الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

بعضهم يتعرض للاغتصاب والتعذيب أو يتم دمجه في الجماعات الإرهابية والإجرامية

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
TT

الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)

منذ قرابة عامين، هربت الطفلة الأفريقية فاطمة أبو رحماني من قبضة عصابة لتهريب البشر، بمساعدة مواطن ليبي، واستقر بها المقام في مدينة سبها (جنوب) ولم تغادرها حتى الآن. هذه الفتاة التي تستهل عامها الثالث عشر، عُثر عليها ليلاً في صحراء فزان، بعدما قفزت من حافلة كانت تُقلّ مهاجرين غير شرعيين من دول جوار عدة، وهي الآن تعمل لدى عائلة ليبية، مقابل الطعام والسكن، وتسمح لها ببيع المناديل الورقية قرب الأسواق التجارية في آخر اليوم. بخوف شديد، سردت فاطمة أبو رحماني جزءاً من مأساتها، فقالت: «أرسلني والداي من الصومال مع رفيقات ونساء ورجال كثيرين للسفر إلى إيطاليا. لكن السماسرة الذين كانوا على حدود تشاد أخذوا أموالنا، وسلمونا إلى عصابة محلية، عنّفتنا ومنعت عنا الطعام والمياه».
لكن فاطمة، وعلى صغر سنها، لا تعد حالة معزولة. ففي داخل الأرضي الليبية يوجد عشرات الأطفال أصغر منها سناً، بعضهم دفعت بهم أُسرهم الفقيرة للمصير نفسه وبالطريقة نفسها، وبعضهم الآخر فقدوا آباءهم غرقاً في مياه البحر المتوسط، أثناء محاولة فاشلة للهجرة، وهو ما خلّف معضلة إضافية تتنامى داخل المجتمع الليبي، مُلخصها أن جيلاً من الأطفال الذين تقطّعت بهم السبل، أصبح يعيش في هذا البلد المليء بالفوضى دون آباء أو معيل. منهم من يعيش على «حلم مؤجل»، ويعمل في كل شيء لتوفير ثمن «رحلة البحر»، بينما غالبيتهم يفضلون البقاء في ليبيا على العودة إلى بلادهم، وكلهم يعيشون بعيداً عن أعين أجهزة الشرطة، وخارج مراكز إيواء المهاجرين الحكومية.
«الشرق الأوسط» استقصت هذه الظاهرة في أنحاء البلاد، وتتبعت مسارات تحركات هؤلاء الأطفال، الذين سقطوا من ذاكرة المنظمات والهيئات الدولية، لمعرفة من أين جاؤوا؟ وأين يتجمعون؟ وهل يمكن أن يشكلوا خطراً على البلد الذي تضربه الانقسامات السياسية منذ إسقاط نظام الرئيس معمر القذافي قبل نحو ثماني سنوات؟... وخرجت بالتحقيق التالي...
عندما بحثنا عن رفاق فاطمة، الفارين من بؤس دولهم الأفريقية الفقيرة، إلى بلد يعاني فراغاً أمنياً، اقتفينا أثرهم في رحلتهم الممتدة من الحدود الأفريقية مع ليبيا إلى وسط وغرب البلاد، فتبين أن نقطة الانطلاق فيها تبدأ عادة من مدن الجنوب، مثل سبها وبراك الشاطئ، ثم الكفرة، التي تسيطر عليها عصابات الاتجار بالبشر، ومرتزقة أفارقة، وقبائل يتاجر بعضها في تسهيل مهمة من يدفع «مقابل المرور»، وصولاً إلى بني وليد كنقطة تمركز، قبل الانطلاق باتجاه القرة بولي ثم إلى الخمس، ومنها نحو صبراتة أو زوارة.
ورغم أن الأجهزة الأمنية في ليبيا تُودع من حين إلى آخر، مئات المهاجرين الذين ينسلون عبر الحدود أو الذين تنقذهم قوات خفر السواحل، قيد الاحتجاز أو في مراكز للإيواء تشرف عليها وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني. لكن أعداداً كثيرة من القصّر، بينهم نساء وأطفال غير مصحوبين بذويهم، يتسربون بطرق ملتوية إلى المدن والبلدات الليبية؛ وهو ما كشفت عنه أرقام شبه رسمية؛ إذ يقدر عدد الذين يقيمون داخل تلك المراكز بـ34 ألف مهاجر فقط، مقابل أكثر من 740 ألفاً يمرحون في عموم البلاد، وفق ما أعلن عنه المبعوث الأممي لدى ليبيا الدكتور غسان سلامة في حوار مع قناة «(فرانس 24» نهاية الشهر الماضي.

