المخرجة اللبنانية سهام ناصر رحلت إلى «الجيب السري»

أعطت ما استطاعت لكن الوطن ظلمها

المخرجة اللبنانية سهام ناصر رحلت إلى «الجيب السري»
TT

المخرجة اللبنانية سهام ناصر رحلت إلى «الجيب السري»

المخرجة اللبنانية سهام ناصر رحلت إلى «الجيب السري»

رحلت بالأمس المسرحية اللبنانية المعروفة سهام ناصر، حتى قبل أن توارى الإعلامية والروائية مي منسى الثرى. تدحرجت الأخبار السيئة وعرف محبو المسرح أن المخرجة وأستاذة المسرح التي أحدثت صدى عربياً ولبنانياً ذات يوم، بأعمالها التي بقيت قليلة، لكنها لا تنسى، غادرت الحياة بعد أن تناقلوا أخبار مرضها الذي أعياها طويلاً. عملية القلب المفتوح ومن ثم تعطل الكلى، كان ذاك ثقيلاً على من أعطت حركة الجسد على الخشبة جلّ اهتمامها.
سهام ناصر اسم غاب لسنوات مديدة عن الخشبات. بدت الفنانة الذاهبة أبداً إلى التجديد واعتبار المسرح جزءاً عضوياً من النضال من أجل التغيير، قاسية على نفسها ومتطلبة لا تطلّ إلا وفي جعبتها ما يرضيها، وفي قلبها نبض يدفع بها للقاء الناس. وهي حين لم تكن في مواجهة الجمهور بعمل ما، مارست مهنتها كأستاذة في كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية، حيث نعاها تلامذتها، معتبرين غيابها خسارة كبرى لهم وللفن اللبناني.
طليعية بحق، متمردة بصدق. درست في الولايات المتحدة الأميركية وعادت إلى بلدها، مليئة بالزخم. مسرحيتها الأولى «الجيب السرّي»، بقيت الأهم بين أعمالها، بالنسبة لها، بعد أن قدمتها في لبنان ومصر وباريس. وفازت المسرحية بجائزة «أفضل عرض مسرحي متكامل» في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1992. هي عن نص رشيد بوجدرة «الحلزون العنيد» رأت فيه إجابة على تساؤلاتها ورؤيتها الدرامية. اشتغلت على النص والمشهدية بتواز، أرادت من خلالهما أن تأتي بعمل أشبه بسمفونية تتناغم فيها عناصرها، بما يجعل العمل الفني وحدة جمالية متكاملة، وكان لها ما أرادت.
أحبت العمل الجماعي مع طلابها، اشتغلت على ورشات تدريبية، آمنت بأن المسرح في لبنان لا يزال بعيداً عن أن يكون جماهيرياً، للمتفرجين أجمعين. ومع ذلك عملت على مسرح نخبوي، تجريبي، ولم تتخل عن شروطها، كما لم تتنازل لصالح إرضاء جمهور أكبر، مع أنها كانت تحلم بمسرح لكل الناس. هذه المعادلة أتعبتها، ولم تسهل مهمتها.
في عرضها «ميديا... ميديا» الذي يشي عنوانه بالتكرار، وهو ما اعتمدته كأداة في مسرحياتها سواء في النص أو في الحركة، ذهبت إلى قصة ملكة تتخلى عن زوجها من أجل حب رجل آخر، فيما تكتشف أنه لا يخبئ غير الغدر وحب السلطة، لتنفذ إلى مواضيعها الوجودية الأبعد غوراً.
أكثر ما كانت مولعة سهام ناصر بصموئيل بيكت. وعن عدد من نصوصه، لا سيما «لجة العدم» وكذلك «نهاية لعبة» و«الممر» قدمت مسرحيتها «الجدار». وكما في مسرحياتها الأخرى بقيت تبحث عن الإنسان والصداقة والحب، والغباء البشري الذي يزرع الألم، بكثير من العدمية.
ففي مسرحيات ناصر تزاوج بين الموت والحياة، الحب والكره، العزلة والكلام. استحضرت حفلات الزار، لعبت على خيلاء الجسد، ومعنى الظلمة، وهيبة الكورس بصوت مؤديه. جهدت في الكتابة، في التنقية، في تقطيع المشاهد، في ابتكار الأفكار الصادمة، في تحضير المفاجآت لمتفرجها.
بالعمل على نصوص صموئيل بيكيت قدمت أيضاً مع فريق من الفنانين والطلاب مسرحيتها «كلون هون»، من خلاله خلطة غرائبية جمعت تراثاً غنائياً عربياً إلى تساؤلاتها عن الهموم الوجودية، والواقع العربي، ورموز غربية.
وبقيت عناصر سهام ناصر وخلطاتها هي نفسها في مسرحيتها «لا، لا مخرج» حيث وضعت متفرجيها بعد أن أغلقت عليهم المسرح وأطفأت الأنوار في أجواء تشبه التواجد في قبر محكم الإغلاق. تعرّف الحضور في هذا العمل السوداوي على موتى عائدين للتو، وأشياء غرائبية أخرى تحيكها في نص من صنعها بفعل استلهام واستخدام نصين كبيرين متباعدين للغاية، أحدهما مسرحية «وي كلو» أو «لا مفر» لجان بول سارتر، والثاني هو فيلم «هيروشيما حبيبتي» المأخوذ عن رواية الكاتبة الفرنسية الكبيرة مارغريت دوراس. والمسرحية تقتطع أجزاء من الفيلم لإدخال المتفرج في أجواء الموت. وتقدم نصاً ثالثاً مختلفاً عن النصين الرئيسيين.
خلال الحرب الأهلية عملت سهام ناصر وفي وقت الهدنة عام 1978 مع رئيف كرم حين أسس «مسرح سندباد»، الذي لم يعد أحد يذكره اليوم. وبقيت فخورة بتجربة أخرى خاضتها معه ومع عادل فاخوري حين سعوا وبصحبتهم مجموعة من موسيقيين ورسامين ومصممي ديكور، لتقديم عروض في الشارع، لانتزاع الناس من آلام الحرب ومساعدتهم على الخروج من البيوت والملاجئ.
كما فنانون كثر نعتها زميلتها المخرجة والممثلة المسرحية كتبت المسرحية عايدة صبرا تقول: «لم تكن أستاذة عادية. لم تكن شخصاً عاديا... كانت كتلة عطاء، وموهبة فذة، وشخصية خاصة، لا تأتي على سيرتها إلا بفرح. أعطت المسرح ما استطاعت من عرقها وحبها. لكن هذا الوطن ظلمها. يا ضيعانك...».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)