فلوبير... العُصاب الجنوني والإبداع العبقري

أولا: من هو فلوبير؟ من هو هذا الشخص الذي غير مجرى مسيرة الرواية الفرنسية فانتقل بها من الرومانطيقية إلى الواقعية القحة باعتراف معظم النقاد؟ وهو على أي حال أكبر روائي فرنسي في القرن التاسع عشر بعد بلزاك إذا ما استثنينا ستندال بالطبع. هؤلاء هم الثلاثة الكبار: ستندال، بلزاك، فلوبير. ولكن هناك شخصيات أخرى حفل بها ذلك القرن العظيم، ليس أقلها إميل زولا وغي دوموباسان وآخرون كثيرون. من المعلوم أن فلوبير كان يردد دائما هذه العبارة: لا أحب أن يهتم القارئ بشخصي المتواضع الذي لا أهمية له. الشيء المهم فقط هو أعمالي الأدبية وكفى. هذا ما قاله في رسالة إلى الكاتب الروسي الكبير تورغنييف. والواقع أن فلوبير كان يعتقد أن على الكاتب أن يختفي كليا وراء مؤلفاته. فهو عابر وزائل كشخص ولكن أعماله هي وحدها التي تبقى بعد رحيله. وهذا يعني أن فلوبير كان يقسم نفسه إلى شخصين: الشخص الواقعي الحقيقي كما هو معروف في الحياة اليومية من قبل الناس وأقرب المقربين منه، والشخص الحميمي الداخلي الذي لا يتوهج إلا عندما يختلي بنفسه في غرفته الصغيرة لمصارعة الإبداع الخلاق.
هل يعني ذلك أنه كان منفصم الشخصية؟ حتما، ككل أديب كبير. فحقيقة الأديب لا تتجلى فعلا إلا في إنتاجه: أي عندما ينقطع عن الناس ويتفرغ للإبداع. عندئذ يصبح شخصا آخر لا علاقة له بالشخص الواقعي المحسوس الذي نعرفه. ولكن هل يمكن الفصل الكامل بين الشخص الذي يعيش والشخص الذي يكتب ويبدع؟ بالطبع لا. في الواقع أن المسألة أكثر تعقيدا مما نظن. على أي حال فالشيء المؤكد هو أن فلوبير كشخص مات ولكن «مدام بوفاري» لا تموت. فلا تزال تقرأ حتى اليوم بل وتدرس في أرقى الجامعات العالمية. بل سنذهب إلى أبعد من ذلك ونقول: ألسنا نقرأ الإلياذة والأوديسة حتى الآن على الرغم أن هوميروس قد مات قبل نحو ثلاثة آلاف سنة؟ ألا تسحرنا مسرحيات شكسبير حتى بعد مرور أربعة قرون على وفاته؟ أليست خالدة أبد الدهر؟ من يستطيع أن يقتل شكسبير؟ والكوميديا الإلهية لدانتي أليست مقروءة الآن حتى بعد مرور سبعة قرون على كتابتها أو أكثر؟ وماذا عن شعر المتنبي؟ أو رسالة الغفران للمعري؟ الخ...الروائع الأدبية لا تموت...
لكن لنعد إلى نقطة البداية ولنطرح هذا السؤال: من هو صاحب مدام بوفاري؟ لقد ولد غوستاف فلوبير في مدينة «روان» الفرنسية عام 1821، أي في نفس العام الذي ولد فيه بودلير ومات فيه نابليون! وهو نفس العام الذي نشر فيه هيغل كتابه الشهير: قواعد فلسفة القانون. وقد أسس فيه للقانون الوضعي الحديث قاطعا بذلك مع القانون اللاهوتي أو الكنسي القديم. وقد زرت المدينة بعد وصولي إلى فرنسا بفترة قصيرة. ويقع بيت فلوبير في ضواحي المدينة، ومعلوم أنه تحول إلى متحف الآن. وهو مطل على نهر السين من فوق هضبة ومحاط بالطبيعة والأشجار والغابات. ومن نافذته كان فلوبير يستمتع برؤية القوارب الشراعية والسفن وهي تتهادى تحت البيت على سطح الماء. منظر ولا أروع! لكأني أراه الآن بعد كل تلك السنوات.
