«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

تربة صالحة لاستقطاب المتطرفين من جماعات الإرهاب المختلفة

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
TT

«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)

هل أضحى جنوب ليبيا مرتعاً جديداً لتنظيم «داعش» ومنه ينطلق إلى قلب القارة الأفريقية؟ تساؤل ارتفع في الأفق في الأشهر الأخيرة لا سيما في ظل الضربات الإرهابية التي وجهها التنظيم إلى عدد من المدن والقرى في الجنوب الغني بالثورات والفقير بالخطط اللازمة لإدارته، ما يجعل منه حاضنة متميزة للغاية لمثل تلك الجماعات الظلامية.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كثف التنظيم الإرهابي من هجماته على جنوب ليبيا، ذاك الذي يعاني من حالة انفلات أمني غير مسبوق، عطفاً على التهميش السياسي والصراعات القبلية على النفوذ والمصالح، وقد كانت بلدة «تازربو» شمالي الكفرة موضوع الهجوم الأخير الذي أسفر عن قتل وإصابة نحو ثلاثين فرداً، وقد سيطروا على نقطة شرطة البلدة، قبل أن يتمكن السكان من طردهم لاحقاً.
ولعل الهجوم الأخير يطرح عدداً من الأسئلة المهمة عن الجنوب الليبي وما يجري فيه، وهل الأمر مقصور على ليبيا فقط أم أن هناك خططاً إرهابية أوسع وأعمق تتصل باختراق «داعش» للقارة الأفريقية، وبناء هياكل تنظيمية له على الأرض في عدد من الدول المعروفة بضعف بنيتها الأمنية والاجتماعية؟
في بدايات العام الماضي كان الحديث عن انتشار الدواعش في شمال ليبيا، لا سيما في مدينة سرت الليبية، غير أنه مع الانكسار الذي حدث لهم هناك والقضاء على عناصرهم عام 2016 بدا كأن «داعش» يبحث عن أماكن أخرى في ليبيا تتوافر فيها عوامل البقاء، وأهمها أن تكون مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، وأن تكون طرقها وعرة مما يصعب الوصول إليها، عطفاً على الانفلات الأمني فيها وضعف سيطرة الدولة عليها.
في هذا الإطار يمكن القول إن الجنوب الليبي هو أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل.
يشكل الجنوب الليبي جزءاً أساسياً في مسيرة «الدواعش»، خصوصاً أن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس «ولاية فزان»، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يُرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي للتوطين جغرافياً، وإن سمح له باختبار عناصره.
المؤكد أنه ليس «داعش» فقط الذي بدأ يحط رحاله في الجنوب الليبي، فهناك عصابات أجنبية عديدة تقوم بعمليات الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة، التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.
يستفيد «الدواعش» من حالة الانقسام السياسي القائمة في الداخل الليبي، وبالتبعية اختلال الأوضاع الأمنية، ولهذا يقيمون معسكرات لتدريب مقاتليهم في جبال «الهروج» البعيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رقعة الجنوب واسعة والاختلافات فيه متكاثرة، لذا فإن حجم التحديات أكبر من قدرة الجيش الذي يعاني من النقص في الإمكانيات والتسليح. في هذا السياق يمكننا أن نشير إلى ما صرح به المهدي بركة الضابط بقوات الجيش ضمن كتيبة «خالد بن الوليد»، من أن حكومة الوفاق قد «تخلت عن الجنوب، ولا تزال تراوغ في دعم الجيش بسبب خلافات سياسية، بينما يعاني الجنوب الإهمال الكامل».
كيف يعمل «داعش» في جنوب ليبيا؟ بلا شك يعتمد مقاتلو التنظيم على استراتيجيات جديدة أبرزها التخفي والسرية، وتنفيذ عمليات مفاجئة، الأمر الذي يعتبره البعض دليلاً على ضعفه، غير أن السؤال المستقبلي المثير: ماذا عن جنوب ليبيا وبقية العمق الأفريقي، ودول الجوار التي يُرشَّح مدها بإرهابيين يدعمون خطط الدواعش لا سيما من ناحيتي تشاد والسودان؟

جنوب ليبيا مناخ جاذب
لا يمكن تقديم جواب عن السؤال المتقدم من دون التطلع إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت من جنوب ليبيا تربة صالحة لاستقطاب الإرهابيين، دواعش كانوا أو غيرهم من جماعات الإرهاب المنتشرة هناك.
