«لعنة جيش فاغنر» تلاحق الساعين إلى فتح ملفات المرتزقة في سوريا

معطيات عن «تمدد» نشاط الجيش الروسي الخاص إلى السودان وليبيا

صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
TT

«لعنة جيش فاغنر» تلاحق الساعين إلى فتح ملفات المرتزقة في سوريا

صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور
صورة نشرها موقع روسي لعناصر من {جيش فاغنر} في دير الزور

أشعل تعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً، حول نشاط التشكيلات الخاصة الروسية التي قاتلت في سوريا منذ عام 2015، وباتت معروفة باسم «جيش فاغنر»، النقاشات مجدداً حول مدى سطوة وقوة وحدات المرتزقة التي عكس نشاطها تغلغل الأصابع الخفية الروسية في أزمات وحروب خارجية، على مدى السنوات الست الأخيرة.
ومع حروب الكرملين المعلنة في أوكرانيا وسوريا، فإن خريطة انتشار «الجيش السري» كانت أوسع بكثير وشملت بلداناً لا وجود عسكرياً مباشراً لروسيا فيها، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى. وهذه الخريطة تتجه إلى أن تتسع أكثر، إذ تبدو بلدان جديدة تعاني أزمات وحروباً، وفيها ثروات تسيل اللعاب مرشحة لأن تكون الوجهات الجديدة للمرتزقة الذين تقترب مهمتهم في سوريا من الانتهاء، مع استكمال المرحلة الأخيرة لفرض القبضة الروسية في شمال البلاد وشرقها، في حال نفذت الولايات المتحدة قرارها بالانسحاب من المنطقة.
بوتين أشعل النقاشات بتعليق صغير رداً على سؤال في مؤتمره الصحافي السنوي، حول نشاط «جيش فاغنر» خارج الحدود. قال الرئيس إنه لا يمكن أن يحظر «الشركات الأمنية الخاصة» في البلاد، لأن ثمة مليون شخص يعملون فيها. أما بالنسبة إلى نشاطها «خارج روسيا» فهذا أمر يتعلق بمصالحها. و«إذا كانت لا تخالف القوانين الروسية، فمن حقها أن تعمل في أي مكان في العالم». وزاد أنه يمكن أن تحقق النيابة العامة الروسية في نشاط الشركات الخاصة إذا برزت مخالفات لديها.لم يمر وقت طويل بعد ذلك، حتى أعلنت النيابة العامة الروسية أنها «لا يمكن أن تفتح تحقيقاً في نشاط هذه الشركات بسبب عدم وجود أي جهة مشتكية».
هكذا حُسِم الملف. لا توجد جهة ادعاء، وبالتالي لا مبرر لفتح تحقيق في نشاط جيش فاغنر في سوريا أو غيرها. لكن سرعان ما أثارت هذه العبارات غضب معارضين ومعلقين رأوا أنه «لا توجد جهة ادعاء، لأن كل من يحاول فتح هذا الملف تصيبه لعنة فاغنر، من الصحافيين الذين قُتلوا أو لوحقوا في مناطق مختلفة إلى الباحثين والدارسين الذين وجدوا أنفسهم في السجن بتهمة محاولة إفشاء أسرار الدولة».