الشيء الذي لفت انتباهي في بيت فلوبير هو منظر مخطوطاته المعروضة من وراء الزجاج. يا إلهي كم هي مليئة بالتشطيبات والتصحيحات التي تجعل الصفحة عصية على الفهم تقريبا! ومعلوم أنه كان من عبيد الكتابة أو من «عبيد الشعر» كما تقول العرب. وكان ينتظر أحيانا عدة أيام لكي يصل إلى العبارة أو حتى الكلمة المناسبة وهو يئن ويتوجع. وعندما يصل إليها كان يصرخ بأعلى صوته: وجدتها! وجدتها! ولهذا السبب فلم يكتب كثيرا. في عام 1869 نشر فلوبير روايته الكبرى: التربية العاطفية. وهي رواية تصور حياة فرنسا السياسية والاجتماعية والأخلاقية في منتصف القرن التاسع عشر وقبل ثورة 1948 وما بعدها. إنها تصور الحياة الفرنسية من خلال شخصية البطل فريديريك مورو الذي يشعر بأنه محبط وعاجز عن فعل أي شيء. إنه إنسان مليء بالتناقضات والترددات أمام المصير والمجهول. ولذلك فإنه يترك الأحداث تتقاذفه من كل جانب وتفعل به ما تشاء. أنه كالقارب السكران الذي تحدث عنه رامبو في قصيدته العصماء... وهو الذي يجسد شخصية فلوبير كل التجسيد وليس مدام بوفاري على عكس ما يظن الناس وعلى عكس ما قال هو شخصيا: مدام بوفاري هي أنا! ولكن مدام بوفاري امرأة وليست رجلا لكي تمثله. كان ينبغي أن يقول: فريدريك مورو هو أنا! فهي روايته الوحيدة التي تشبه السيرة الذاتية المقنعة. والواقع أنه أمضى حياته كلها تقريبا في كتابتها. هل نعلم بأن تدبيجها استغرق منه ثلاثين سنة متواصلة مع بعض الانقطاعات؟ لكي نفهم السبب ينبغي العلم بأن فلوبير وقع وهو في الخامسة عشرة في حب امرأة بورجوازية متزوجة تجاوزت الثلاثين. وكان ذلك على شواطئ مدينة دوفيل أو تروفيل الساحرة. وهي أكبر قصة حب في حياته رغم أنه لم يلمسها. إنه حب أفلاطوني عذري على طريقة مجنون ليلى أو جميل بثينة أو ذي الرمة ومعبودته مي. وقد أسقط كل عواطفه المتأججة على بطل الرواية فريديرك مورو وجعله يقع أيضا في حب امرأة بورجوازية متزوجة بتاجر غني. بمعنى آخر فقد صفى حساباته على ظهر هذا الشخص، بطل روايته. والأدب كما تعلمون هو عبارة عن تصفية حسابات تاريخية مع نفسك أو مع العالم. في عام 1838 دبج فلوبير أول نص له بعنوان: مذكرات مجنون. وقد صفى فيها حساباته مع حبه المغدور أو المستحيل لتلك المرأة المتزوجة التي رآها على الشاطئ يوما ما وأصبحت حبه الأول والأخير إلى الأبد... وهي تحتوي على بذور روايته الكبرى التي لن تصدر إلا بعد ثلاثين سنة. وقد كتبها ثلاث أو أربع مرات قبل أن تنضج أخيرا ويرضى عنها. هذا هو الأدب: إنه تعب وجهد وصبر ومشقة. وفي النهاية قد يعطيك شيئا أو لا يعطيك. الأمور ليست مضمونة سلفا إلا للموهوبين العباقرة من أمثال فلوبير. ولكن حتى هو، فإنه لم يكن يخرج من كتابة روايته إلا منهكا، مستنزفا، مريضا! هل يعني ذلك أن النجاح في الأدب ناتج عن 90 في المائة جهد وتعب، و10 في المائة فقط موهبة وعبقرية؟
لقد عكست كتابات فلوبير روح العصر بكل قلقه وآماله ومخاوفه. ومن يريد أن يفهم الحياة الفرنسية في القرن التاسع عشر فما عليه إلا أن يعود إلى رواياته. وبهذا الصدد يرى النقاد أن رواية «التربية العاطفية» أهم من رواية «مدام بوفاري» رغم أن الشهرة العارمة كانت لهذه الأخيرة. ويرى عالم الاجتماع الشهير بيير بورديو أن رواية فلوبير تقدم لنا مادة ثمينة للتحليل السوسيولوجي أو الاجتماعي لتلك الفترة من تاريخ فرنسا. لكن لنعد إلى سيرته الذاتية. في نهايات عام 1849، أي وهو ما دون الثلاثين، قام فلوبير بأكبر سفرة له إلى الشرق لكي يتعرف عليه ويستلهمه في أعماله الأدبية المقبلة. وكان برفقة صديقه مكسيم دوكامب. وهناك تعرف على القاهرة والحياة المصرية في عهد المماليك. ثم غادر مصر في شهر يوليو (تموز) من عام 1850 إلى فلسطين أولا قبل أن ينتقل إلى سوريا، فلبنان، فتركيا، ثم أخيرا أثينا عاصمة اليونان. وهكذا دامت رحلته سنة كاملة أو أكثر قليلا. وبعدئذ عاد إلى فرنسا من اليونان عبر إيطاليا. وفور عودته تقريبا ابتدأ كتابة روايته الخالدة: مدام بوفاري. وقد أنهاها عام1857: أي إنها استغرقت منه سبع سنوات بالتمام والكمال.