لم ينل الجنوب الليبي أهمية كافية من قبل، حتى في أيام القذافي، ومع الأخذ في الاعتبار أن إقليم فزان في الجنوب، وهو أحد الأقاليم الثلاثة الليبية الكبرى، والذي تبلغ مساحته نحو 550 ألف كم مربع، لا يقطنه سوى أقل من نصف مليون نسمة، على الرغم من أنه يضم معظم حقول النفط في ليبيا، وتنتج فزان قرابة نصف مليون برميل يومياً، كما يزود النهر الصناعي الذي ينبع من الجنوب الليبي مدن الساحل بقرابة نصف مليون برميل ماء يومياً... فإن التهميش والتجاهل من قبل السلطات الليبية لمطالب أهل الجنوب، سمح للميليشيات بملء الفراغ، وممارسة أنشطة غير شرعية مثل الاتجار بالبشر، وتهريبهم من أقصى الجنوب الليبي إلى سواحل أوروبا، عبر مدن شمالي ليبيا. والثابت أن الإهمال الحكومي الجسيم لجنوب ليبيا لا يتصل فقط بالأوضاع الأمنية، ولكنه ينسحب كذلك على الأوضاع الاقتصادية، وهي بلا شك مدخل جيد للإرهابيين الذين يجدون قنوات تمويل واضحة في الحل والترحال لا سيما من قبل قطر وتركيا بنوع خاص.
وتبدو العلاقة الليبية مع القارة الأفريقية من اتجاهين تستورد منها وتصدر إليها... كيف ذلك؟ قبل فترة نقلت صحيفة «التليغراف» البريطانية عن مصادر استخبارية أن «داعش» يسعى لتأسيس ما يطلق عليه «جيش الفقراء»، ويتكون هذا الجيش بالدرجة الأولى من مقاتلين يتحدرون من دول فقيرة قريبة من ليبيا مثل تشاد ومالي والسودان ونيجيريا، وأنه بحكم وقوع ليبيا على طريق المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بـ«الفردوس الأوروبي»، يستغل فرع «داعش» ظروف فقراء قَدِموا إلى هذا البلد لعبور البحر، ويعرض عليهم مئات الدولارات للقتال في صفوفه... هل من إحصائيات رسمية حول الأعداد التي استقطبها الدواعش في جنوب ليبيا؟
ما تقدم هو الاتجاه الأول، أما الثاني فيتمثل في كون جنوب ليبيا هو المعبر الرئيسي إلى العمق الأفريقي، إذ تشير قراءات عديدة قدمتها الاستخبارات الأميركية إلى صناع القرار السياسي، إلى وجود نيات معمقة من قبل القائمين على «داعش» لاكتشاف حواضن بشرية جديدة تفيد على صعيدين، الأول كمورد للعناصر الإنسانية والمقاتلين الجدد، وهناك في عمق أفريقيا عشرات الآلاف الذين يمكن أن يضحوا رافداً خطيراً لـ«داعش»، والصعيد الثاني التمتع بملاجئ آمنة جغرافياً، سيما أن تضاريس العديد من دول أفريقيا الصحراوية تعد البيئة الأكثر ملاءمة لانطلاقة جديدة للدواعش، بعد أن تقطعت بهم السبل في العراق وسوريا، ووجدوا من الدعم الاستخباراتي القطري والتركي بنوع خاص، ما يسّر لهم الانتقال إلى ليبيا ومنها إلى عمق أعماق أفريقيا.
ولعل ما يساعد «الدواعش» وبقية الجماعات المتطرفة في تحقيق أهدافهم هناك.

