أماكن سياحية ألهمت أعمالاً خالدة

تقفي خطى الشعراء والرسامين يقود دائماً إلى الطبيعة

جبل فوجي الذي ألهم الفنان الياباني هوكوساي
جبل فوجي الذي ألهم الفنان الياباني هوكوساي
TT

أماكن سياحية ألهمت أعمالاً خالدة

جبل فوجي الذي ألهم الفنان الياباني هوكوساي
جبل فوجي الذي ألهم الفنان الياباني هوكوساي

تفيد الدراسات الأخيرة التي وضعتها منظمة السياحة العالمية بالتعاون مع المنظمة الدولية للطيران المدني، بأن المسافرين اليوم يتوزّعون على ثلاث مجموعات رئيسية: أولئك الذين يسافرون في الإجازات للاستجمام وكسر الروتين اليومي باستكشاف بلدان جديدة، والمهاجرون الذين يعودون إلى مواطنهم الأصلية لزيارة الأهل والأقارب، والذين تقتضي منهم الأعمال التنقّل من بلد لآخر. ثم هناك مجموعة رابعة أقلّ عدداً بكثير تسعى البلدان السياحية الرئيسية إلى تنميتها وتحفيز الانضمام إليها: إنها مجموعة السيّاح الثقافيين الذين تستهويهم مسارات الفنون والآداب، فيسعون وراء مصادر إلهامها والمواطن التي تفتقّت فيها عبقرية الرسامين والكتّاب والشعراء وتراكم حاصل إنتاجهم إلى يومنا هذا. جولتنا الأولى ستكون على بعض الأماكن والمشاهد الطبيعية التي ألهمت كبار الرسامين العالميين الذين خلّدوها في أعمالهم وذاعت شهرتها حتى بين من لم يزوروها أبداً. وعندما نجول اليوم على المتاحف العالمية ونقف أمام أعمال كبار الفنّانين أينما كانوا، ندرك أن الطبيعة كانت ولا تزال مصدر إلهام لا ينضب، تحمل من الألغاز بقدر ما تحمل من الأجوبة، ونقع على مشاهد أخّاذة تحملنا إلى أماكن، نعرفها أو نتوق إلى معرفتها، بعضها ما زال موجوداً والبعض الآخر خلّدته ريشة الفنّان إلى الأبد. فالتاريخ علّمنا أن الإنسان، كما الفنّان، مهما بلغ شأنه هو أعزل من غير الطبيعة.
عبقري عصر النهضة ليوناردو دافنشي كان يعتبر أن الطبيعة والتأمل في الطبيعة هما الرحم الذي تتولّد منه الفنون. وكان بوتيتشلّي، الذي وضع أجمل لوحة في التاريخ عن الربيع، يرى أن الرسم هو المرآة التي تعكس الصلة الحميمة بين الإنسان والطبيعة، وأن الإنسان بحاجة إلى الانصهار في الطبيعة والتفاعل مع عناصرها كي يتسنى له فهمها وإدراك كنهها.
في القرن الرابع قبل الميلاد كانت المشاهد الطبيعية حاضرة في تقاليد الفنون الشرقية، لكن رسم الطبيعة لم يتحوّل إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها حتى عصر النهضة. بلغت أوج تألقها إبّان العصر الذهبي الهولندي مطالع القرن السابع عشر على يد مجموعة من الرسّامين الذين تأثروا بفنّاني مدرستي فلورنسا وميلانو الإيطاليّتين.
