بونغو... على سرير النقاهة بعد نجاته من «الانقلاب»

لمس بريق السياسة وحب اعتلاء المناصب وتراً حساساً في قلب وعقل الطالب علي، ابن رئيس دولة الغابون عمر بونغو أونديمبا، منذ أن كان يجلس على مقاعد العلم في جامعة باريس - السوربون، قبل نحو 40 سنة. ولِم لا، إذا كانت كل الأبواب المؤدية إلى كرسي الحكم مفتوحة أمامه، وما عليه إلا أن يحلم ويتمنى، فهناك من سيعملون على تحويل تلك الأحلام والأماني إلى حقيقة.
ها هو علي، الذي انتخب رئيساً للدولة الواقعة في غرب أفريقيا، بعد وفاة والده عام 2009، وأعيد انتخابه لولاية ثانية في أبريل (نيسان) 2016، والذي يمضي راهناً فترة نقاهة في مؤسسة استشفائية بالعاصمة المغربية الرباط، وذلك بعدما نجا مرتين... الأولى من جلطة دماغية ألمّت به نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وغيّبته عن البلاد، والأخرى من «انقلاب عسكري» وُصف بـ«الفولكلوري» كاد أن يطيحه من سُدة الحكم، قبل القبض على خمسة من ضباط الجيش، منتصف الأسبوع الماضي.

تسري في ليبرفيل، عاصمة الغابون، حالة من القلق والشائعات حول حقيقة الوضع الصحي للرئيس علي بونغو، فضلاً عن احتجاجات تقع من وقت إلى آخر تنديداً بـ«وقائع فساد»، وسط تساؤلات كثيرة يطرحها خصوم السلطة حول العائدات النفطية والثروات المعدنية لبلد يعيش ثلث سكانه فقراء. إلا أن غي برتران مابانغو، المتحدث باسم الحكومة الغابونية، خرج على الشعب عقب إحباط محاولة الانقلاب الأخيرة على بونغو ليُعلن أن الوضع في البلاد «تحت السيطرة».

- من فرنسا إلى ليبرفيل
أمضى بونغو «الابن» قبل أن يدخل الإسلام مع والده عمر (ألبير سابقاً) في مرحلة لاحقة، ويتغير اسمه من ألان إلى علي، جلّ طفولته وصباه يتنقل بين مدارس فرنسا لتلقي التعليم منذ عام 1965. وهناك حصل على الشهادة الابتدائية، وانتقل إلى مدرسة بروتستانتية لدراسة الإعدادية، ثم الثانوية، بعدها درس القانون في جامعة باريس - بانتيون سوربون... لكن كل تلك المدة لم تحُل دون انغماسه في السياسة؛ إذ انخرط مبكّراً في العمل الحزبي.
فور عودة علي من فرنسا إلى الغابون كانت المناصب المهمة في انتظاره، والأرض ممهّدة بما يكفي كي يلمع نجمه في عالم السياسة. وطبعاً، ساهم في ذلك سيطرة عائلته على مقاليد الأمور في البلاد، منذ عام 1967.
واستهل علي، الذي ولد في 9 فبراير (شباط) عام 1959، عمله بالمحاماة لفترة قصيرة، قبل أن ينشط في صفوف الحزب الديمقراطي الحاكم الذي أسسه والده، فانتخب عضواً في لجنته المركزية عام 1983، ثم عضواً بمكتبه السياسي بعد ثلاثة أعوام فقط. وبعدها انفتح المجال العام أمامه عندما قرّبه والده منه ومنحة صفة الممثل الشخصي للرئيس، ثم عيّنه ممثلاً سامياً لرئيس الجمهورية.

