«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

تربة صالحة لاستقطاب المتطرفين من جماعات الإرهاب المختلفة

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
TT

«داعش» يتمدد في جنوب ليبيا

أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)
أعلن {داعش} الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف مبنى وزارة الخارجية الليبية بطرابلس الأسبوع الماضي وأسفر عن مقتل 4 أشخاص على الأقل وإصابة 5 آخرين (أ.ب)

هل أضحى جنوب ليبيا مرتعاً جديداً لتنظيم «داعش» ومنه ينطلق إلى قلب القارة الأفريقية؟ تساؤل ارتفع في الأفق في الأشهر الأخيرة لا سيما في ظل الضربات الإرهابية التي وجهها التنظيم إلى عدد من المدن والقرى في الجنوب الغني بالثورات والفقير بالخطط اللازمة لإدارته، ما يجعل منه حاضنة متميزة للغاية لمثل تلك الجماعات الظلامية.
في أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كثف التنظيم الإرهابي من هجماته على جنوب ليبيا، ذاك الذي يعاني من حالة انفلات أمني غير مسبوق، عطفاً على التهميش السياسي والصراعات القبلية على النفوذ والمصالح، وقد كانت بلدة «تازربو» شمالي الكفرة موضوع الهجوم الأخير الذي أسفر عن قتل وإصابة نحو ثلاثين فرداً، وقد سيطروا على نقطة شرطة البلدة، قبل أن يتمكن السكان من طردهم لاحقاً.
ولعل الهجوم الأخير يطرح عدداً من الأسئلة المهمة عن الجنوب الليبي وما يجري فيه، وهل الأمر مقصور على ليبيا فقط أم أن هناك خططاً إرهابية أوسع وأعمق تتصل باختراق «داعش» للقارة الأفريقية، وبناء هياكل تنظيمية له على الأرض في عدد من الدول المعروفة بضعف بنيتها الأمنية والاجتماعية؟
في بدايات العام الماضي كان الحديث عن انتشار الدواعش في شمال ليبيا، لا سيما في مدينة سرت الليبية، غير أنه مع الانكسار الذي حدث لهم هناك والقضاء على عناصرهم عام 2016 بدا كأن «داعش» يبحث عن أماكن أخرى في ليبيا تتوافر فيها عوامل البقاء، وأهمها أن تكون مناطق ذات كثافة سكانية ضعيفة، وأن تكون طرقها وعرة مما يصعب الوصول إليها، عطفاً على الانفلات الأمني فيها وضعف سيطرة الدولة عليها.
في هذا الإطار يمكن القول إن الجنوب الليبي هو أفضل الأماكن المتاحة للجماعات المتشددة بسبب الوضع الأمني الهش، وقربه من حدود الدول الأخرى، ما يسمح له بالمناورة والتحرك ووصول الإمدادات البرية والتمويل.
يشكل الجنوب الليبي جزءاً أساسياً في مسيرة «الدواعش»، خصوصاً أن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس «ولاية فزان»، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يُرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي للتوطين جغرافياً، وإن سمح له باختبار عناصره.
المؤكد أنه ليس «داعش» فقط الذي بدأ يحط رحاله في الجنوب الليبي، فهناك عصابات أجنبية عديدة تقوم بعمليات الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة، التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.
يستفيد «الدواعش» من حالة الانقسام السياسي القائمة في الداخل الليبي، وبالتبعية اختلال الأوضاع الأمنية، ولهذا يقيمون معسكرات لتدريب مقاتليهم في جبال «الهروج» البعيدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رقعة الجنوب واسعة والاختلافات فيه متكاثرة، لذا فإن حجم التحديات أكبر من قدرة الجيش الذي يعاني من النقص في الإمكانيات والتسليح. في هذا السياق يمكننا أن نشير إلى ما صرح به المهدي بركة الضابط بقوات الجيش ضمن كتيبة «خالد بن الوليد»، من أن حكومة الوفاق قد «تخلت عن الجنوب، ولا تزال تراوغ في دعم الجيش بسبب خلافات سياسية، بينما يعاني الجنوب الإهمال الكامل».
كيف يعمل «داعش» في جنوب ليبيا؟ بلا شك يعتمد مقاتلو التنظيم على استراتيجيات جديدة أبرزها التخفي والسرية، وتنفيذ عمليات مفاجئة، الأمر الذي يعتبره البعض دليلاً على ضعفه، غير أن السؤال المستقبلي المثير: ماذا عن جنوب ليبيا وبقية العمق الأفريقي، ودول الجوار التي يُرشَّح مدها بإرهابيين يدعمون خطط الدواعش لا سيما من ناحيتي تشاد والسودان؟

