هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

دور الفضائيات في انتفاضات «الربيع العربي»

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟
TT

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

يرى كثير من المراقبين أن دور الإعلام الفضائي العربي كان ملتبسا خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عدد من البلدان العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ويعود ذلك إلى المبالغة في التركيز على قضايا معينة أو الانحياز إلى بعض الأطراف السياسية وتضخيم دورها، وفي نفس الوقت تجاهل دور قوى أخرى. وقد تحكمت الدوافع الآيديولوجية والأهداف السياسية بمتابعة القنوات لأحداث الاحتجاجات، نظرا لأن أغلب وسائل الإعلام الفضائية مملوكة من الدولة، أو تحصل على دعم مالي ولوجيستي من الدول التي تبث.
ورغم ذلك، لعبت القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي دورا مؤثرا وإيجابيا تمثل في استفادة الجماهير الشعبية من الطاقة التي خلقتها فيها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لمواصلة الاحتجاجات ضد محاولات تيار الإسلام السياسي فرض شكل جديد من الاستبداد، بعد فوزه بالسلطة عن طريق الشرعية الانتخابية، خصوصا في مصر وتونس، فتم الانتقال إلى شكل جديد من الاحتجاج بدلا من «التنظيم الفضائي» عندما شكل الشباب الواعي حركات جديدة، تطالب بتحقيق المطالب التي رفعتها الاحتجاجات «حرية، كرامة، عدالة اجتماعية»، وترفض سلطات الشرعية الانتخابية، التي تنكرت لوعودها وانفردت بالسلطة، وحرمت الحركات الاجتماعية والقوى السياسية الأخرى من المشاركة في صنع القرار السياسي، حيث نجحت حركات «تمرد» في مصر وتونس في تنظيم مظاهرات مليونية حقيقية، استطاعت إسقاط سلطة الإخوان في مصر وإضعاف سلطة حركة النهضة في تونس التي فقدت قدرتها على الاستمرار في التحكم بالسلطة، على الرغم من مساندة بعض النخب السياسية لها.
يبدأ الباحث الدكتور سويم العزي، في كتابه الجديد المعنون «نظرة ثانية بخصوص الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والحراك السياسي العربي»، بطرح تساؤلات عن هدف القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي، منها: «ما الكيفية التي تتمكن بها شبكات التواصل الاجتماعي من خلق التأثير؟ وهل هناك أهداف محددة وراءه؟ وما الوسائل التي تتمكن بها من جلب الانتباه حول قضايا معينة دون غيرها؟ هل تخفي وراءها عملية التلاعب بالمشاعر بهدف استعمار مشاعر الأفراد؟ ولغرض الإجابة على تلك التساؤلات يقوم الباحث بمعالجة الموضوع من زاويتين، الأولى من الزاوية السسيولوجية لغرض التعرف على ماهية عمل الفضائيات، وثانيا من الزاوية السيكولوجية بهدف الوقوف على الآليات التي تؤثر فيها على السلوك الاجتماعي» ص 5.
وعند تحليله لأسباب تزايد أعداد الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي، التي لم تقتصر على منطقة جغرافية معينة، بل تشمل كل دول العالم المتطورة منها والمتخلفة، يرى أنها تعود إلى حاجة الفرد إلى إثبات الذات. ففي الدول المتطورة أدى المجتمع الاستهلاكي إلى تهميش أعداد واسعة من المواطنين، نتيجة قيام الهرمية الاجتماعية على التملك التي تتمتع بها قلة من السكان، أما في المجتمعات النامية «المتخلفة» فإن القهر السياسي والاجتماعي حرم الأغلبية من ممارسة الحرية. لذلك أصبح كل هؤلاء يبحثون عن وسيلة يتجاوزن بها واقعهم، فوجدوها في شبكات التواصل الاجتماعي كواقع افتراضي لإشباع الذات.
يناقش الباحث هذه الموضوعات وغيرها في خمسة فصول، حيث تناول في الفصل الأول العلاقة بين الديمقراطية ووسائل الإعلام، مشيرا إلى أن وسائل الإعلام يمكن أن تكون قوة ضد الديمقراطية، بسبب عدم قيامها بوظيفتها الإعلامية بشكل صحيح، خصوصا التجارية منها، فتصبح وسائل إعلام تدافع عن ثقافة السلطة القائمة، بسبب تملكها من قبل أقلية من الشركات المتعددة الجنسية التي ترتبط بوشائج متنوعة مع السلطات الحاكمة ونخبها المتنفذة.