- مسيرته السياسية
ومع اتساع سطوة آل بونغو في الغابون، وتغوّل جميع أفراد العائلة في كل مؤسسة قد تدرّ مالاً، بحسب مقرّبين منها لوسائل إعلام مختلفة، كان بونغو «الابن» يشق طريقه نحو السلطة. وزارة الشؤون الخارجية عام 1989، كانت المحطة الأبرز، لكنه أعفي منها بعد سنتين، عقب إقرار دستور جديد للبلاد يحدد سن تقلد مناصب وزارية.
مع هذا، كانت المناصب تعرف طريقها إلى الشاب علي، فارتقى منصباً منصباً، وتولّى رئاسة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. بيد أنه غادر الحكومة في ظروف ملتبسة ليعود إلى ممارسة السياسة من بوابة تأسيس تيار شبابي يدعو إلى ضخ الدماء في أوصال الحزب الحاكم، ثم لينتخب بعدها نائباً بالبرلمان عام 1996 عن دائرة بونغو - فيل (جنوب شرقي الغابون)؛ إذ خاض الانتخابات مرتين في دورتي 2001 و2006.
بعد ذلك شغل علي حقيبة وزارة الدفاع، وظل على رأس المؤسسة العسكرية في البلاد قرابة عشر سنوات، حتى قبل وفاة والده بقليل، وخلال هذه الفترة اقترب بشكل واضح من هياكلها وفروعها؛ ما أهّله، وفق متابعين، من تحييدها عن الحياة السياسية. وهذا على طريق بلوغ منصب الرئاسة. ويذكر أن أباه، عمر بونغو كان قد تولى السلطة في الغابون عام 1967 بعد وفاة رئيس البلاد يومذاك ليون مبا، الذي استطاع بونغو «الأب» نيل ثقته في سن مبكرة، ولم يكن عمره يتجاوز 27 سنة عندما عُين رئيساً لمكتب الرئيس، ثم صار نائباً له إثر المحاولة الانقلابية التي تعرّض لها في 1964.
وفي 1993، سمح بونغو «الأب» بتنظيم أول انتخابات، بضغط من المعارضة، من دون أن تؤدي إلى أي تغيير في طبيعة النظام السياسي في البلاد؛ وذلك لأنها كانت انتخابات «شكلية» أراد بموجبها تلميع صورة نظام قائم، لا منح روح جديد للحياة السياسية في البلاد.

- تركة بونغو «الأب»
في العام نفسه (2009) الذي توفي فيه بونغو «الأب» تاركاً البلاد في حالة فوران شديد، دفع الحزب الحاكم بابنه علي للترشح في الانتخابات الرئاسية. وحقاً، حاز علي على نسبة تقترب من 41 في المائة من الأصوات، مع الإشارة إلى أن القانون الانتخابي الغابوني يمنح المرشح الأكثر أصواتاً في الجولة الأولى الفوز بكرسي الرئاسة. وهكذا، بدأت الغابون عهداً جديداً استهله رئيسها الشاب بتخليه على جزء قليل من ميراث أبيه، وهو عبارة عن فندقين في العاصمة الفرنسية باريس لصالح الشعب الغابوني. وهي خطوة استقبلت بترحاب واسع من المواطنين، لكن ظل هناك من يرى أنها تستهدف خطب ودّ شعبٍ فقير يمتلك ثروات طائلة... لكنها مهدورة.
ثم كانت فرنسا وجهة علي بونغو، في أول زياراته خارج أفريقيا بعد توليه الحكم. وهناك التقى الرئيس نيكولا ساركوزي، للتأكيد على رغبته في عودة العلاقات الوثيقة إلى طبيعتها بين القوة الاستعمارية السابقة وأحد أهم حلفائها في أفريقيا، وهي العلاقة التي حرص والده على الإبقاء عليها طويلاً.
لكن على الصعيد المحلي، ورث الرئيس الجديد عن أبيه تركة ثقيلة، أبرزها خصومة عائلة بونغو المتشعبة في انحاء البلاد، وتسلط بعض أقطاب النظام السابق عليه، بجانب اقتصاد يعتمد على الريع النفطي. ولدى سعيه مبكراً إلى التخفّف من إرث والده، فتح علي على نفسه أبواب صراع قاده جان بينغ، الذي سبق له شغل مناصب وزارية كثيرة أثناء حكم أبيه. وبدأ الأخير في استمالة المستبعدين لتشكيل جبهة من الخصوم. إلا أن علي لم يأبه لكل ذلك فذهب ليقدم نفسه بما يملكه من ثقافة قانونية اكتسبها من السوربون على أنه سياسي معاصر، يعشق أغاني الراب، ويتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة... وبجواره زوجته سيلفيا بونغو، التي تتصدر قائمة أجمل السيدات في أفريقيا، وتعتبر أيضاً واحدة من أجمل النساء في العالم، حيث احتلت المرتبة السابعة في القائمة العالمية في وقت سابق.
في المقابل، أُخذ على الرئيس الشاب، في هذه المرحلة، تجاهله العادات الاجتماعية، وتجنبه مجاملة العائلات الكبيرة، وقلة إجادته اللغة المحلية، فضلاً عن رمي فترة حكمه بممارسات الفساد، وهو ما حسَم من رصيده وصبّ في خانة خصومه.

