متحف سلام حمزة للدراجات النارية في لبنان فريد من نوعه

هواية تحولت إلى مهنة وجعلته صاحب مؤسسة تستقبل السياح

جانب من متحف حمزة ونماذج متنوعة من إنجازاته
جانب من متحف حمزة ونماذج متنوعة من إنجازاته
TT

متحف سلام حمزة للدراجات النارية في لبنان فريد من نوعه

جانب من متحف حمزة ونماذج متنوعة من إنجازاته
جانب من متحف حمزة ونماذج متنوعة من إنجازاته

لا ينقص تلك الدراجات لتكون حقيقية سوى المحرك، هذا ما حققه الشاب اللبناني سلام حمزة الذي حلم منذ عشر سنوات بأن يؤسس متحفا للدراجات المصنوعة من الخشب، ومنذ ذلك الوقت بدأ بجمع صور دراجات «الهارلي ديفيدسون» ويعمل على تحويلها إلى تحف خشبية مطابقة لها.
هي هواية لا تخلو من إبداع وإبهار، يخصص لها صاحبها ساعات طويلة من العمل يوميا من دون كلل أو ملل.
هواية تحولت مع الوقت إلى مهنته الرئيسة، بعد أن أصبح يتقنها بطريقة فنية تحمل بصماته حتى إنه من الصعب لأحد أن يعاونه فيها.
وحمزة تفرد بهواية «نحت الدراجات النارية الخشبية» بطريقة تثير الغرابة والإعجاب. فبعد أن استقال من مهنته كسائق تاكسي، تفرغ لهواية عشقها منذ زمن طويل.
ويقول حمزة في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في مشغله: «بدأت الفكرة كأنها شيء من الصعب تنفيذه، شيء من الخيال، صممت دراجة من طراز 1902. فأبليت بلاء حسنا وباشرت بتصميم الثانية وهذا ما أعطاني طموحا لتصميم الثالثة».
ويضيف ابن بلدة عبيه (قضاء عاليه - محافظة جبل لبنان): «منذ عشر سنوات، صممت دراجة نارية خشبية (موتوسيكل) حقيقية من طراز هارلي ديفيدسون كنت أمتلكه وأحبه كثيرا، ثم احتفظت به كديكور في منزلي». بعدها، راح الناس يطلبون منه تصاميم مشابهة متعددة الأحجام، لكن تفكيره بقي مركزا على التصاميم الكبرى.
واللافت أن معظم هذه الدراجات من طراز «الهارلي ديفيدسون» وبالحجم الحقيقي لكل واحد منها، وبالطبع ثمة فرق بين كل دراجة من حيث الوقت والجهد والتفكير في إنجاز التصميم.
ومن العوامل المساعدة على تفرغه لهوايته عمله السابق كنجار، وبالطبع هذا العمل فيه الكثير من الفن الذي استثمره لتحقيق حلمه، وهو معروف في بلدته بأنه يصمم الكثير من المنحوتات الجذابة ومنها الألعاب الصغيرة.
أما منحوتاته الحالية، فإن إنجاز كل دراجة يستغرق أشهرا طويلة من العمل اليدوي بسبب ما يتطلبه من تركيز على أبسط التفاصيل وأدقها.
عشق سلام هذا النوع من النحت، دفعه إلى أن يواكب بفنه هذا تطور الدراجات النارية منذ بدء إنتاجها في مطلع القرن التاسع عشر، وعن ذلك يشرح: «آنذاك، لم يكن هناك من سيارات للصليب الأحمر، وهذه الدراجات صممت منذ بداياتها بطريقة عملية وعلمية لنقل الجرحى أثناء الحروب».
ومن المعروف أن هذه الدراجات كانت منخفضة الارتفاع كي يتمكن الجندي من التحكم فيها، ومزودة بـ«مرآة» على جهة اليسار وبسلاح جهة اليمين كي يتناوله ويستعمله بسرعة وسهولة.
في مشغله، يعمل سلام يوميا بما توفر له من المعدات اليدوية، معتمدا على نوع الخشب «المعقول» الذي تسمح له قدراته المالية بشرائه، ويتحمل لسنين طويلة كـ«السويدي، والشوح». بينما لا يقتصر تصميمه على الشكل الخارجي للدراجة، بل يمكننا ملاحظة المكابح الحقيقية والإطار الحقيقي الذي يدور بالفعل، وجميع قطع الدراجة جرى تركيبها من دون استعمال المسامير.
ومنذ سنة تقريبا ورغم كل الانتقادات التي وجهت له، نجح حمزة في إقامة متحف أطلق عليه اسم: «متحف سلام حمزة للدراجات النارية الخشبية». ويوضح: «لقد وصل عددها الإجمالي إلى 25 دراجة، معظمها من طراز (هارلي ديفيدسون)، وجمعيها ليست مخصصة للبيع، بل للعرض فقط. كما صممت بعض الدراجات من طراز (كروس) و(ياماها) و(هوندا)».
ومنذ سنة وحتى اليوم، تغيرت نظرة الناس إلى سلام، فحتى بلدية عبيه، قامت بتسجيل المعرض في سجلاتها واتخذ رئيسها وجميع أعضائها قرارا بإنشاء هذا المعرض، قبل أن ترسل مستنداته إلى وزارة السياحة التي وافقت عليه، وأصبح من ضمن المعارض التابعة للمتاحف الوطنية، وطلبت منه وضع تسعيرة للدخول حيث بدأ باستقبال السياح العرب والأجانب.
بشكل دوري، يقوم حمزة بعملية بحث في المواقع الإلكترونية المتخصصة عن تاريخ الدراجة وحجمها ومقاييسها وارتفاعها عن الأرض إضافة إلى طولها وعرضها قبل المباشرة بتصميمها.
وفي جديد سلام اليوم، انكبابه الكبير على إنجاز دراجة «فيراري» جديدة، وقد أوشك على الانتهاء منها بفضل ذكائه وحنكته وتخصيصه 8 ساعات يوميا لهذا العمل.
وردا على سؤال يجيب: «اعتاش وعائلتي حاليا من خلال تأجيري الطابق الثاني من منزلي، والحمد لله هذا يكفيني أيضا لتأمين أقساطي المدرسية لابني وابنتي».
وفي الوقت الذي يزداد عدد هواة شركة «هارلي ديفيدسون» العالمية، نجد أن عددهم في لبنان تجاوز 500 دراج محترف، وعندما علموا راحوا يلتقون الهواة من السعودية والأردن والكثير من البلدان وأصبح المعرض بالنسبة إليهم كالاستراحة بعد أن زاروه لأول مرة وخرجوا سعداء.
ومن مميزات المتحف أنه يضم عددا من التصاميم العائدة إلى الشركة المذكورة، إضافة إلى مجموعة رائعة من الدراجات الهوائية المصنوعة من الخشب المتين الجيد من حيث التصميم الذي مزج فيه حمزة بين الأصالة والإبداع.
ويؤكد سلام، ابن الواحد والأربعين سنة، أن أحدا لم يسانده في موهبته ولم يلق أي دعم مادي من الدولة وأن أكثر من شجعه ووقف بجانبه هي زوجته وولداه، بينما أرسل ملفا خاصا بإنجازاته إلى الشركة ولم يلق منها جوابا حتى الآن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)