أما في الفصل الثاني فقد قام الباحث، بتحليل الآليات السيكولوجية للتأطير السياسي للفضائيات الإعلامية، متناولا مفهوم الخبر كسلعة تقوم بتسويقها، حيث تركز وسيلة الإعلام على خلق علاقة عاطفية بين المعلومات التي تقدمها والفرد، مما يخلق تبعية المشاهد لوسيلة الإعلام باعتبارها «المصدر الرئيس للثقافة والمتعة».
تناول الفصل الثالث الفضائيات العربية الإخبارية، التي دخلت إلى المجتمع العربي في بداية تسعينات القرن الماضي، باعتبارها وسائل إعلام مملوكة للدولة تعكس وجهات نظر الجهات الرسمية حول التناقضات والصراعات السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى نقل الصراعات الوطنية من محيطها المحلي إلى المحيط العربي، فلم يعد، على سبيل المثال، الصراع العرقي والقبلي في السودان والعراق وكذلك الصراعات الطائفية في لبنان والعراق وغيرها من البلدان ذات صبغة محلية، بل أصبح المجتمع العربي يتفاعل مع مجريات هذه الصراعات ويؤثر عليها سلبا أو إيجابا، تبعا للمعلومات التي تقدمها الفضائيات العربية.
يناقش الباحث في الفصل الرابع دور شبكات التواصل الاجتماعي في الحراك الشعبي، من خلال تغيير وظيفتها من اللهو والدردشة، إلى التنافس مع القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى في توجيه الرأي العام لأهداف محددة، وتبتعد عما تطرحه القنوات الفضائية ورغبات السلطات الحاكمة ورقابتها مما جعلها تتحول تدريجيا إلى «سلطة خامسة» نتيجة الدور السياسي الذي تقوم به بعد أن أصبحت لها وظائف محددة، حسب رأي سيغريد بارينغورست (Sigrid Baringhorst)، من أهمها: الوظيفة البرنامجية لتعبئة الاحتجاجات، الوظيفة الإدراكية لخلق الإنتاج المعرفي والاتصالات، الوظيفة الوجدانية لتكوين الهيئة الافتراضية، الوظيفة التكنيكية لاستخدام الإنترنت كسلاح وهدف، وأخيرا وظيفة التنظيم الاجتماعي لشبكات عابرة للقارات. كما أن لهذه الشبكات وظيفة سيكولوجية تتمثل في إشباع رغبة الأفراد في إثبات الذات، «ما دمت موجودا على الإنترنت وأرى الآخر والآخر يراني فأنا موجود».
في الفصل الخامس، يحلل الباحث أسباب التخبط الفكري والسياسي التي وقعت فيها حركة الاحتجاجات الشعبية، مشيرا إلى أن ذلك يعود إلى غموض مواقف النخب المثقفة وقلة عطائها الفكري، الأمر الذي أدى إلى أن تقع تحركات الجماهير الشعبية تحت تأثير الشعارات السياسية اليومية، مما أفقدها الديمومة بسبب عدم توفر غطاء فكري لها، بمعنى آخر إن تحرك الناس يقوم على العاطفة السياسية وليس الوعي الثقافي، وهذا ما يفسر ضعف المشاركة في الانتخابات التي أعقبت سقوط الأنظمة الاستبدادية في عدد من البلدان العربية، حيث تراوحت نسبة المشاركة بين 50 - 60% في حين خرج الناس بالملايين إلى الشوارع طلبا للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية... ص 171.
الكتاب ممتع ومفيد، على الرغم من حاجة القارئ إلى مستوى معين من المعرفة بعلم النفس السياسي والاجتماعي، حيث مزج الباحث بينها لعرض موضوعاته. وتتمثل أهمية الكتاب في:
أولا: إلقاء الضوء على دور القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي التي نجحت في تحفيز المشاعر لدى أعداد كبيرة من الناس في الكثير من الأقطار العربية للمطالبة بحقوقها، من خلال الاشتراك في الانتفاضات والاحتجاجات، والأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق الاحتجاجات النتائج المرجوة منها، بعد أن خطفت القوى التقليدية السلطة، خصوصا قوى تيار الإسلام السياسي، التي امتزجت خبرتها التنظيمية بالمال السياسي والدعم الإعلامي الخارجي.
ثانيا: تناول جديد لدور وسائل الإعلام، التي تحولت وظيفتها من صنع الرأي العام إلى صنع السلوك السياسي للأفراد، أو بمعنى آخر أصبحت وسائل الإعلام هي الرأي العام، بعد أن أصبحت المادة التي يحصل عليها الفرد من القنوات الفضائية قادرة على تعديل السلوك السياسي له، لأن المعلومات التي يقدمها التلفزيون تستند إلى فكرة «إن الخبر الذي أشاهده يجب أن أصدقه لأني أراه أمام عيني»، حسب قول أولكا كوكنا (Olga cuenca). ص 11
«نظرة ثانية بخصوص الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والحراك السياسي العربي».
المؤلف: د. سويم العزي.
الناشر: دار الحكمة، القاهرة، 2013.
عدد الصفحات 200 من الحجم الكبير.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»