- التباهي بالثروة
لقد وعد علي بونغو شعبه بمكافحة الفساد، وتخليه عن سياسة والده، الذي اتُهم بتبديد عائدات النفط الكبيرة بالإنفاق على حملات انتخابية في دول غربية، وتغاضيه عن الارتقاء بالبلاد. وبالفعل، بدأ علي التصدي لهيمنة أسرته بإبعاد شقيقته باسكالين، التي شغلت لسنتين منصب وزيرة الخارجية. لكن أُخذ عليه التباهي بالثروة وحبّه الجم لمسابقات السيارات واقتناء الفخم منها؛ ما تسبب في تراجع شعبيته بشكل سريع، ولم تشفع له جهوده في شق الطرق على امتداد 600 كيلومتر خلال ولايته الأولى التي دامت 7 سنوات؛ إذ قلل البعض من ذلك.
جانب كبير من الغضب ضد بونغو تفجّر عقب فوزه بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي أجريت بفارق ضئيل في 27 أغسطس (آب) عام 2016 على منافسه مرشح المعارضة جان بينغ، الذي كان مرتبطاً عائلياً بباسكالين، ساهم في زيادة حدّة الغضب اعتراض الأخير وأنصاره على النتائج، وهو ما أحدث حالة من الغضب والعنف في عموم البلاد.
وبمواجهة هذه الأجواء التي أحاطت بالرئيس بونغو، فشل في الحفاظ على كسب الموقف الفرنسي لصالحه خلافاً لوالده، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة مع باريس. وتجلى ذلك في تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بداية 2016 سخر فيه من طريقة انتخاب بونغو 2009؛ ما أدى إلى استدعاء الغابون سفيرها بفرنسا احتجاجاً على هذا التصريح.

- غياب عن الشعب
على مدار ثلاثة أشهر لم يظهر علي بونغو على شعبه. ولم ترد في هذه الأثناء معلومات رسمية حول وضعه الصحي؛ ما أثار الكثير من التكهنات والشائعات. ورفضت المحكمة الدستورية الاستجابة طلب المعارضة والمجتمع المدني بإعلان شغور السلطة بموجب الدستور، ونقلت السلطات جزئياً إلى رئيس الوزراء ونائب الرئيس. وأضافت المحكمة فقرة جديدة إلى مادة من دستور البلاد تجيز لنائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء ممارسة بعض مهام رئيس الدولة من خلال تفويض المحكمة الدستورية له في حالة غياب رئيس البلاد. وقال أحد قضاة المحكمة فرنسوا دي بول أنتوني أديوا، في مؤتمر صحافي نقله راديو «أفريقيا 1» أن المحكمة الدستورية بصفتها الجهة المنظمة لأداء المؤسسات، أجازت لنائب رئيس الجمهورية عقد ورئاسة مجلس الوزراء.