جنوب ليبيا مناخ جاذب
لا يمكن تقديم جواب عن السؤال المتقدم من دون التطلع إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت من جنوب ليبيا تربة صالحة لاستقطاب الإرهابيين، دواعش كانوا أو غيرهم من جماعات الإرهاب المنتشرة هناك.
لم ينل الجنوب الليبي أهمية كافية من قبل، حتى في أيام القذافي، ومع الأخذ في الاعتبار أن إقليم فزان في الجنوب، وهو أحد الأقاليم الثلاثة الليبية الكبرى، والذي تبلغ مساحته نحو 550 ألف كم مربع، لا يقطنه سوى أقل من نصف مليون نسمة، على الرغم من أنه يضم معظم حقول النفط في ليبيا، وتنتج فزان قرابة نصف مليون برميل يومياً، كما يزود النهر الصناعي الذي ينبع من الجنوب الليبي مدن الساحل بقرابة نصف مليون برميل ماء يومياً... فإن التهميش والتجاهل من قبل السلطات الليبية لمطالب أهل الجنوب، سمح للميليشيات بملء الفراغ، وممارسة أنشطة غير شرعية مثل الاتجار بالبشر، وتهريبهم من أقصى الجنوب الليبي إلى سواحل أوروبا، عبر مدن شمالي ليبيا. والثابت أن الإهمال الحكومي الجسيم لجنوب ليبيا لا يتصل فقط بالأوضاع الأمنية، ولكنه ينسحب كذلك على الأوضاع الاقتصادية، وهي بلا شك مدخل جيد للإرهابيين الذين يجدون قنوات تمويل واضحة في الحل والترحال لا سيما من قبل قطر وتركيا بنوع خاص.
وتبدو العلاقة الليبية مع القارة الأفريقية من اتجاهين تستورد منها وتصدر إليها... كيف ذلك؟ قبل فترة نقلت صحيفة «التليغراف» البريطانية عن مصادر استخبارية أن «داعش» يسعى لتأسيس ما يطلق عليه «جيش الفقراء»، ويتكون هذا الجيش بالدرجة الأولى من مقاتلين يتحدرون من دول فقيرة قريبة من ليبيا مثل تشاد ومالي والسودان ونيجيريا، وأنه بحكم وقوع ليبيا على طريق المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بـ«الفردوس الأوروبي»، يستغل فرع «داعش» ظروف فقراء قَدِموا إلى هذا البلد لعبور البحر، ويعرض عليهم مئات الدولارات للقتال في صفوفه... هل من إحصائيات رسمية حول الأعداد التي استقطبها الدواعش في جنوب ليبيا؟
ما تقدم هو الاتجاه الأول، أما الثاني فيتمثل في كون جنوب ليبيا هو المعبر الرئيسي إلى العمق الأفريقي، إذ تشير قراءات عديدة قدمتها الاستخبارات الأميركية إلى صناع القرار السياسي، إلى وجود نيات معمقة من قبل القائمين على «داعش» لاكتشاف حواضن بشرية جديدة تفيد على صعيدين، الأول كمورد للعناصر الإنسانية والمقاتلين الجدد، وهناك في عمق أفريقيا عشرات الآلاف الذين يمكن أن يضحوا رافداً خطيراً لـ«داعش»، والصعيد الثاني التمتع بملاجئ آمنة جغرافياً، سيما أن تضاريس العديد من دول أفريقيا الصحراوية تعد البيئة الأكثر ملاءمة لانطلاقة جديدة للدواعش، بعد أن تقطعت بهم السبل في العراق وسوريا، ووجدوا من الدعم الاستخباراتي القطري والتركي بنوع خاص، ما يسّر لهم الانتقال إلى ليبيا ومنها إلى عمق أعماق أفريقيا.
ولعل ما يساعد «الدواعش» وبقية الجماعات المتطرفة في تحقيق أهدافهم هناك.

