«مدام بترفلاي» في عُمان... تظاهرة ثقافية موسيقية رائعة

استضافتها دار الأوبرا السلطانية في مسقط

مغنية الأوبرا الجورجية نينو ماتشايدزيه
مغنية الأوبرا الجورجية نينو ماتشايدزيه
TT

«مدام بترفلاي» في عُمان... تظاهرة ثقافية موسيقية رائعة

مغنية الأوبرا الجورجية نينو ماتشايدزيه
مغنية الأوبرا الجورجية نينو ماتشايدزيه

من كان يظن أنّه سيرى واحدة من أروع المسرحيات الموسيقية في التاريخ للموسيقار الإيطالي بوتشيني عن قصة الحب والخيانة والانتحار على الطريقة اليابانية في عاصمة السلطنة بجنوب جزيرة العرب؟
لمن لم يتابع التطورات في السنوات الأخيرة في بلاد الخليج، سيكتشف أنّ اهتمام السلطان قابوس بن سعيد بالموسيقى الكلاسيكية والحضارة الغربية، إضافة إلى الثّقافة العربية الإسلامية، دفعه إلى إعطاء الأمر ببناء دار الأوبرا السلطانية في مسقط عام 2001. وبعد عشر سنوات، انتهى الإنجاز الهندسي الفريد الرائع، حين افتتحت دار الأوبرا، وزارها كبار الفنانين من جميع أرجاء العالم، ومن بينهم المغني الإسباني المشهور بلاسيدو دومينكو، وقائد الأوركسترا الروسي البارع فاليري غرغييف، ومن أرباب الغناء الإيطالي الشّعبي أندريا بوتشيللي، وكان آخرهم زوكيرو قبل أسبوع من زيارتنا للعاصمة العمانية خلال الشهر الحالي.
بدأت التظاهرة الثّقافية هذا الشهر بافتتاح مسرح الفنون الموسيقية إلى جوار دار الأوبرا السلطانية في مسقط، برعاية نائب رئيس الوزراء فهد بن محمود آل سعيد، وتبعها في اليوم التالي عرض خاص لمتحف الملكة فيكتوريا وزوجها الأمير ألبرت في لندن، عن تاريخ الأوبرا منذ أربعة قرون، وظهور تلك المسرحيات الغنائية في إيطاليا بعنوان «الأوبرا 400 عام من الشغف». يعتبر هذا المتحف أكبر صرح في العالم لفنون الزّخرفة والتصميم، ويحتوي على مجموعة تضمّ أكثر من مليوني تحفة في مقرّه بالعاصمة البريطانية. تضمن حفل الافتتاح أمسية موسيقية كلاسيكية أحيته الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية التي تأسست منذ ثمانيات القرن الماضي، وتضمّ العازفين العمانيين، وعزفت مقطوعات شرقية جميلة من التراث، والأوركسترا الوطنية التشيكية في براغ تحت قيادة المايسترو الإيطالي جيوزيبي فينزي الذي عمل في أوبرا لاسكالا بميلانو والأوبرا الألمانية ببرلين. وتألقت في الحفل مغنية الأوبرا الجورجية نينو ماتشايدزيه المشهورة عالمياً منذ قيامها بالغناء في مهرجان سالزبورغ في النمسا، ومغني الأوبرا التينور المكسيكي المرموق رامون فارغاس. كان الحفل ممتعاً بالفعل، وأحسنوا اختيار مقتطفات من روائع الأوبرا، وتم الأداء بأصوات مذهلة تثبت النجاح العالمي لهؤلاء الفنانين الكبار.
كانت المفاجأة السارة اكتشاف تلك السياسة الثقافية الراقية التي رسمها السلطان قابوس بنفسه منذ عقود، وتطورت مع الزمن ببناء دار الأوبرا في مسقط، من أجل الارتقاء بالفنون والتواصل الحضاري مع جميع الدّول التي لها تراث فني عريق. المدهش حالياً هو مدى قدرة عمان على استضافة الفعاليات الفنية والثّقافية وفق أرقى المعايير العالمية، وما تقدّمه دار الأوبرا من أعمال رائعة لاقت الاستحسان من أهل البلد والسّياح الأجانب والزوار. جاءت دار الفنون الموسيقية الآن محاذية لدار الأوبرا لتكمل دورها بتنظيم المعارض الزائرة والمحاضرات وتوسيع المكتبة الموسيقية.