- فشل الانقلاب
وزارة الخارجية المغربية في هذه الأثناء، أعلنت في بيان، أن رئيس جمهورية الغابون علي بونغو أونديمبا «سيمضي مقاماً طبياً بالمغرب من أجل إعادة التأهيل الطبي والنقاهة، وذلك بإحدى المؤسسات الاستشفائية بالرباط». ورأت أن ذلك «يأتي وفق رغبة بونغو في اتفاق تام مع المؤسسات الدستورية لجمهورية الغابون، وتماشياً مع رأي الأطباء المعالجين».
ومع هذا البيان، ترجع الذاكرة بالغابونيين إلى التعتيم الذي ساد حول مرض والده، الذي نقل في 2009 بسبب مرضه الشديد إلى برشلونة (غسبانيا). وكان رئيس الوزراء آنذاك جان إيغي ندونغ نفى وفاته التي أعلنت رسمياً في 8 يونيو (حزيران) من ذلك العام، لكن مجلة أسبوعية فرنسية كشفتها.
أحد المقربين من عائلة بونغو نقل لوكالة «أ.ف.ب» الفرنسية، أن «لا أحد يعرف فعلاً ماذا يحصل»، وشبّه ناشط في الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم الوضع «بما يحصل في طائرة قبل التحطم»، لكن مراقب سياسي تحدث عن أن الحكم منقسم اليوم في البلاد إلى مجموعتين.
وأمام تصاعد حالة اللغط التي سادت البلاد، ألقى بونغو كلمة عبر مقطع فيديو في 31 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، في أول مرة يتوجّه فيها إلى شعبه منذ دخوله المستشفى في الرباط، بمناسبة حلول العام الجديد (2019)، وقال إنه «يشعر بتحسن وسيحل ببلده قريباً جداً»، غير أن الحركة الوطنية لشبيبة قوات الدفاع والأمن في الغابون اعتبرت هذه الكلمة «عاراً» على «بلد خسر كرامته».

- المحاولة الانقلابية الأخيرة
ومع بداية عام 2019، سعى خمسة ضباط من الجيش الغابوني إلى تنفيذ انقلاب على الرئيس بونغو، في وقت مبكر من صباح الاثنين 7 يناير (كانون الثاني)، ودعوا وفقاً لوسائل إعلام مختلفة، إلى «انتفاضة» شعبية، معلنين تشكيل «مجلس وطني للإصلاح». وفي رسالة إلى الشعب عبر الإذاعة الوطنية تلاها عسكري قدّم نفسه على أنه مساعد قائد الحرس الجمهوري ورئيس «الحركة الوطنية لشبيبة قوات الدفاع والأمن في الغابون»، قال: «اليوم المرجو حلّ، حيث قرر الجيش الوقوف بجانب شعبه لإنقاذ البلاد من الفوضى». وأردف «إن كنتم تتناولون الطعام توقفوا، إن كنتم نائمين استيقظوا، أيقظوا جيرانكم، انهضواً معاً وسيطروا على الشارع». إلا أنه سرعان ما أجهِض الانقلاب، الذي وصفه أحد المحللين السياسيين الجيدي الاطلاع بـ«الفولكلوري»، ورأى أن من قاموا به ينتمون إلى فرع شرفي بحرس الرئاسة، لا يحملون أسلحة، ولا يستطيعون أن يأمروا أحداً فيأتمر لهم».
تابع المحلل: «ظنّوا أنهم بمجرد تحركهم باتجاه الإذاعة سيتمكنون من خلع بونغو». وانتهى إلى أن «المؤسسات العسكرية والأمنية والدستورية التي أسّسها علي بونغو هي من تحمي نظامه»، حتى أنه يشاع في البلاد أن رئيسة المحكمة الدستورية ماري مادلين مبورانتسو، لا تدافع عن الدستور الغابوني بقدر ما تدافع عن عائلة بونغو.