واليسار للملك بتاح، والملك سنوسرت الأول، سيذهبان للمتحف الكبير ومتحف الحضارة، وآخر تمثالين في شرق وغرب الغاليري الجنوبي سيبقيان في المتحف المصري بالتحرير». وقال إن «أول ما سيبهرك عند دخول المتحف المصري سيكون تمثالين كبيرين لأمنحتب الثالث والملكة تي، وستبقى في المتحف جميع التماثيل الملكية الموجودة على قواعد، في شكل مبهر»، مشيراً إلى أن «القاعتين الموجودتين على الجانبين سيجري تفريغهما وتوضع فيهما مقاعد حتى يتمتع زوار المتحف بمشاهدة روعة الآثار والتماثيل المعروضة، مثلما كان الوضع في السابق أيام أوجست مارييت».
الترتيب الزّمني سيستمر أيضاً في المرحلة الثانية، وفقاً للتصور الحالي، وأوضح سليم: «سيتم في العام الأول وضع جزء من آثار الدولة القديمة، والوسطى؛ حيث سيتم اختيار أهم القطع الأثرية من ناحية الجمال والحضارة»، وقال إن «متحف التحرير سيكون متحفاً للفن المصري». وأضاف أن «الآثار المختارة حالياً للدّولة القديمة هي تماثيل ملكية كا سخت الأسرة الثانية، ومن الأسرة الثالثة الملك زوسر، أمّا من الأسرة الرابعة فاختيرت تماثيل لخوفو وخفرع ومنكورع، ومن الأسرة الخامسة أوسركاف، ونفر رع، ومن الأسرة السادسة تيتي»، مشيراً إلى أن «الدّولة القديمة سيخصص لها 3 غرف في التصور الجديد المقترح، بدلاً من غرفة واحدة حاليا، بعد أن فرغت قاعة حتب حرس، بنقلها للمتحف الكبير، وقاعة خفرع، وقاعة المخزن سيتم فتحها»، لافتاً إلى أنه «سيتم إعادة فتح القاعات على بعضها كما كانت في عهد مارييت؛ حيث سيمرّ الزائر من غرفة التماثيل الملكية، في مدخلها تمثال للملك زوسر، وخلفية مقبرته، ثم يتم توزيع التماثيل الملكية للدولة القديمة، بينما تخصص الغرفة الثانية للأفراد، أما الثالثة فسيعاد بها بناء مقبرة في الغرفة الثالثة».
وأوضح أن «نفس الطريقة سيجري التعامل بها مع آثار الدولة الوسطى؛ حيث ستضم 10 تماثيل لسنوسرت الأول، توضع في واحدة من غرفتي العرض، بينما تخصّص الثانية لباقي آثار تلك الفترة».
ولفت إلى أن «التصور الجديد يجعل قاعات العرض المتحفية مفتوحة بعضها على بعض، بحيث توصل كل قاعة للأخرى، بدلاً من القاعات المغلقة الحالية»، مشيراً إلى أنّه «سيتم تفريغ كل القطع الموجودة في منطقة الغاليري، ما عدا النقوش الملكية الخاصة بمعابد الشمس باعتبارها أهم نقوش ملكية، ليضم المتحف في ثوبه الجديد نقوشاً ملكية، وتماثيل ملكية وتماثيل للأفراد».


مقالات ذات صلة

مصر تستعيد مجموعة قطع أثرية من آيرلندا

شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (يمين) يصافح رئيس الحكومة الآيرلندية سيمون هاريس خلال زيارة إلى دبلن (أ.ف.ب)

مصر تستعيد مجموعة قطع أثرية من آيرلندا

أعلنت وزارة الخارجية المصرية استعادة مجموعة من القطع الأثرية من آيرلندا، وذلك عقب الزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الآيرلندية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي رئيس الوزراء المصري يستعرض إجراءات تخطيط المنطقة المحيطة بالأهرامات والمتحف المصري الكبير

رئيس الوزراء المصري يستعرض إجراءات تخطيط المنطقة المحيطة بالأهرامات والمتحف المصري الكبير

عقد الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء المصري اجتماعاً، الأحد، لاستعراض إجراءات الطرح العالمي لتخطيط المنطقة المحيطة بالأهرامات والمتحف المصري الكبير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق إناء شرب على شكل رأس بيس من واحة الفيوم في مصر يعود إلى العصر البطلمي - الروماني (القرن الرابع قبل الميلاد - القرن الثالث الميلادي)... (جامعة جنوب فلوريدا)

كوكتيلات مخدرة وطقوس سحرية: كشف أسرار أكواب المصريين القدماء

كشف الباحثون عن استخدام أكواب خاصة لتقديم مزيج من العقاقير المخدرة، والسوائل الجسدية، والكحول.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
يوميات الشرق كلب ضال أمام هرم خوفو في منطقة أهرامات الجيزة (أ.ف.ب)

بفضل «أبولو»... «كلاب الأهرامات» تجذب السياح وتنشِّط المبيعات

مقطع مصور غير اعتيادي لكلب يتسلق الهرم يجذب الزوار والسائحين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)