عاموس عوز: تهمة الخيانة وسام على صدري

الروائي الإسرائيلي الراحل حاصره قومه ومنهم من دعا لقتله

عاموس عوز: تهمة الخيانة وسام على صدري
TT

عاموس عوز: تهمة الخيانة وسام على صدري

عاموس عوز: تهمة الخيانة وسام على صدري

الكاتب والروائي الإسرائيلي العالمي، عاموس عوز، الذي توفي عن عمر يناهز 79 عاماً، الأسبوع الماضي، كان واحداً من سلالة طويلة لشخصيات أدبية وفلسفية نادرة. صدق الرواية الصهيونية منذ الصغر، وحارب لأجلها، أحبها واعتبرها «حركة تحرر وطني مميزة». منذ كتاباته الأولى رأى أنها «دولة عجيبة من عجائب الدنيا السبع». ولكنه، ومع تقدمه في العمر والتجربة، ومع تعمقه في شخصياتها القيادية والعادية، وبعد قراءته لسياستها وممارساتها، صار يشعر أن في الأمر خدعة ما لا بد من التوضيح والتصحيح فيها. كتب. تكلم. صاح. صرخ. زعق. صعق. فوضعوه في خانة الخائن. كان يحصد الجوائز المهيبة في العالم، ما يزيد عن 30 جائزة دولية، ومع كل جائزة يرتفع اسم إسرائيل مع اسمه، ولكنهم رأوا فيه خائناً. ترجمت كتبه إلى أكثر من ثلاثين لغة، ومن خلالها تعرف الكثيرون على جانب لم يعرفوه عن إسرائيل، لكن الإسرائيليين حاصروه. وكان بينهم من دعا لقتله. وكان يستهجن ذلك، فكل ما يفعله هو أنه يقول كلمات. يكتب كلمات. لم يؤذ أحداً. وإن فعل فهو لا يقصد ذلك: «عندما أتحدث أمام الجمهور فإني أستعد لساعات وأفكر بكل كلمة. أنا رجل كلمات، هذه مهنتي»، قال. لكن هذا الدفاع كان من كرتون. لم يسعفه شيئاً.
عاموس عوز، بدأ ثورته من كتابه الأول، الذي صدر في سنة 1966، وهو عبارة عن رواية بعنوان «ربما في مكان آخر». فقد تناول العلاقات في «الكيبوتس»، وهو التعاونية الزراعية في حينه الذي يعيش فيه الأعضاء في نظام اشتراكي. ومع أنه أشار في المقدمة إلى أنه «كيبوتس خيالي»، فقد أغضب عليه معظم رفاقه الأعضاء، لأنه كشف خبايا تعري «أصحاب المبادئ» وتظهر نقاط الضعف والفساد والمحسوبيات وتقوض الصورة المثالية التي حاولوا رسمها. يوضح في الرواية مدى تأييده وحبه للاشتراكية، ولكنه يرفض إغماض عينيه عن رؤية سلبياتها أيضاً. ويؤكد فيها ما يروجه الإسرائيليون عن أهمية الجيش والخدمة العسكرية، لكنه لا يسكت عن ممارسات الغطرسة العسكرية وأوساخ الحرب وجرائمها. ونجده يطور هذه المفاهيم في الروايات اللاحقة ليهاجم الممارسات العسكرية ضد الفلسطينيين في إسرائيل، في أيام فرض الحكم العسكري على المواطنين العرب (فلسطينيي 48).
في روايته الثانية «عزيزي ميخائيل»، التي صدرت عام 1968، وتُرجمت إلى نحو 30 لغة، من بينها العربية، يذكر أنه متهم بالخيانة منذ سن الطفولة ويجعل منها سخرية، ويقول إن هذه التهمة هي وسام على صدره: «في عدة مناسبات في حياتي كانوا يسمونني (الخائن). حصل ذلك أول مرة حينما بلغت الثانية عشرة وثلاثة شهور من العمر. كنت أعيش في منطقة قريبة من حدود مدينة القدس. وتوافق الحادث مع العطلة الصيفية، قبل قليل من خروج البريطانيين من البلاد، وكانت دولة إسرائيل تولد وسط المعمعة والحروب. ففي صباح عابر رأيت هذه الكلمات على جدار بيتنا (بروفي بوغيد شافيل). وكانت منقوشة بحروف سوداء داكنة وكثيفة تحت نافذة المطبخ تماماً. ومعناها (بروفي خائن سافل). كلمة (سافل) تحولت إلى تساؤل لا يزال يثير اهتماماتي حتى الآن، حتى هذه اللحظة التي جلست فيها لأدون هذه الحكاية: فهل يمكن للخائن ألا يكون سافلاً؟ إن كانت الإجابة لا، لماذا تجشم شيتا ريزنيك (فقد تعرفت على خطه) مشقة إضافة الكلمة (سافل)؟ وإن كان هذا صحيحاً دائماً، في أي ظروف لا تكون الخيانة عملاً سافلاً؟ حصلت على لقب بروفي مُنذ شبابي ولم أنفصل عنه. وهو اختصار لكلمة بروفسور، التي كانوا ينادونني بها لهوسي بالتدقيق في الكلمات. (ما زلت أعشق المفردات: أنا أحب تجميعها، وترتيبها، والعبث بها، وعكسها، ثم تنسيقها، بنفس الدرجة التي يحب بها الناس النقود، وكما يفعلون بالقطع المعدنية أو الورقية، أو لنقل كما يفعل الناس الذين يحبون اللعب بالورق). شاهد والدي الكتابة تحت نافذة المطبخ حينما غادر البيت ليحصل على جريدته في السادسة والنصف صباحاً. وخلال الإفطار، وهو يهمّ بدهن مربى التوت على شريحة من الخبز الأسمر، غرس فجأة السكين في صحن المربى تقريباً حتى طرف مقبضه، وقال بطريقة مُتعمدة: (يا لها من مفاجأة سعيدة! علام ينوي سيادته الآن، أن نحوز على هذا الشرف؟). قالت والدتي: (لا تشتمه منذ الصباح الباكر. إنه لأمر سيئ بما فيه الكفاية أن يشتمه الأولاد الآخرون). كان الوالد يرتدي الثياب (الخاكي)، مثلما يفعل معظم الجيران في هذه الأيام. وكانت له ملامح وصوت رجل يمتلك زمام الحقيقة كلها. وهو يحمل كتلة دسمة من مربى التوت من الصحن ويدهن بمقدار متساوٍ كسرتين من الخبز، قال: في الحقيقة كل الناس تقريباً في كل مكان يستخدمون في هذه الأيام كلمة (خائن) كيفما اتفق. ولكن من هو الخائن؟ نعم. إنه رجل بلا شرف. رجل يساعد العدو لينشط ضد شعبه في السر ومن وراء الظهر، وفي سبيل منافع غير مؤكدة. أو أنه يضر عائلته وأصدقاءه. إنه أكثر انحطاطاً من القاتل المجرم. والآن التهم ما تبقى من البيضة».
لكن هذه السخرية كادت تكلفه ثمناً باهظاً. فهو لم يوفر خصومه السياسيين بتاتاً. فمنذ احتلال إسرائيل سنة 1967، وهو يكافح ضد الاحتلال ويعتبره مدمراً لإسرائيل. كرس في كفاحه هذا كل مواهبه الأدبية، اللغة الجميلة والتعابير السلسة المفهومة، والصور الدقيقة الألوان والألحان والأشجان، والسخرية اللاذعة، والوخز واللكز، والإطراء والإثراء. واتخذ موقعاً عدائياً حاداً من المستوطنين: «ناهبي الأرض وناشري الكراهية ومثيري الأحقاد». وعندما أقدم «شبان التلال» (شبيبة المستوطنين) على إحراق بيوت فلسطينية واقتلاع أشجار، لم يتردد في تسميتهم «النازيين الجدد»، خلال كلمة له أمام رئيس الدولة رؤوفين رفلين، فقال: «تعابير (شارة الثمن) و(فتيان التلال) هي تعابير مُجَمَّلة، ينبغي النظر إلى الوحش في العينين وتسميته باسمه. أردنا أن نكون شعباً مثل كل الشعوب. توقعنا أن يأتي يوم يكون فيه عندنا سارق عبري ومومس عبرية. لكننا نجد لدينا اليوم أيضاً جماعات (نازية جديدة) عبرية. ليس هناك أي شيء يفعله النازيون الجدد في عصرنا لا تفعله هذه الجماعات عندنا. ولعل الفارق الوحيد يكمن في أن الجماعات النازية الجديدة عندنا تتمتع بدعم وإسناد من غير قليل من السياسيين القوميين، وربما حتى العنصريين وكذا بضعة حاخامين يقدمون لهم ترسيخاً هو في نظري ديني زائف».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