موت صحافيين بظروف غامضة
على مدى العامين الأخيرين تعرض عشرات الصحافيين إلى ملاحقات أو مضايقات وصلت إلى موت بعضهم في ظروف غامضة. الجامع بينهم أنهم حاولوا الاقتراب من هذه المنطقة الغامضة والمخيفة: دور ونشاط التشكيلات العسكرية الخاصة في الحروب الخارجية.
هذا ما حدث مع الصحافي الروسي مكسيم بورودين، الذي «انتحر» فجأة في مدينته يكاتيرنبورغ في أبريل (نيسان) الماضي، بعدما قفز من شرفة منزله في الطابق الخامس. وكان يمكن للحادث أن يمر سريعاً ولا يلفت الأنظار، لولا أن اسم «المنتحر» برز بقوة في قضية نشاط «فاغنر» في سوريا؛ فقد كان أول من كشف تفاصيل كاملة عن حادثة تعرض وحدات من المرتزقة الروس، الذين كانوا يقاتلون قرب تدمر، لقصف أميركي مركّز يوم السابع في فبراير (شباط) الماضي، على قافلة ضمن 3 وحدات من هذا الجيش كانت تقترب من موقع نفطي قرب دير الزور. وأسفر القصف عن مقتل 217 منهم، وفقاً لتأكيدات صدرت لاحقاً.
وأثار الموت الغامض لبورودين شكوكاً كثيرة لدى الأوساط القريبة منه، ولدى منظمة «مراسلون بلا حدود» التي طالبت بتحقيق جاد وشفاف. بينما قالت رئيسة تحرير «نوفي دين»، بالينا رومانتسيفا، إن مكسيم الذي عمل للصحيفة «كان نشطاً ومحباً للحياة، ولا دوافع لديه كي ينتحر»، وأعربت عن شكوك بسير التحقيقات، ونبّهت إلى أن «موته ليس مجرد حادث، ثمة من ساعد في إظهاره كأنه انتحار»، علماً بأن بورودين الذي تبنى موقفاً مناهضاً للتدخل الروسي في سوريا منذ بدايته، تعرض لوابل من التهديدات في السابق بسبب مواقفه، ونجا بأعجوبة من موت محقق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعدما اعتدى مجهولون عليه مستخدمين قضباناً حديدية، بعد مرور وقت قصير على إجرائه مقابلة تلفزيونية مع محطة «دوجد» المعارضة تحدّث فيها عن الوضع في سوريا.
اللافت أن مواقع روسية كانت قد أشارت بعد حادثة «جيش فاغنر» إلى تعرض عدد من الصحافيين الذين تابعوا الموضوع لمضايقات متنوعة. ووجه بعض ناشطي «الجيش» تهديدات مباشرة عبر مواقع إلكترونية إلى «مَن يحاولون الإساءة إلى المقاتلين الذين سقطوا في معركة»، في إشارة إلى ضحايا الهجوم الأميركي قرب دير الزور.
هكذا تعرضت شبكة «فانتانكا» في سان بطرسبورغ التي تابعت ملف قتلى «فاغنر» وأجرت مقابلات مع ذويهم في روسيا، لوابل من التهديدات، وأضيفت إلى «لائحة سوداء»، ظهرت على شبكة الإنترنت تضم «عملاء» و«طابوراً خامساً».
وفي أكتوبر الماضي، تعرضت صحيفة «نوفاي غازيتا» إلى سيل من التهديدات، بينها وضع أكاليل جنائزية على باب المؤسسة المعارضة، مع أقفاص فيها خراف وبطاقات كُتبت عليها أسماء صحافيين فتحوا ملف «جيش فاغنر». وتعرض لتهديد مماثل في الفترة ذاتها، الصحافي دينيس كوروتكوف الذي وُصف في بطاقة أرسلت إلى مقر عمله في تلفزيون «الجديد»، بأنه «خائن»، قبل أن يقوم مجهولون بإرسال باقة تحتوي على عدد زوجي من الزهور (في إشارة إلى الموت) إلى منزله، حيث تم تسليمها إلى زوجته مرفقة ببطاقة عليها عبارة «لن ننساك». وكوروتكوف هو صاحب تحقيقات رنانة، درس لفترة طويلة إمبراطورية رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من بوتين، الذي يدير أنشطة الشركات العسكرية الخاصة الروسية.

