100 لوحة لاستكشاف رينوار: الأب الرسام والابن مخرج السينما

في متحف «أورساي» للفن المعاصر في باريس، يقام معرض فريد من نوعه يجمع بين الرسم الانطباعي والسينما. ومصدر الفرادة هو أنه يقود الزائر، عبر مجموعة مختارة من اللوحات والصور، إلى استكشاف العالم الفني لاثنين من كبار فناني فرنسا، الأول هو الرسام بيير أوغست رينوار، إحدى قامات المدرسة الانطباعية، والثاني هو ابنه جان رينوار، المخرج الذي بنى شهرته على موهبته الخاصة. وتولى مهمة تنظيم المعرض الناقد والمؤرخ وأستاذ الفن باسكال بونافو، الذي صدر له عن منشورات «دو شين» كتاب مصور فخم بعنوان «100 لوحة تروي رينوار».
لا بد من التذكير، هنا، بأن استكشاف عالم الرسام لا يعني تفسير لوحاته. فهو كان قد أوصى بصرف النظر عن أي محاولة من ذلك النوع لأنه كان يؤمن بأن «تفسير اللوحة ليس من الفن في شيء». لذلك لا بد للباحث عن متعة النظر من الاكتفاء بالتجول والفرجة ومتابعة ذلك الحوار الخفي القائم بين لوحة هنا وصورة فوتوغرافية هناك، أي بين التشكيل والسينما.
إن التبادل بين الأب والابن لا يقتصر على تشابه في المزاج الفني بقدر ما يمتد إلى لعبة مضمرة من التأثير المتبادل. لقد رسم أوغست رينوار أجواء تبدو وكأنها مشاهد من أفلام، كما قام جان رينوار برسم لقطات سينمائية تبدو وكأنها لوحات تشكيلية.
ينتبه زائر المعرض إلى أن المخرج لم يكن يوجه ممثليه وممثلاته فحسب بل كان يضعهم في أماكن محددة داخل اللقطة، مستلهماً جماليات التعبير الفني في لوحات أبيه، وكذلك أعمال الانطباعيين الآخرين من الفترة نفسها، حين كان القرن التاسع عشر يلفظ آخر أنفاسه. كما يركز المعرض على دور جان رينوار في نشر استعادة لوحات أبيه بعين جديدة وعلاقته بالوسط الفني وممارسته لفن الخزف «السيراميك» بموازاة اشتغاله في الإخراج.
كما يتوقف الزائر أمام تلك اللوحات التي وقف فيها جان الطفل كـ «موديل» يرسمه أبوه. في حين أنه لم يحاول أن يقتنص أباه في لقطات بالكاميرا السينمائية. عوضاً عن ذلك، خصص الابن 20 عاماً من وقته لكتابة سيرة الأب التي ما زالت طباعتها تستعاد حتى اليوم.
إن متحف «أورساي» لا يحتفي، هذه المرة، بلوحات فنية معاصرة فحسب بل بالكثير من الفوتوغرافيا والمقاطع الفيلمية والوثائق وملصقات السينما وأزياء الممثلين. وكثير من تلك القطع تعرض للمرة الأولى أمام الجمهور العريض. وهناك موضوع أساس يكاد يستولي على المعروضات هو الاحتفاء بالمرأة، سواء في المشهد التشكيلي أو المشهد السينمائي. إن النساء عالم قائم بذاته في أعمال الرينوارين، الأب والابن. وقد اعتنى كل منهما عناية خاصة بإبراز ما لديهما من نعومة وحساسية وحيوية ونزوع نحو الحرية والتأصل في الإنسانية.
ليست هي المرة الأولى التي تقدم فيها باريس التحية لفنانها الانطباعي الشهير، ففي عام 2009 استقبل القصر الكبير معرضاً مخصصاً لرسوماته خلال الثلاثين سنة التي سبقت وفاته في عام 1919. وقياس مدى تأثيره على من جاء بعده من رسامي النصف الأول من القرن العشرين وكذلك اكتشاف جوانب غير معروفة من أعماله. وفي ذلك المعرض برزت أيضاً الحفاوة بالمرأة، فقد اجتهد الرسام في تصوير موديلات ذوات وجوه مضيئة وجلد لؤلؤي، كل واحدة تنشغل بأمر ما، كالعزف على البيانو أو المطالعة أو اللهو مع أطفالهن. وهناك من يتمشطن أو يغتسلن وكأن «الحياة تمر هادئة» كما يقول الروائي الروسي أنطوان تشيخوف. ويفهم الزائر بأن الرسام كان يكتفي بأن يشاهد الموديل أمامه، ولو للحظات، ليبدع في الرسم مصوراً عوالم داخلية لا يراها غيره.
يقول الرسام الفرنسي هنري ماتيس أحد أبرز الفنانين التشكيليين في القرن العشرين عن لوحات رينوار إن بعض اللوحات التي رسمها في سنواته الأخيرة قبل وفاته كانت من أجمل ما رسمه طيلة حياته على الإطلاق خصوصا لوحة «السابحات» فهي رائعة من روائعه.
ويمكن للجمهور أن يشاهد هذه اللوحة في المعرض الحالي إذ تعبر عن الجمال الأنثوي بكامل صوره. وحين وفد رينوار من الريف الساحر على العاصمة باريس، بعد جولة في شمال أفريقيا، لم يعد يكتفي باللوحات التي تصور الطبيعة بل كانت أولى لوحاته عبارة عن امرأة جميلة ترتدي الزي الجزائري. لكن النقاد وصالات العرض لم تتقبل مثل هذه اللوحات تماما مثل زملائه أمثال بول سيزان الذي مارس تصوير المشاهد الطبيعية وكلود مونيه الذي رسم «انطباع شمس مشرقة»، فشكلوا بالتالي الحركة الانطباعية كمذهب جديد للرسم الذي يقترب من الحقيقة وهو ما يعتبر ثورة فنية في عالم الرسم استقطبت معظم فناني أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.