بناء دار الأوبرا السّلطانية يلفت الأنظار بفخامته وذوقه الرفيع فهي - حسب رؤية السلطان قابوس - تمزج بين لمسات الغرب والشرق والنّمط التقليدي والحديث مع الاستخدام البارع للأخشاب والرخام الإيطالي والعماني والتصاميم المستوحاة من نقوش عربية ذات طّابع عماني مثل الأبواب الخشبية والشّرفات والزّخارف، ويستلهم التصميم الهندسي المعماري المبتكر روح الفن الإسلامي.
تاريخياً بدأ كل شيء عام 1853 حين أبحر القائد العسكري البحري ماثيو بيري إلى خليج طوكيو طالباً من اليابان باسم الولايات المتحدة أن تفتح الباب المغلق للتّجارة الدّولية الحرة، فوافقت الحكومة اليابانية على مضض حين رأت الأسطول الأميركي، وحوّلت مدينة ناغازاكي إلى ميناء دُولي للتّجارة (وضربتها الولايات المتحدة بالقنبلة النّووية خلال الحرب العالمية الثانية). فيما بعد نُظّم في لندن، حين أصبح انفتاح اليابان موضة أوروبية، معرض للفن الياباني وصناعة الخزف، حتى أنّ الرّسام الفرنسي المعروف كلود مونيه رسم زوجته وهي ترتدي الكيمونو.
نشر المحامي الأميركي جون لوثر لونغ مقالاً عام 1898، عن قصة مدام بترفلاي، التي سمعها من أخته، المتزوجة من مبشر مسيحي، حيث عاشا في اليابان، مؤكّداً أنّها مبنية على قصة حقيقية ما سبب الإحراج لسلاح البحرية الأميركية. بنى ديفيد بلاسكو مسرحية عن القصة عرضت بنجاح في نيويورك عام 1900، من ثمّ انتقلت إلى لندن حيث شاهدها الموسيقار جاكومو بوتشيني أثناء زيارته العاصمة لتحضير عرض مسرحيته الغنائية الشهيرة «توسكا». وصف بوتشيني (1858 - 1924) نفسه ذات مرة بأنّه «صياد ماهر للطّيور وموضوعات الأوبرا والحسناوات»، وألف للمسرح الغنائي ثلاثة من أشهر الأعمال الفنية وأكثرها شعبية في التاريخ ومنها «مدام بترفلاي».
يذكر أنّ الممثل السينمائي غاري غرانت قدّمها للسينما عام 1932، كما عرضت بنجاح كبير في مسارح برودواي في نيويورك عام 1989 باسم «الآنسة سايغون» بعد نقل الأحداث إلى فيتنام.
كان العرض الحالي لأوبرا «مدام بترفلاي» في عُمان بمنتهى النجاح، وفق المعايير العالمية، وحسب النّسخة المعدلة التي أدّاها المايسترو توسكانيني عام 1904. واستمرت لساعتين ونصف الساعة، وبالنسبة لمن لم يحضر أي عرض للأوبرا في مسقط، كانت مفاجأة سارة، فأغلب المغنين من الغرب والجمهور مختلط من أبناء البلد والأجانب.
قصة الأوبرا تدور حول التناقض بين الشرق والغرب، وبطلتها بترفلاي فتاة يابانية يافعة تدعى تشو تشو سان (الفراشة)، لا تتجاوز الـ15 من العمر، حطّ بها الدّهر بعد الغنى، وهي تعمل كمرفهة أو «غيشا» تتبادل الحديث مع الرجال وتمتعهم برقصها وغنائها، وتلتقي ضابط البحرية الأميركي بنكيرتون في صالة لشرب الشاي جاء إلى اليابان لشراء دار والزواج من يابانية. فراقت له بترفلاي، حاول القنصل الأميركي في ناغازاكي ثنيه عن فكرته، ولكن من دون جدوى. تُعجب به بترفلاي وتتزوجه كما تبدل دينها لأجله فتقاطعها عائلتها ويلومها عمّها البوذي لأنّها وقعب في حب أجنبي يطوف البحار. يتركها بنكيرتون لإتمام مهامه ويعدها بالعودة، لكنّ غيابه يطول فيعرضوا عليها الزواج من شخص آخر، لكنّها ترفض بسبب إخلاصها، وتقول إنها زوجة مواطن أميركي وعليهما الطّلاق الرّسمي أولاً. يحاول القنصل إقناعها بالعدول عن تفكيرها بعد أن وصلته رسالة من بنكيرتون أنّه عائد إلى اليابان مع زوجته الأميركية، ويكتشف أن بترفلاي أنجبت طفلاً صغيراً لبنكيرتون. تنتهي الرّواية بفاجعة حين تدرك الخيانة التي وقعت لها وتنتحر بخنجر أبيها على طريقة «الهاراكيري» اليابانية.
لعبت دور «مدام بترفلاي»، ماريا خوزيه سيري، من الأورغواي، المغنية المعروفة في السنوات الأخيرة بتميزها في أدوار أوبرات بوتشيني وفيردي، وكانت تثير المشاعر في العرض الحالي بصوت بديع وفولاذي قوي يصدح بالعاطفة الغنائية والتحدي. رأينا سيري مؤخراً على خشبة مسرح لاسكالا بميلانو في الدور نفسه في النسخة الأصلية للأوبرا قبل تعديلها، وصدر الآن تسجيل لها بقيادة المايسترو المعروف ريكاردو شايي لأول مرة، ولعب دور بينكيرتون المغني الإيطالي المشهور في مسارح إيطاليا وإسبانيا روبرتو أرونيكا، وقد درس فن الغناء في إيطاليا وتتلمذ على يد مغني التينور الكبير الراحل كارلو بيرغونزي وأبدع في أدائه. أمّا فيرونيكا سيميوني المولودة في روما فقد تألّقت في دور سوزوكي خادمة بترفلاي، وبرهنت على جدارتها في أداء هذا الدور مراراً في إيطاليا وفي الأوبرا الملكية في لندن. وتبعها في النّجاح مغني الباريتون من جورجيا جورج كاغنيدزيه الذي لعب دور القنصل الأميركي، وقد بدأ حياته المهنية خارج بلاده في دار أوبرا «المتروبوليتان» المشهورة في نيويورك قبل 10 سنوات، وسيعود إليها هذا العام ليغني دور ريغوليتو للموسيقار فيردي.
أظهر المايسترو الإيطالي ماركو أرميلياتو مدى براعته في خدمة المؤلف الموسيقي وحبه العميق للمغنين فهو يملك جميع المتطلبات الأساسية لقائد الأوركسترا، ونجح في إبراز العاطفة المتدفقة ومزج الفورات المتأرجحة للموسيقى بحركات المغنين لينساب العرض بشكل متماسك. كان أداؤه ليّناً رشيقاً وواضحاً، وأتاح للمغنين المرونة الكافية للتعبير فكانت الفرقة الموسيقية مرتاحة في العزف، وتتبع حركات يديه وتعبيرات وجهه. يعود الفضل أيضاً للمخرج المسرحي الإسباني جون أنطون ريتشي وبقية العاملين في إنتاج هذا العرض النفيس الذي قدمته سابقاً «أوركسترا بيلباو» الإسبانية في مهرجان قصر بيرالادا في كاتالونيا بإسبانيا بالمشاركة مع «أوبرا الراين» في دوسلدورف بألمانيا. كان عرضاً دولياً بامتياز في عاصمة السلطنة ذات التاريخ العريق.
يتساءل المتفرج دائماً من أين استقى بوتشيني إلهامه من الألحان اليابانية لإضفاء الجو المناسب لأحداث «مدام بترفلاي»، ويظهر أنه اقتبس بطريقة مبتكرة 7 ألحان من أغان شعبية يابانية سمعها في أوائل القرن العشرين ومزجها مع الأنغام الإيطالية بانسجام، فتلاقى الشرق والغرب عبر الموسيقى والغناء. الأكيد أنّه صياد ماهر!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)