الطريق إلى صومال جديدة
قبل بضعة أيام تساءل الباحث الإيطالي أرتورو فارفيلي رئيس مركز أفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الإيطالي للدراسات الدولية، عن جنوب ليبيا بنوع خاص، وهل هي منطقة في طريقها للتحول إلى صومال ثانية؟
من المعروف للجميع أن الصومال قد عاشت ولا تزال عقوداً طويلة من الانفلات الأمني والسيولة غير المسبوقة، الأمر الذي جعلها مرتعاً جديداً لحركات أصولية من نوعية «حركة الشباب» أو «حزب الشباب»، وهي حركة قتالية تتبع فكرياً تنظيم «القاعدة»، لكنها أيضاً على صلة بدرجة أو بأخرى بـ«داعش»، سيما وأن الانقسامات في تلك الجماعات سهلة الحدوث في أي وقت. يقول فارفيلي إن الدواعش وبعد الغارات الأميركية في 2016 فرّوا إلى الجنوب، وإن «داعش» قد دخل مرحلة جديدة في ليبيا، حيث انتقل من التوسع الميداني إلى حرب العصابات، مشيراً إلى أن تنظيم «داعش» بصدد إعادة تنظيم نفسه، بقدرته على الضرب في أي مكان من البلاد، بما في ذلك العاصمة طرابلس.
ومع الإمكانية الكبرى للتواصل بين المتطرفين في جنوب ليبيا ونظرائهم في الصومال وغيرها من دول أفريقيا المعروفة بوجود جماعات متشددة على أراضيها، فإن ليبيا مهددة بشكل كبير بأن تتحول إلى صومال ثانية، حسب تعبيره. منوهاً إلى أنه من دون تقديم دعم للمجموعات المحلية التي يمكنها فعلياً مواجهة «داعش»، فإنه لن يكون للضربات الموجّهة ضد قيادات التنظيم أي تأثير على المدى البعيد.
وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الجنوب الليبي وفي ظل صراع القوى السياسية الليبية في الشمال، قد بات منطقة توسع طبيعية باتجاه أفريقيا جنوب الصحراء لتنظيم «داعش»، وهو في طريقه إلى تحويله كذلك إلى منطقة انكفاء في حال حصول تدخل دولي مكثف ضد حضوره في الشمال وعلى الساحل، والموقع والموضع يمكّنان تنظيم «داعش» من الاقتراب من شبكات أصولية وإرهابية في السودان، وتشاد، والنيجر، ومصر، بل وإقامة علاقة تنافسية مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، من دون أن نهمل القرب الجغرافي لجنوب ليبيا من منطقة دارفور، التي تمثل برميل البارود، والذي تخلت عنه الأسرة الدولية، ولهذا يبقى من الطبيعي أن تملأه قوى أخرى، حتى وإن كانت إرهابية.
ولم يكن الحديث المتقدم عن «الدواعش» في جنوب ليبيا تنظيراً فكرياً، بل بات حقيقة واقعة أكدها الاعتداء الذي حصل في بلدة «الفقهاء» التابعة لبلدية الجفرة في النصف الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث أدى إلى مقتل أربعة مدنيين، واختطاف عشرة آخرين من سكان البلدة، بالإضافة إلى شرطيين، ما يعني أن «داعش» قد نجح ولو بشكل جزئي في إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه في الجنوب الليبي.
إلى ذلك تؤكد مصادر في الجيش والاستخبارات الليبية أن عناصر «داعش» قد تمكنت من التمركز في مناطق نائية في صحراء البلاد، ما يشير إلى إنهاء الخلافات التي كانت تدب بين قادة التنظيم، وأكدت المصادر عينها أن تمركزات التنظيم بدت أكثر قوة في مناطق محيطة بجبال الهروج والسوداء، جنوب ووسط جنوب البلاد، وهي مناطق محصنة طبيعياً وتتصل بالحدود الجنوبية المفتوحة، بالإضافة إلى ارتباطها بشبكة صحراوية تصل إلى أودية جنوب شرقي بني وليد جنوب شرقي طرابلس.