سبها قبلة القصر الوافدين
في متاهة التضاريس الصحراوية الغالبة على البلد الغني بالنفط، والذي تربو مساحته على 1.7 مليون كيلومتر مربع، تتربع مدينة سبها، (عاصمة الجنوب) بمناطقها الخمسة عشر، وفيها يتوه آلاف الأطفال الوافدين من أفريقيا، بين أهلها المُنهكين في أزماتهم المعيشية، فيندمجون في أوساطهم في عملية احتواء طابعها العطف والشفقة بحجة «أنهم أطفال مساكين بلا أُسر، تم الدفع بهم إلى بلادنا، عبر حدودنا المفتوحة للهرب إلى أوروبا... مثل الطفلة فاطمة التي كُتب لها عُمر جديد، بعدما عثرنا عليها بين الحياة والموت في صحراء فزان، فاقدة للنطق»، كما قال زنّاري الضوي، الذي يمتلك مزرعة من النخيل، لـ«الشرق الأوسط»، وتابع موضحاً: «كدنا أن ندهسها، قبل أن تبرق عيناها أمام ضوء السيارة كقط بري... وقد حكت لنا الطفلة بفزع شديد، وعلى أيام متباعدة، تفاصيل ما وقع لها ليلة عثورنا عليها في ظلمة الصحراء. إنها لا تزال تعاني حالة نفسية صعبة، توقظها ليلاً وهي تصرخ؛ لذا أتركها على راحتها، وأساعدها على إرسال أموال لأسرتها الفقيرة في الصومال. فهي تدّخر من عملها في منزلي، وبيع المناديل».

مأساة الصومالية بائعة المناديل
فاطمة التي تخطو نحو المجهول، منذ أن ألقى بها والدها على ظهر حافلة، تحت أقدام عشرات الرجال والنساء، أصبحت تعرف شوارع سبها جيداً وتحفظ أسماءها، كما تحفظ أسماء مدينة كانيبو الصومالية، التي أتت منها قبل عامين. وهي تواظب اليوم على الوقوف في قلب إحدى الأسواق الشعبية المزدحمة مع بنات وصبيان آخرين من دول أفريقية مختلفة، يبيعون المناديل الورقية، ويستجدون المارة للحصول على المال.
كانت فترة العامين، التي عاشتهما الصغيرة فاطمة في ليبيا، كافية لتتعلم القليل من مفردات اللغة العربية، التي ترددها بركاكة مصحوبة بلهجة ليبية. تقول فاطمة: «جئت مع نحو 50 رجلاً وامرأة، وأطفال كثيرين في سيارة ممتلئة بالبشر، انطلقت بنا لأيام في الصحراء، وعندما كانت تتوقف لم يكن يسمحون لنا بالنزول منها، فكنا نقضي حاجتنا الطبيعية داخل السيارة... ولطالما بكينا طويلاً وصرخنا من الجوع والعطش».
وتضيف فاطمة لـ«الشرق الأوسط»: «عندما شعر الرجال باقترابنا من المدن الليبية، قفز بعضهم من أعلى السيارة في ظلام الصحراء، هرباً من العصابة التي تسلمتنا من سيارة أخرى على حدود تشاد، فسقطت من شدة التدافع».
وبأسى شديد، ومرارة بالغة تابعت فاطمة سرد مأساتها بعد أن أدركت أن حلم معانقة الأراضي الإيطالية أصبح صعب المنال: «والدي قال لي إنهم ذاهبون إلى إيطاليا، وعليك أن تتبعيهم. لكن ذلك لم يحدث، وأنا الآن أساعد عائلة عمي زنّاري، وأبيع المناديل من العصر إلى آخر اليوم مع أطفال من دول أفريقية في السوق، وأعود لأنام في المنزل. أبي يُلح عليّ بالاتجاه نحو البحر، لكنني لن أغادر سبها، فكثير من الأطفال، الذين كنت أقابلهم كل يوم اختفوا. كانوا أكثر من 20 بنتاً وسبعة أولاد، غالبيتهم من إريتريا وتشاد وساحل العاج... لا أعلم أين ذهبوا...هل تعرف أين هم الآن؟».
تساءلت فاطمة بحزن شديد، قبل أن تستكمل سرد حكايتها المؤلمة «كان بين الأطفال المختفين ثلاث بنات مصابات بالسل (الدرن) والإيدز»، وهي الأمراض التي كشفت عنها الأجهزة الطبية في البلاد لاحقاً، بعد توقيف عدد من المهاجرين، وإخضاعهم للفحص الطبي، قبل ترحيلهم إلى دولهم.
وتبعاً للمعطيات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، فإن الأطفال المهاجرين يفضلون الاندماج في مدن الجنوب، مستغلين في ذلك التقارب في لون البشرة السمراء مع مواطنيها، وهرباً من التمييز ضد أصحاب هذه البشرة، حتى باتت هذه الظاهرة في تنام ملحوظ. وفي هذا السياق، يرى إسماعيل بازنكة، الناشط المدني الذي ينتمي إلى قبلية التبو، أنه «رغم عدم وجود حصر لعدد هؤلاء الأطفال في البلاد، فإن أعدادهم كبيرة، وهم يتواجدون في المدن والمناطق المعروفة بالتهريب».
وأوضح بازنكة، أن «غالبية الأطفال الأفارقة، المتواجدين في الجنوب تركوا عائلاتهم وأتوا للعمل في ليبيا رفقة مهاجرين كبار السن، رغم حداثة أعمارهم»، مؤكداً أن «نسبة كبيرة منهم صغار السن وضعاف البنية، ولا يملكون المهارات اللازمة لأي عمل».
وتابع بازنكة، الذي اطّلع بحكم نشاطه التطوعي على نماذج عدة لهؤلاء الأطفال القصر: «هم يشتغلون لدى العمالة الوافدة في أماكن إقامتهم، ويساعدونهم على الطهو، وعندما يضمنون ثمن إيجار قارب ينتقلون إلى الساحل للتوجه نحو أوروبا».