وللباحثين نصيب
لكن تلك الملاحقات والتهديدات الخفية لم تقتصر على صحافيين تابعوا نشاط «جيش فاغنر» في سوريا، بل وصلت إلى باحثين في مراكز مرموقة للدراسات الاستراتيجية، مثل فلاديمير نيلوف الذي يقبع حالياً في السجن بعد توجيه تهمة إفشاء أسرار الدولة والتخابر مع جهات أجنبية ضده، بداية الشهر الماضي. ونيلوف هو خبير عسكري كان يظهر على شبكات التلفزة الحكومية ويقدم تعليقات على الأحداث لمؤسسات إعلامية كثيرة داخل روسيا وخارجها، وعمل في «مركز البحث الاستراتيجي» كمتخصص في دراسة الشركات العسكرية الخاصة، وخصائص الحروب الحديثة، والعقائد والاستراتيجيات العسكرية، والثورات المسلحة وظاهرة «خصخصة المجال العسكري». وهو مؤلف كثير من الأعمال في مجال البحث الاستراتيجي والتحليل العسكري السياسي، لكن الخطأ «الاستراتيجي» الذي أوقعه أنه كرس جزءاً من دراساته المنشورة لمتابعة نشاط «جيش فاغنر».
قبل ذلك، وتحديداً في أغسطس (آب)، لقي ثلاثة صحافيين روس مصرعهم في أفريقيا الوسطى خلال محاولتهم إجراء تحقيق حول نشاط الشركات العسكرية الروسية الخاصة في هذا البلد. قتل الصحافيون على أيدي مجموعة مسلحة قطعت طريق موكبهم وفتحت نيراناً عليهم. وأعلنت الأجهزة الخاصة الأوكرانية في وقت لاحق أن لديها لائحة تضم عشرة أسماء من مقاتلي «فاغنر» دخلوا إلى أفريقيا الوسطى ونفذوا «عملية الاغتيال»، لكن الكرملين اعتبر الاتهامات «سخيفة» وقال إنه لا يوجد دليل على تورط المجموعات الخاصة الروسية بهذه الجريمة.
مهما كانت الحقيقة في مقتل الصحافيين في هذا البلد الأفريقي؛ فهي فتحت الباب للحديث عن انتشار نشاط «جيش فاغنر» في مناطق جديدة، وبعدما كان الجيش يرسل مقاتليه إلى سوريا للمساعدة في السيطرة على مواقع ومنشآت نفطية في مقابل عقود مجزية وقّعها مقربون من الكرملين مع السلطات السورية للحصول على النفط السوري، فإن تقارير أشارت إلى أن نشاط هذه الشركات الخاصة في القارة الأفريقية مرتبط بالسيطرة على مناجم الماس وتوقيع عقود مماثلة هناك.

تمدد «جيش فاغنر» في السودان وليبيا
منذ بداية الحملة العسكرية في سوريا، لم تعترف السلطات الروسية بوجود الشركات العسكرية الخاصة الروسية في هذه الحرب، ولا بوجود مثل هذه الشركات في روسيا من حيث المبدأ. وقال ديمتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للرئيس الروسي في حينها: «بحكم القانون، ليس لدينا كيانات قانونية مثل الشركات العسكرية الخاصة». وكان معروفاً عن هذه الشركات أنها شاركت في العمليات العسكرية في أوكرانيا في إطار ما عُرِف بـ«الفيلق السلافي» الذي أسهم في السيطرة على القرم وعلى مناطق في شرق البلاد. ومنذ 2015 تم زجّ آلاف من مقاتليه في سوريا عبر إعلانات مغرية برزت على شبكات التواصل الاجتماعي، ودفعت إلى تطوع كثيرين من مشاركي الحرب الشيشانية والحرب الجورجية في السابق في هذه التشكيلات طمعاً بالمكافآت المجزية. ونشرت وسائل إعلام غربية تفاصيل واسعة ومقابلات مع عدد من ذوي القتلى في سوريا توضح جوانب من هذه التفاصيل، بعد مقتل 217 من المرتزقة في هجوم أميركي على قافلتهم قرب دير الزور في فبراير الماضي التي فجّرت النقاش حول الموضوع بعدما كان محرماً.
في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ذكرت «نوفاي غازيتا» أن رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المعروف باسم «طباخ الكرملين» (كونه كان متعهد حفلات في الكرملين قبل أن يفتح نشاطاً واسعاً باستخدام الشركات العسكرية الخاصة منذ عام 2012)، كان حاضراً في المحادثات بين وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو وقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. وفسر حضور الرجل الذي لا يتولى منصباً عسكرياً أو رسمياً في الدولة، بأن جانباً من النقاشات تعلق بإرسال وحدات روسية خاصة إلى ليبيا.
قبل ذلك مباشرة ترددت معطيات عن وجود عدة وحدات من «جيش فاغنر» في السودان.
ولا تستبعد مصادر روسية أن يكون النشاط القائم حالياً، يهدف إلى تحويل جزء من المتعاقدين في الجيش الروسي الخاص من سوريا بعد تراجع الحاجة إلى نشاطهم في هذا البلد، ما يعني أن التمدد سيكون أوسع خلال المرحلة المقبلة في كل من ليبيا والسودان، فضلاً عن بلدان أفريقية أخرى تتطلع روسيا إلى توسيع وجودها فيها عبر الشركات الخاصة، للحصول على استثمارات وعقود مجزية.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.