وهذه هي الكتابة الحقيقية: أي الكتابة التي تستغرق وقتها الكافي ولا تستعجل الأمور أو تحرق الطبخة قبل أن تنضج. ولهذا السبب فإن فلوبير لم يكتب إلا خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها. ولكن كل رواية كانت تشكل حدثا في تاريخ الأدب الفرنسي، كانت تشكل عالما بأسره. ولا يزال النقاد منشغلين بدراستها وتحليلها حتى الآن. وبالتالي فالعبرة ليست بالكمّية وإنما بالنوعية. وما ينطبق على الرواية ينطبق على الشعر أيضا. ولكن هناك استثناء واحدا هو: بلزاك. فقد كتب أكثر من ثمانين رواية معظمها من الروائع الأدبية. ولكن بلزاك هو بلزاك ولا يتكرر كل قرن ولا حتى كل عشرة قرون. بلزاك هو «وحش» الرواية الفرنسية، وربما العالمية!
أخيرا دعونا نقُل كلمة عن رأي جان بول سارتر بفلوبير. فسارتر لم يكن فيلسوفا فقط وإنما كان أيضا ناقدا أدبيا من أعلى طراز. والدليل على ذلك كتابه عن بودلير الصادر عام 1947، وكتابه ما هو الأدب؟ الصادر عام 1948، ثم كتابه الضخم عن جان جنيه: قديس وشهيد، الصادر عام 1952، ولكن كتابه عن فلوبير تجاوز كل ما سبق من حيث الأهمية والضخامة. فقد صدر في ثلاثة أجزاء تقارب الثلاثة آلاف صفحة! وأكل من عمر سارتر عشر سنوات بالتمام والكمال، ومع ذلك فلم يستطع إكماله... وقد انطلق في كتابه من الفضيحة المتمثلة بالسؤال التالي: كيف استطاع شخص أبله أن يتحول إلى عبقري؟ ففي رأيه أن فلوبير كان أغبى شخص في عائلته في البداية ولكن العُصاب النفسي الذي أصيب به هو الذي جعل منه عبقريا. ولذلك يدعى الكتاب: «أبله العائلة». وهذا يعني أن سارتر اتبع في تحليله نظريات علم النفس ولكن مطعمة بفلسفته الشخصية الوجودية. ومعلوم أنه دشن تيارا في النقد الأدبي الفرنسي يدعى بالتحليل النفسي الوجودي. وطبق هذه المنهجية على فلوبير لكي يكتشف سر عبقريته الأدبية أو كيف تحول من شخص عادي إلى شخص عبقري. وهذا يعني أنه لا إبداع من دون عُصاب نفسي. وكلما كان العصاب قويا كان الإبداع جارفا. ولا ننسى النواقص والعيوب: المعري كان أعمى وكذلك طه حسين. وبيتهوفين كان أطرش... كل ذي عاهة جبار! أما الأشخاص الطبيعيون السعداء المتصالحون مع أنفسهم ومجتمعهم وحياتهم فليسوا بحاجة لأن يصبحوا مبدعين أو عباقرة. وبالتالي فشكرا للعقد الشخصية، شكرا للعذابات النفسية، شكرا للدهاليز الداخلية! فلولاها لحرمنا من شخصيات كبرى ليس أقلها: بودلير، ودوستيوفسكي، ونيتشه، وهولدرلين، وجيرار دونيرفال، وعشرات الآخرين.