في قبضة عصابات الجريمة
تعاني منطقة الجنوب، التي يبلغ امتدادها نحو 600 كيلومتر، من التهريب بكل أنواعه، وبخاصة المخدرات والاتجار بالبشر. ومع تردي الأوضاع المعيشية بعد مقتل القذافي، وسقوط سلطة الدولة، باتت جميع القبائل التي تقع على خط سير عمليات تهريب المهاجرين «تسترزق من الهجرة»، واتجه شبانها لمساعدة تلك العصابات في نقل المهاجرين من الجنوب، إلى أقرب نقطة على الساحل. وقد تسبب الفساد الإداري في إغلاق بعض مراكز الإيواء في الجنوب، التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني، ولم يتبق غير مركزي إيواء الكفرة، وسبها طريق المطار؛ الأمر الذي ساهم - برأي البعض - في تسلل مئات الأطفال المهاجرين إلى المدن والبلدات، وبخاصة في ظل ضعف رقابة الأجهزة الأمنية المنقسمة بين حكومتين متنازعتين في شرق البلاد وغربها. وأصبح من السهل تبعاً لذلك رصد تجمعاتهم بالعشرات، فيما يشبه «جيتوهات».
في ظل هذه الظروف الصعبة، لا يسلم المهاجرون الأطفال في ليبيا، وبخاصة الفئات المستضعفة منهم، من التعرض لعمليات اغتصاب وتعذيب واحتجاز للقُصّر؛ إذ رصدت البعثة الأممية لدى ليبيا في أحدث تقاريرها في ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن شبكات إجرامية أسرت طالبة لجوء من إريتريا ثلاث مرات في براك الشاطئ، وبني وليد والخمس، تعرضت خلالها لاغتصاب جماعي وضرب وتجويع، وسردت معاناة الفتاة على لسانها «كنا نحو مائتي شخص في غرفة واحدة. لم نكن نقوى على التنفس أو الحركة أو مد أرجلنا، وكنت أتعرض في كل ليلة للاغتصاب من قبل نحو ستة رجال، بعضهم ليبيون، وآخرون من جنسيات أفريقية مختلفة».
كما قالت البعثة: إن صومالية صغيرة السن «بيعت لمتاجرين بالبشر في مدينة الكفرة فور دخولها ليبيا، قادمة من السودان أواخر العام الماضي، وسردت تفاصيل تجربتها المريرة على لسانها: (في الكفرة تعرضت للاغتصاب والضرب إلى أن دفعت والدتي المال. غير أنه لم يطلق سراحي، بل تم اقتيادي إلى براك الشاطئ، وطلب مني دفع المال مرة أخرى، فبقيت هناك أشهر عدة، شهدت خلالها وفاة عشرين شخصاً)».
«الشرق الأوسط» سألت أحد أعضاء «جهاز الهجرة غير الشرعية» في مدينة سبها عن هؤلاء الأطفال، داخل وخارج مقار مركز الهجرة، فقال: «لا يوجد لدينا أطفال غير مصحوبين بذويهم، وليست لدينا إحصائية في الجنوب عن أعدادهم خارج مركز الإيواء. لكنهم كثيرون، ويعملون بالتسول في شوارع المدينة، ويتواجدون بكثرة في محيط المحال التجارية، وفي الأسواق والمناطق المزدحمة».
وأضاف عضو جهاز الهجرة في سبها، الذي اختار لنفسه اسم أحمد امحمد، موضحاً: إن «هذه النوعية من الأطفال المهاجرين يظهرون بشكل كبير، وبخاصة في الصيف، وأحياناً يختفون بشكل مريب»، كاشفاً عن «تعرضهم لمخاطر كبيرة»، وقال: «إذا كان المهاجرون بشكل عام يتعرضون لأهوال في ليبيا، فإن الأطفال يعتبرون صيداً سهلاً، وأكثر استهدافاً من قبل عصابات الجريمة، والاتجار في البشر».
وأوضح امحمد باعتباره أحد سكان سبها، أن هذه الشريحة باتت «تتزايد بشكل مستمر بسبب موجات الهجرة، ونشاط عصابات الاتجار بالبشر، لكن يظل الوضع في المناطق الجنوبية كارثياً بالنسبة لهؤلاء الأطفال». ففي الأشهر الماضية خطفت عصابات مسلحة بعض المهاجرين الأطفال، وأخضعتهم لعملية ابتزاز: إمّا أن يدفعوا إليهم أموالاً، أو يتم التنازل عنهم لعصابة أخرى مقابل مبلغ من الدولارات.