والمدرسة الانطباعية التي هي الأكثر التصاقاً بالطبيعة، والتي حظيت بأوسع الشهرة وأرفع التقدير، ليست وحدها التي تدين للطبيعة بروائعها. يروي كندينسكي، كبير الرسّامين التجريديين، أن لوحاته الأكثر غرابة وتعقيداً من حيث تركيبها، هي أيضاً تولّدت من عناصر طبيعية خارجية. وعندما انطلق بيكاسو في رحلته محلّقاً في فضاء الرسم التكعيبي، نهل من الطبيعة الجيّاشة حول مزرعة سان جوان في أرياف كاتالونيا، حيث يقوم اليوم مركز للدراسات الفنيّة يحمل اسمه. وهو كان يردّد أن كل ما يعرفه تعلّمه في تلك المزرعة التي خلّدها في لوحاته بعد أن أقام فيها فترتين، الأولى عام 1898 مدعوّاً من أحد أصدقائه، والثانية في 1909 على مشارف مرحلته التكعيبية.
في عام 1802غادر كبير الانطباعيين البريطاني جوزيف تورنير بلاده في جولة على القارة الأوروبية وعيناه جائعتان لرؤية المشاهد الطبيعية التي طالما حلم بها. وتنقّل في الطبيعة الفرنسية التي سحرته إلى أن وصل إلى جبال الألب ليقف مأخوذاً أمام «القمّة البيضاء» وما يحيط بها من مشاهد آسرة ليضع لوحته الشهيرة «رسّام الضوء» التي ما زالت تعتبر إحدى قمم الرسم الانطباعي.
أما قرية جيفرني (Giverny) الواقعة في منطقة النورماندي الفرنسية، فهي تختزل وحدها انطباعيّة كلود مونيه الذي استقرّ فيها منذ وصوله إليها عام 1883 مع عائلته وعاش فيها 43 عاماً حتى وفاته في منزل تحيط به حديقة غنّاء انصرف لرسم كل زواياها مستلهماً من ربيعها وخريفها نسغ لوحاته الخالدة.
بلدة آرلز (Arles) في الجنوب الفرنسي كانت ملهمة العبقري الهولندي فينسنت فان غوخ الذي حطّ رحاله المعذّبة تحت أضوائها وألوانها في شتاء العام 1888، وعاش فيها أخصب مراحله حيث وضع أكثر من 150 لوحة ومئات الرسوم، وحيث باشر باستخدام الألوان الصفراء والخضراء والزرقاء الداكنة التي ميّزت أعماله وأطلقته إلى الشهرة العالمية بعد وفاته. وفي تلك البلدة التي قال إن روحه ولدت فيها، رسم عدداً من روائعه مثل «البيت الأصفر» و«دوّار الشمس» و«غرفة الرسّام».
الجنوب الفرنسي كان أيضاً مهوى مشاعر بول سيزان الذي استقرّ في منزل له هناك عام 1880 أمام جبل سانت فيكتوار الذي رسمه من كل الزوايا الممكنة لشدّة انخطافه بجمال المشاهد المحيطة به. وفي مقاطعة إكس أونبروفانس، توجد اليوم طريق تحمل اسم سيزان، طولها أربعة كيلومترات، يجول فيها الزائر على الأماكن والمشاهد الطبيعية التي ألهمت أحد عباقرة الرسم العالمي.
وفي العام 1930 عندما كان ماتيس في الستّين من عمره ومدفوعاً بإعجابه الشديد بأعمال بول غوغان، صعد على متن باخرة في ميناء سان فرانسيسكو وتوجّه إلى جزر تاهيتي البعيدة، حيث أمضى شهراً كاملاً، وضع خلاله بعضاً من أجمل لوحاته «مأخوذاً بسحر الليل وإشراقة الفجر التي لها كثافة مختلفة في تلك السماء» كما كتب لأحد أصدقائه.
وفي اليابان، حيث الطبيعة امتداد للروح البشرية وذاكرة يرسو الماضي في مينائها ليعيد بناء الذكريات، كان جبل فوجي، الأيقونة اليابانية المقدّسة، المصدر الوحيد الذي ألهم هوكوساي كبير رسّامي بلاد الشمس الطالعة الذي خلّده في 36 لوحة ما زالت إلى اليوم تعتبر الذخر الفنّي الوطني بامتياز.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».