الطريق إلى صومال جديدة
قبل بضعة أيام تساءل الباحث الإيطالي أرتورو فارفيلي رئيس مركز أفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الإيطالي للدراسات الدولية، عن جنوب ليبيا بنوع خاص، وهل هي منطقة في طريقها للتحول إلى صومال ثانية؟
من المعروف للجميع أن الصومال قد عاشت ولا تزال عقوداً طويلة من الانفلات الأمني والسيولة غير المسبوقة، الأمر الذي جعلها مرتعاً جديداً لحركات أصولية من نوعية «حركة الشباب» أو «حزب الشباب»، وهي حركة قتالية تتبع فكرياً تنظيم «القاعدة»، لكنها أيضاً على صلة بدرجة أو بأخرى بـ«داعش»، سيما وأن الانقسامات في تلك الجماعات سهلة الحدوث في أي وقت. يقول فارفيلي إن الدواعش وبعد الغارات الأميركية في 2016 فرّوا إلى الجنوب، وإن «داعش» قد دخل مرحلة جديدة في ليبيا، حيث انتقل من التوسع الميداني إلى حرب العصابات، مشيراً إلى أن تنظيم «داعش» بصدد إعادة تنظيم نفسه، بقدرته على الضرب في أي مكان من البلاد، بما في ذلك العاصمة طرابلس.
ومع الإمكانية الكبرى للتواصل بين المتطرفين في جنوب ليبيا ونظرائهم في الصومال وغيرها من دول أفريقيا المعروفة بوجود جماعات متشددة على أراضيها، فإن ليبيا مهددة بشكل كبير بأن تتحول إلى صومال ثانية، حسب تعبيره. منوهاً إلى أنه من دون تقديم دعم للمجموعات المحلية التي يمكنها فعلياً مواجهة «داعش»، فإنه لن يكون للضربات الموجّهة ضد قيادات التنظيم أي تأثير على المدى البعيد.
وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن الجنوب الليبي وفي ظل صراع القوى السياسية الليبية في الشمال، قد بات منطقة توسع طبيعية باتجاه أفريقيا جنوب الصحراء لتنظيم «داعش»، وهو في طريقه إلى تحويله كذلك إلى منطقة انكفاء في حال حصول تدخل دولي مكثف ضد حضوره في الشمال وعلى الساحل، والموقع والموضع يمكّنان تنظيم «داعش» من الاقتراب من شبكات أصولية وإرهابية في السودان، وتشاد، والنيجر، ومصر، بل وإقامة علاقة تنافسية مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، من دون أن نهمل القرب الجغرافي لجنوب ليبيا من منطقة دارفور، التي تمثل برميل البارود، والذي تخلت عنه الأسرة الدولية، ولهذا يبقى من الطبيعي أن تملأه قوى أخرى، حتى وإن كانت إرهابية.
ولم يكن الحديث المتقدم عن «الدواعش» في جنوب ليبيا تنظيراً فكرياً، بل بات حقيقة واقعة أكدها الاعتداء الذي حصل في بلدة «الفقهاء» التابعة لبلدية الجفرة في النصف الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول)، حيث أدى إلى مقتل أربعة مدنيين، واختطاف عشرة آخرين من سكان البلدة، بالإضافة إلى شرطيين، ما يعني أن «داعش» قد نجح ولو بشكل جزئي في إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه في الجنوب الليبي.
إلى ذلك تؤكد مصادر في الجيش والاستخبارات الليبية أن عناصر «داعش» قد تمكنت من التمركز في مناطق نائية في صحراء البلاد، ما يشير إلى إنهاء الخلافات التي كانت تدب بين قادة التنظيم، وأكدت المصادر عينها أن تمركزات التنظيم بدت أكثر قوة في مناطق محيطة بجبال الهروج والسوداء، جنوب ووسط جنوب البلاد، وهي مناطق محصنة طبيعياً وتتصل بالحدود الجنوبية المفتوحة، بالإضافة إلى ارتباطها بشبكة صحراوية تصل إلى أودية جنوب شرقي بني وليد جنوب شرقي طرابلس.