والتساؤل يفرض نفسه: هل تلعب العناصر المتطرفة في تشاد دوراً بعينه في أزمة جنوب ليبيا؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، إذ تتواصل تحركات العناصر الأجنبية في الجنوب الليبي، وعلى رأسها قوات المعارضة التشادية، التي تتخذ من أراضي الجنوب مسرحاً لتنفيذ أنشطتها داخل ليبيا وخارجها، وتتهم ليبيا العناصر التشادية بالمشاركة في عمليات خطف وابتزاز المواطنين والأجانب، وبتهريب الأسلحة إلى العناصر المقاتلة وفي المقدمة منها «داعش» ومقاتلوها، والذين تتعدد أسماء جماعاتهم، وبعضهم لم يكن من الدواعش في الأصل وإن أعلنوا لاحقاً التبعية الآيديولوجية مثل جماعة «مجلس شورى شباب الإسلام» الذي يعد من أبرز التنظيمات التي أعلنت انتماءها لتنظيم «داعش»، عبر إنشاء محكمة إسلامية وشرطة إسلامية، والتي قادت عمليات إعدام وجلد علنية، كما واصلت ارتكاب جرائم قتل جرت غالبيتها في بنغاري ودرنة.
وتبقى الإشارة إلى أن الجنوب الليبي يضحى نقطة ارتكاز مالية لـ«داعش» الذي فقد غالبية مصادره في العراق وسوريا، وذلك من خلال تهريب البشر، عبر الحدود، وكذا تهريب الأسلحة والسلع والبضائع، وأنواع الدخان المختلفة، وحتى المشتقات الطبية والمخدرات، لكي يتمكن من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، وقطع الطريق على مناصري «القاعدة» من جهة ثانية.
الطريق إلى المواجهة
ويبقى التساؤل مطروحاً: كيف السبيل إلى مواجهة خلايا «داعش» في جنوب ليبيا، سيما وأن إمكانيات الجيش الليبي ضعيفة، وهناك حصار مضروب عليه من قوى خارجية، تمنعه من استيراد الأسلحة اللازمة، رغم تشدق تلك الأبواق الأممية بحتمية محاربة الإرهاب، في حين يقوم رجالاته بمقاتلة الإرهاب بالنيابة عن دول الجوار والمجتمع الدولي كله، الذي ينظر إليه ولا يدعمه، وتالياً يتهمه بالقصور؟
المؤكد أن الجواب يمضي في اتجاهين متشابكين، فهناك دور واجب على الليبيين أنفسهم في الداخل، وهناك كذلك واجب ملقًى على كاهل المجتمع الدولي انطلاقاً من أن مجابهة الإرهاب ليست شأناً مناطقياً، بل مهمة أممية، وبخاصة أن الجميع بات يكتوي بنيران الإرهاب في قارات الأرض الست.
بالقطع يبقى تردي الأوضاع الأمنية رجع صدى للأوضاع والأحوال المعيشية، ولهذا سيبقى الاستقرار في الجنوب بعيد المنال، في ظل استمرار غياب الأمن، وعدم إعادة الاعتبار للجنوب، الذي لم يشهد اهتماماً أو نهضة عمرانية تنموية ملموسة مستمرة عبر حقب متلاحقة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر داخلياً فهو توحيد الجهود الأمنية من خلال مؤسسة عسكرية واحدة، وخطط مواجهة موحدة، تمكِّنها من القضاء على الحضور الإرهابي على الأراضي الليبية. لكن يبقى هناك دور دولي خارجي لا بد منه، القسم الأول منه يتصل بدول الجوار الكبرى لا سيما مصر والجزائر، وكلتاهما قد عانت من نيران الإرهاب المدمر ولا تزال، ومعروف أنهما تبذلان جهوداً كبيرة معلنة وخفية في مساعدة ليبيا من أجل مواجهة جميع التيارات الأصولية على أراضيها. أما القسم الثاني فيثير كثيراً من التساؤلات وهو المتصل بأوروبا وبالولايات المتحدة الأميركية، اللتين تمنعان وصول الأسلحة المطلوبة للجيش الليبي لمطاردة فلول «داعش»، وهناك كثير جداً من علامات الاستفهام على قيادة «أفريكوم» في مناطق قريبة من ليبيا، ما يطرح تساؤلات عن جدية مطاردة الأميركيين تحديداً للإرهاب في أفريقيا عموماً. وفي كل الأحوال يبقى الرهان على الداخل الليبي، وعلى أن وحدة كلمة الليبيين هي الحل الأفضل، فلا أفضل من ظفرك لحك جلدك.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.