معرض «لا مكترث» لإيرفينغ بن يلتقط فوضى هادئة بعدسة كاميرا

نحو 50 صورة فوتوغرافية تحكي عن موضوعات مختلفة التقطها إيرفينغ بن بالأبيض والأسود وبالألوان خلال مشواره الفني (1917 - 2009)، يعرضها «مركز مينا للصورة» في بيروت تحت عنوان «لا مكترث».
ويأتي هذا المعرض الذي يستمر حتى شهر أبريل (نيسان) المقبل بمثابة أول محطة لأعمال المصور العالمي الراحل في منطقة الشرق الأوسط. ويعدّ إيرفينغ بن أحد أهم أساتذة فن التصوير في القرن العشرين، فحظي باهتمام واسع بسبب صوره الأيقونية للأزياء الرفيعة وبورتريهات المشاهير والفنانين والكتّاب، الذين رسموا المشهد الثّقافي في زمنه، خصوصاً أنه عمل مصوراً خاصاً لمجلة «فوغ» في نيويورك لأكثر من 60 سنة.
وبين صور يلتقط فيها الفنان العالمي بكاميرته حكايات عن الطعام الشهي وباقات الزهور وعناصر الحياة الطبيعية، وأخرى من صور أيقونات الستينات والسبعينات في عالم الأزياء والسينما، يبدأ مشوارك مع هذا الفنان الملهم لكثيرين من أبناء مهنته.
«لقد اخترنا افتتاح (مركز مينا للصورة) مع هذا المصور العالمي؛ لأنه يمثّل تاريخاً غنياً لعالم الصور الفوتوغرافية التي يسعى مركزنا إلى تعزيز دورها بكل تعقيداتها وتعدداتها». تقول ميسم هندي، مديرة المركز المذكور في حديث لـ«الشرق الأوسط». وتضيف: «معرض (لا مكترث) هو بمثابة رحلة خارجة عن المألوف لا تتوفر لعشاق الكاميرا بصورة دائمة؛ ولذلك ننصحهم بالقيام بها دون تردد».
يتألّف المعرض من 9 مجموعات ليصلنا نسخة محدّثة عن آخر «ريزونانس» للمصور نفسه نظمته مؤسسة «بينو» في قصر غراتسي في البندقية. وتقوم هذه المؤسسة اليوم بالمهمة ذاتها في بيروت من قبل منسق المعرض ماثيو هوميري الموجود في لبنان لهذه الغاية. وتتضمّن هذه المجموعات موضوعات مختلفة تتناول الطعام والسجائر والمشاهير وهياكل جماجم الحيوانات، وأخرى بعنوان «مجموعات عالمية» ويطلّ فيها الفنان الأميركي بكاميرته على لقطات مصورة اختارها من دول كثيرة.
واللافت أن هذه الأعمال تتداخل ببعضها بعضاً لتؤلّف فسيفساء من الصور الفوتوغرافية تخرج عن السياق الكلاسيكي في كيفية عرضها. وحسب بن، فإن موضوعات جميع الصور متساوية في نظره؛ إذ يحولها في فضاء الاستوديو المحايد إلى دخيل هادئ إنما مُلحّ. ويقول في هذا الصدد: «إن الصورة الجيدة هي التي تحاور حقيقة معينة وتلمس القلب وتترك أثرها لدى المشاهد فتغيره بصورة فاعلة».
ومع صور من نوع بورتريه التقطها إيرفينغ بن لبيكاسو ودالي وألفرد هيتشكوك وغيرهم من مشاهير الفن في القرن الماضي، نذهب في حالة حالمة نحاول خلالها تفكيك غموض ملامح وجه هذا أو ذاك بينهم. فهو طلب منهم ليصورهم أن يتمركزوا في زاوية معينة اختارها لهم لتمثل مساحة آمنة ومقيّدة لهم في آن. وانعكس هذا الأمر على كاميرته فبدوا وكأنّهم في حالة تعرٍّ تلقائية من كل ما يشغلهم. وفي مجموعة «مهن صغيرة» نترافق مع الجزّار وبائع السمك والغطاس وغيرهم من أصحاب هذه المهن في نزهات تأخذنا إلى عالمهم الحقيقي. وفي مجموعة «الغرور» ننتقل مع المصوّر العالمي في فضاءات الشّارع بشكل عام وما يشهده من موضوعات يحكيها الناس تارة والأشياء والطبيعة الصّامتة تارة أخرى (أعقاب السجائر وورود ذابلة). إلا أنها في النّهاية تصبح فانية في ظل عدم الاهتمام بها فتذكرنا بأن حياتنا بالتالي فانية أيضاً.
ويجول نظرك سائحاً في صور «مجتمعات عالمية» التي يصور فيها مشاهد حياتية من هنا وهناك كالفتيات المغربيات يرتدين البرقع ويقابلهن من الناحية الأخرى فريق «ملائكة هيلز» ينتمون إلى نادٍ خاص بالدراجات الأميركية في سان فرانسيسكو في أميركا. ومن الصور اللافتة في موضوع الأزياء الذي اشتهر به أيضاً، نشاهد واحدة لزي «هارليكان» المشهور في الخمسينات، وتطالعنا إحدى العارضات ترتديه بالأبيض والأسود وتعتمر قبعة سوداء واسعة وتتزين بعقد من اللؤلؤ مبرزاً خطّ التناقض بين الألوان في صورة واحدة.
وعلى عكس عمله في المجلة، حيث يقوم مهنيون بعمليات الطبع والتوزيع على نطاق واسع، استطاع بن في أعماله الشخصية متابعة كافة مراحل الإنتاج والطباعة التي نلحظها في معرض «لا مكترث» في بيروت. وقد أدى به هذا الانخراط الوثيق إلى اكتشاف طرق أخرى في ستينات القرن التاسع عشر، بينها الطباعة البلاتينية البلاديوم. والأخيرة مورست في أوائل القرن العشرين، واستحدثت تبايناً غير محدود في الأنساق اللونية للصورة. هكذا كان لتعدّد الإمكانات الجمالية في الطباعة البلاتينية أن جعله يعيد طبع صور سبق أن طبعها بالفضة الجيلاتينية المستعملة عالمياً.
فمعرض «لا مكترث» لا يقدّم الصور في تسلسلها السردي والزمني، إنّما يعيد ترتيبها بطريقة تبرز أوجه التقارب المبطنة بينها، بحيث تتعايش المشروعات التجارية والدراسات الإثنوغرافية، والنّفايات المهملة والنّماذج المعقدة، وكذلك الشّخصيات الثّقافية وجماجم الحيوانات.