نادرة هي المدن التي نسجت خيوط تاريخها علاقات وثيقة بعوالم الأدب والموسيقى والفنون والمغامرات والأحداث السياسية البارزة مثل هافانا التي تحتفل هذا العام بمرور خمسة قرون على تأسيسها محافظة على جاذبيّتها الأخّاذة وقدرة الإبداع المذهلة لأهلها الذين تسري في عروقهم دماء من الهند والصين وإسبانيا وأفريقيا.
فصول كثيرة من العزّ والعذاب والقمع والحريّة تعاقبت على العاصمة الكوبية التي تدلّت لحية الرفيق فيديل من شرفتها بتحدٍّ وإباء طوال خمسة عقود على مرمى حجر من الساحل الأميركي بعد أن وضعت العالم على شفا حرب نووية للمرة الأولى في التاريخ، وتحوّلت إلى رمز للحرب الباردة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي، وأصبحت بمثابة المرأة الثانية في حياة كل يساري قبل أن تخمد نيران ثورتها التي صمدت في وجه كل التحدّيات السياسية والعسكرية والاقتصادية لكنها عجزت عن إطعام أبنائها وسدّ عطشهم للحريّة.
لكن رغم ذلك بقيت هافانا تتنفّس الموسيقى والأدب والفنون أكثر من أي عاصمة أخرى في أميركا اللاتينية، يتوافد عليها كبار الكّتاب والشعراء والفّنانين ينهلون من تمازجها العرقي والثقافي الفريد، تجذبهم قدرة أهلها على التكيّف والابتكار وشغفٌ بالحياة لا يعرف الحدود.
الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي كان له في هافانا منزل يمضي فيه فترات طويلة بعد أن أسّس فيها معهداً عالميّا للسينما، كان يقول إن «العاصمة الكوبية هي ملتقى استوائي تترافد فيه كل المشارب والأزمنة والأمكنة». جاءها الإسبان والأوروبيّون فاتحين وقراصنة، ونزل فيها أبناء القارة الأفريقية عبيداً قبل أن ينضمّ إليهم 150 ألف صينيّ من كانتون وماكاو قرروا البقاء فيها وعدم مواصلة طريقهم إلى جزر الأنتيل. أيّاً كانت الجهة التي ينحو إليها الحديث، عن الهندسة أو الموسيقى أو الرسم والرقص والشعر والشطرنج والأدب، كانت هافانا تنضح دائما بالثقافة رغم كل المراحل المضطربة والصعبة التي مرّت بها وما دار حولها من أحداث. الأدباء الكوبيّون الثلاثة الذين نالوا جائزة سرفانتيس، وهي نوبل الآداب الإسبانية، كانت هافانا محور أعمالهم والشخصية الأبرز فيها.
الشواهد المعمارية التي تخضع لعملية ترميم ضخمة منذ سنوات بعد أن أعلنتها منظمة اليونيسكو تراثاً عالميّا، تشهد على عظمة قلّ نظيرها في القارة التي «اكتشفها» كريستوفر كولومبوس بميادينها الخمسة الفريدة وقلاعها البحرية الضخمة. وإلى جانبها عشرات المباني الحديثة التي تحمل هويّة خاصة بها، وعدد من العمارات الأنيقة التي تركها الأميركيّون عندما كانت هافانا مسرحاً لتجاوزاتهم ومرتعاً للمافيا والمنظمات الإجرامية.
ويقول المؤرخ المشرف على ترميم الوسط التاريخي للمدينة، إن «هافانا حالة نفسيّة، عندما يصل المرء إليها يشعر بأن ثمّة ما يغريه ويجذبه، ثم يأسره ولا يقوى على الإفلات منه. أحياناً ينسدل عليها خمار من التداعي، لكن ما إن ترفعه عنها حتى ينداح أمامك مشهد معماري رائع ينقلك في مسافة قصيرة من قصور القرن السادس عشر إلى أحدث المباني الطليعية».
وهافانا الساحرة كانت هي مفتاح الباب الواسع إلى القارة الأميركية وهمزة الوصل الرئيسية بين أوروبا والعالم الجديد وما زالت إلى اليوم العاصمة الثقافية لأميركا اللاتينية. فيها وضع خوان رامون خيمينيث أجمل أشعاره وتشكّلت المعالم النهائية لموسيقى الجاز، وعلى طاولات مقاهيها كتب غراهام غرين رائعته «عميلنا في هافانا» وأرنست همنغواي روايته الخالدة «الشيخ والبحر».
احتفالات المئوية الخامسة للعاصمة الكوبية سوف تتوّج أواخر العام الحالي بإنهاء أعمال الترميم الضخمة لمبنى الكابيتول الذي هو نسخة طبق الأصل عن مقر الكونغرس الأميركي، وتعتبر قبّته الشهيرة السابعة في العالم من حيث علّوها وقطر دائرتها. وقد كلّفت أعمال ترميم المبنى 20 مليون دولار، أي ضعف تكلفته عند تشييده عام 1929 ليكون مقرّاً لمجلسي الشيوخ والنوّاب. وينتظر أن يعود إلى وظيفته الأساسية، ابتداء من العام المقبل، بعد أن حوّلته الثورة إلى أكاديمية العلوم ثم إلى وزارة العلوم والتكنولوجيا والبيئة.
هافانا تحتفل بخمسة قرون على تأسيسها
هافانا تحتفل بخمسة قرون على تأسيسها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة