الكويتية مي النقيب تطلق مجموعتها القصصية الأولى في لندن

«الضوء الخفي للأشياء» محاولة لاستحضار روح الكويت كما عايشها جيل الكاتبة

الكاتبة مي النقيب توقع أحد مؤلفاتها (كونا)
الكاتبة مي النقيب توقع أحد مؤلفاتها (كونا)
TT

الكويتية مي النقيب تطلق مجموعتها القصصية الأولى في لندن

الكاتبة مي النقيب توقع أحد مؤلفاتها (كونا)
الكاتبة مي النقيب توقع أحد مؤلفاتها (كونا)

في حفل أُقيم يوم الخميس الماضي في صالة «موزايك» في العاصمة البريطانية لندن، أطلقت الكاتبة الكويتية مي النقيب مجموعتها القصصية الأولى بعنوان «الضوء الخفي للأشياء»، الصادرة عن دار «بلومزبري قطر». وكان الكتاب الصادر باللغة الإنجليزية، قد لاقى أصداء واسعة في العالم العربي لدى إطلاقه أول مرة في العاصمة القطرية الدوحة في شهر أبريل (نيسان) الماضي.
تتميز مجموعة النقيب القصصية بتوظيفها للتقنيات التجريبية على صعيد الشكل، إذ يتكون الكتاب من مجموعة من «القصص القصيرة المترابطة بشكل فضفاض عبر سلسلة من الصور الأدبية المكثفة» التي تقوم، حسب تعبير النقيب، بدور خيط غير مرئي يمتد على طول الكتاب. في كل صورة تقوم إحدى الشخصيات بالتعليق على واحدة من قصص المجموعة العشر.
تقول الكاتبة، التي قضت فترات طويلة من حياتها خارج بلدها الأم، بأن الكتابة الإبداعية بالنسبة لها هي «وسيلة لفتح مساحات تذكرني بالمكان المختلف الذي كانت عليه الكويت». فالكاتبة الأربعينية، التي ولدت في مرحلة حاسمة من تاريخ الكويت، لم يكن عمرها سوى بضعة أشهر عندما غادرت مع عائلتها إلى لندن، ومن ثم إلى إدنبرة، قبل أن يستقر بها المطاف في الولايات المتحدة الأميركية.
تدور أحداث القصص على خلفية الاضطرابات السياسية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط خلال فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، إلا أنها تبتعد عن التعاطي المباشر مع قضايا المنطقة السياسية. وتعالج القصص العشر الحياة اليومية لشخصيات معظمها من أصول عربية وعلاقاتها المباشرة بالأحداث اليومية التي تحمل في داخلها عبق الماضي.
في حوار أجرته مع الكاتبة البريطانية – الفلسطينية سلمى دباغ على هامش الحفل، تقول النقيب بأن كتابها لا يعالج القضايا السياسية بشكل مباشر، وإنما «يصور الحياة اليومية لسكان تلك المنطقة». «الضوء الخفي للأشياء» هو احتفال بماضي المنطقة ومحاولة لاستحضار روح الكويت كما عايشها جيل الكاتبة وجيل أبويها.
عند عودتها إلى بلدها الكويت، حيث تقوم حاليا بتدريس الأدب الإنجليزي في جامعة الكويت، تقول النقيب بأنها صُدمت بالتحول الدراماتيكي الذي طرأ على المجتمع، الذي حسب تعبيرها «كان أكثر انفتاحا وتنوعا» مما هو عليه اليوم. تضيف الكاتبة: «لدى عودتي إلى الكويت بعد فترة طويلة قضيتها في الخارج، لم تعد البلاد كما عرفتها، فعندما أنظر من حولي، أكتشف أن الجميع قد أصيب بحالة أشبه بفقدان الذاكرة، فلا أحد، على ما يبدو، يذكر الكويت التي نشأت فيها».
مجموعة النقيب القصصية تحاول أن تعالج «حالة فقدان الذاكرة» الجماعية هذه، عبر إلقاء الضوء على قيم الانفتاح والتسامح والتنوع التي تغيب عن وعي الأجيال الحالية. جنان، إحدى بطلات المجموعة، تعاني من حالة اغتراب من الواقع الذي أعقب اجتياح صدام للكويت، حيث «لم يعد أي شيء إلى ما كان عليه. فالناس جدد، والأطعمة جديدة، والعادات جديدة، واللغة جديدة».
لا تقتصر أحداث الكتاب على منطقة الشرق الأوسط فحسب، فبالإضافة إلى الكويت ولبنان وفلسطين، تدور بعض القصص في اليونان واليابان أيضا. كما تصور لحظات عابرة في حياة شخصيات لا تحمل الكثير من القواسم المشتركة، سواء من حيث الخلفيات اللغوية أو القومية. في الواقع، وبالنظر إلى حياة النقيب المليئة بالتجوال وعدم الاستقرار المكاني، يصبح هناك سبب وجيه يدعو لقراءة العمل من منظور كونه انعكاس لحالة الاغتراب واللاانتماء التي عانت منها الكاتبة لدى عودتها إلى الكويت. وهو ما تؤكده النقيب في حديث لها في شهر مايو (أيار) مع صحيفة «ذا ناشيونال» الإماراتية الناطقة باللغة الإنجليزية حيث قالت: «بالفعل لدي شعور دائم، كامن في مكان ما، بعدم الاستقرار. ربما، كأن تشعر بأن منزلك هو ليس تماما منزلك».
أحد الأسئلة التي وجهها الحضور للكاتبة خلال حفل توقيع الكتاب كان فيما إذا كانت تفكر بالعربية، لكن النقيب أجابت بالنفي، قائلة بأنها «تفكر وتحلم باللغة الإنجليزية»، فهي في نهاية الأمر لغتها (ولغة والدتها) الأم. في الواقع، قد تكون لغة الكتاب الإنجليزية هي كعب أخيل، أو نقطة ضعف مجموعة النقيب، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن غاية الكاتبة، في نهاية الأمر، هي تذكير الجيل الحالي من أبناء الكويت بماضي بلادهم الجميل. فالترجمة، مهما كانت بديعة، لن توفي الكتاب حقه. وأي محاولة لنقل الكتاب إلى العربية حتما ستفقد «ضوء» النقيب بريقه.
ولكن يبقى السؤال الأهم: ترى هل ستنجح النقيب في محاولتها الأدبية الأولى في مخاطبة الجيل المعاصر من أبناء جلدتها، وإلهاب ذاكرتهم بصور براقة عن ماضي بلادهم الذهبي؟ ربما ليس في هذه المرة، ولكنني على يقين بأنها ستنجح بمهمتها ما أن تبدأ بـ«التفكير» والكتابة باللغة العربية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)