مسارات المهاجرين
تتعدد وتتنوع مسارات المهاجرين إلى ليبيا، أبرزها المسار الرابط من إقليم دارفور بالسودان، مروراً بالقلع الغربي للسودان، ثم عبور ليبيا بالقرب من منفذ السارة إلى خط الأربعمائة، ومن ثم إلى جبل كلمنجة ومنطقة واو الناموس، ومنها إلى سبها، ثم إلى طرابلس العاصمة. وهناك مسار آخر من تشاد إلى منفذ السارة البري، ومنه إلى منطقة ريبانة، أو جبل كلنجة غرب مدينة الكفرة.
بالنسبة لمحطة بني وليد، فرغم المسافة الشاسعة بينها وبين سبها، والتي تقدر بـ524 كيلومتراً، فإن الأخيرة التي تقع في الشمال الغربي، تعد إحدى أهم المحطات بطريق وفود الهجرة غير الشرعية. فهناك يستريح المهاجرون من عناء الطريق التي قطعوها من الجنوب، قبل أن ينطلقوا إلى ترهونة، ثم صبراتة أو الزاوية على الساحل الغربي. ومن هناك يتم الهرب في زوارق إلى البحر، إذا استطاع المهاجرون تدبير الأموال المطلوبة ودفعها للمهربين.
ويبدو أن المدينة، التي لا تزال تدين بالولاء للقذافي، لها نصيب من اسمها الذي عُرفت به حسب المرويات القديمة، حيث كان مواطنو المغرب، والجزائر، وتونس الذين يذهبون إلى «الأراضي الحجازية» للحج، يمرون عبر ليبيا من خلال هذه البقعة ويبقون فيها نوقهم، التي على وشك أن تلد، وخلال عودتهم من الحج يجدون إبلهم قد ولدت، فأطلقوا عليها اسم «وادي الوليد»، ثم تطور الاسم إلى أن صار بني وليد.
واليوم أصبح المهاجرون، الذين يمرون عبر صحراء بني وليد، يتخففون من المهاجرين الصغار، بعدما تحولوا إلى عبء في رحلة محفوفة بالمخاطر، فأصبحوا يبقونهم في فضاء الصحراء ليعثر عليهم سكان المدينة، ومن بين هؤلاء الصغار، طفلة قادمة من النيجر، تدعى أنبوتي، لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، جاءت من بلادها مع مهاجرين آخرين، عبر الحدود الجنوبية الليبية، في رحلة قاسية يرويها حاتم التويجر، عضو مجلس إدارة «جمعية السلام بني وليد» للأعمال الخيرية: «فور وصول الطفلة إلى قرية الشويرف شمال مدينة سبها، التي تعتبر ممراً لجماعات المهاجرين، اختفت وبدأ الخاطفون في مساومة أسرتها المسيحية المقيمة في النيجر، لدفع فدية. لكنها لم تستطع توفير المال اللازم لإطلاق سراحها، فسكبوا البنزين على جسدها وأشعلوا فيها النار، وألقوا بها جنوب ضواحي المدينة، التي تبعد عن العاصمة طرابلس 180 كيلومتراً، وقد عثرت عليها سرية حماية بني وليد الأمنية، ونقلتها إلى المستشفى العام في المدينة لتلقي الإسعافات الأولية».