والتساؤل يفرض نفسه: هل تلعب العناصر المتطرفة في تشاد دوراً بعينه في أزمة جنوب ليبيا؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، إذ تتواصل تحركات العناصر الأجنبية في الجنوب الليبي، وعلى رأسها قوات المعارضة التشادية، التي تتخذ من أراضي الجنوب مسرحاً لتنفيذ أنشطتها داخل ليبيا وخارجها، وتتهم ليبيا العناصر التشادية بالمشاركة في عمليات خطف وابتزاز المواطنين والأجانب، وبتهريب الأسلحة إلى العناصر المقاتلة وفي المقدمة منها «داعش» ومقاتلوها، والذين تتعدد أسماء جماعاتهم، وبعضهم لم يكن من الدواعش في الأصل وإن أعلنوا لاحقاً التبعية الآيديولوجية مثل جماعة «مجلس شورى شباب الإسلام» الذي يعد من أبرز التنظيمات التي أعلنت انتماءها لتنظيم «داعش»، عبر إنشاء محكمة إسلامية وشرطة إسلامية، والتي قادت عمليات إعدام وجلد علنية، كما واصلت ارتكاب جرائم قتل جرت غالبيتها في بنغاري ودرنة.
وتبقى الإشارة إلى أن الجنوب الليبي يضحى نقطة ارتكاز مالية لـ«داعش» الذي فقد غالبية مصادره في العراق وسوريا، وذلك من خلال تهريب البشر، عبر الحدود، وكذا تهريب الأسلحة والسلع والبضائع، وأنواع الدخان المختلفة، وحتى المشتقات الطبية والمخدرات، لكي يتمكن من الإنفاق على نشاطه الإرهابي، وقطع الطريق على مناصري «القاعدة» من جهة ثانية.
الطريق إلى المواجهة
ويبقى التساؤل مطروحاً: كيف السبيل إلى مواجهة خلايا «داعش» في جنوب ليبيا، سيما وأن إمكانيات الجيش الليبي ضعيفة، وهناك حصار مضروب عليه من قوى خارجية، تمنعه من استيراد الأسلحة اللازمة، رغم تشدق تلك الأبواق الأممية بحتمية محاربة الإرهاب، في حين يقوم رجالاته بمقاتلة الإرهاب بالنيابة عن دول الجوار والمجتمع الدولي كله، الذي ينظر إليه ولا يدعمه، وتالياً يتهمه بالقصور؟
المؤكد أن الجواب يمضي في اتجاهين متشابكين، فهناك دور واجب على الليبيين أنفسهم في الداخل، وهناك كذلك واجب ملقًى على كاهل المجتمع الدولي انطلاقاً من أن مجابهة الإرهاب ليست شأناً مناطقياً، بل مهمة أممية، وبخاصة أن الجميع بات يكتوي بنيران الإرهاب في قارات الأرض الست.
بالقطع يبقى تردي الأوضاع الأمنية رجع صدى للأوضاع والأحوال المعيشية، ولهذا سيبقى الاستقرار في الجنوب بعيد المنال، في ظل استمرار غياب الأمن، وعدم إعادة الاعتبار للجنوب، الذي لم يشهد اهتماماً أو نهضة عمرانية تنموية ملموسة مستمرة عبر حقب متلاحقة.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر داخلياً فهو توحيد الجهود الأمنية من خلال مؤسسة عسكرية واحدة، وخطط مواجهة موحدة، تمكِّنها من القضاء على الحضور الإرهابي على الأراضي الليبية. لكن يبقى هناك دور دولي خارجي لا بد منه، القسم الأول منه يتصل بدول الجوار الكبرى لا سيما مصر والجزائر، وكلتاهما قد عانت من نيران الإرهاب المدمر ولا تزال، ومعروف أنهما تبذلان جهوداً كبيرة معلنة وخفية في مساعدة ليبيا من أجل مواجهة جميع التيارات الأصولية على أراضيها. أما القسم الثاني فيثير كثيراً من التساؤلات وهو المتصل بأوروبا وبالولايات المتحدة الأميركية، اللتين تمنعان وصول الأسلحة المطلوبة للجيش الليبي لمطاردة فلول «داعش»، وهناك كثير جداً من علامات الاستفهام على قيادة «أفريكوم» في مناطق قريبة من ليبيا، ما يطرح تساؤلات عن جدية مطاردة الأميركيين تحديداً للإرهاب في أفريقيا عموماً. وفي كل الأحوال يبقى الرهان على الداخل الليبي، وعلى أن وحدة كلمة الليبيين هي الحل الأفضل، فلا أفضل من ظفرك لحك جلدك.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.