اعتناق الإسلام
في العاصمة طرابلس، بدأت الطفلة أنبوتي تتلقى العلاج من الحروق لمدة شهرين على نفقة مواطن ليبي يدعى عبد العاطي المروم، ثم عادت إلى بني وليد ثانية، لتبدأ رحلة جديدة... لكن هذه المرة مع اعتناق الدين الإسلامي.
حول هذه المرحلة يقول التويجر لـ«الشرق الأوسط»: «كانت أنبوتي تتردد على الجمعية، وأشهرت إسلامها لما شهدته من حسن معاملة من أهالي المدينة، وحفظت 8 سور من القرآن الكريم، وتم تسميتها رحمة، ثم التحقت بفضل مساعدة أسرة المروم بالمدرسة الهندية (السند العالمية) لتستكمل دراستها».
ومع الجهود التي بذلتها السلطات المحلية في بني وليد، عادت أنبوتي إلى أسرتها في النيجر، في حالة فريدة من نوعها. بينما بقيت أخريات من أمثالها هناك، يصارعن مستقبلاً مجهولاً، بعدما تبددت آمالهن في الانتقال إلى «الشط الثاني»، وأصبحن يخططن للإقامة في ليبيا بشكل دائم. ولذلك؛ أنشأت الجمعية مقراً أطلقت عليه «البيت الآمن» خصيصاً للحالات المرضية للأطفال والنساء الناجين من حوادث الهجرة أثناء تنقلهم عبر الطرق الصحراوية، يتلقون فيه العلاج والغذاء مجاناً. كما أن أطفالاً عدة من الصومال وإثيوبيا والنيجر أصبحوا يتلقون الرعاية في جمعية بني وليد.
لكن العصابات المسلحة دائماً ما تتربص بالعابرين لصحراء بني وليد، وتقطع عليهم «طريق الرحلة»، بقيادة المهرب موسي دياب، الذي طالب مكتب النائب العام، بالقبض عليه وإخضاعه للمحاكمة، بعد مجزرة قضى فيها 15 مهاجراً، معظمهم من إريتريا، والصومال، وإثيوبيا بعد إطلاق النار على 140 شخصاً، أثناء محاولتهم الفرار من سجن سري يديره مهربون قرب ضواحي بني وليد.
وقال الصدّيق الصور، رئيس مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام، خلال مؤتمر صحافي في مارس (آذار) الماضي، إنهم أصدروا 205 مذكرات توقيف ضد أشخاص متورطين في تنظيم عمليات الاتجار بالبشر وحالات تعذيب وقتل واغتصاب، من بينهم دياب.

مماني في طرابلس
داخل مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بطريق السكة (فرع طرابلس)، أمضت الطفلة مماني ابنة السنوات السبع، قرابة العام دون أسرتها التي أتت من ساحل العاج، وغرقت في مياه المتوسط، قبل أن تصل إلى أوروبا، يقول ميلاد الساعدي، المستشار الإعلامي لجهاز مكافحة الهجرة لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الطفلة السمراء تعرف أحداً ولا تعلم شيئاً، فاصطحبتها السيدة خدوجة، الممرضة بالمركز، إلى بيتها لتربيتها مع أبنائها».
ومضى الساعدي يقول: «حرصت السيدة خدوجة على تحصين مماني بكل التطعيمات التي كانت محرومة منها في بلدها، وألحقتها بالمدرسة، وظلت تحظى بالعناية إلى أن تم تسليمها إلى سفارة ساحل العاج في ليبيا».
وتظهر السلطات المحلية قلة حيلتها أمام تنامي ظاهرة تسرب أطفال المهاجرين بين المدن المختلفة، وهو ما كشف عنه مسؤول أمني كبير في وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، بقوله: «هذه تركة ثقيلة ورثناها... وأمامنا بعض الوقت لترتيب أمورنا»، قبل أن يستدرك: «المكان الطبيعي للمهاجرين غير النظاميين، هو مراكز الإيواء، ولا يوجد لدينا غير ذلك». أما العميد محمد بشر، رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، فكان أكثر صراحة، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «لا يوجد حصر دقيق لأعداد المهاجرين غير الشرعيين خارج مراكز الإيواء... ومسؤوليتنا تتوقف عند الأطفال الذين هم داخل المراكز فقط.. وهؤلاء أعدادهم ليست كبيرة»، دون إعطاء أرقام محددة.
وأبقى جهاز الهجرة غير الشرعية في طرابلس على 12 مركزاً فقط، من إجمالي 34 على مستوى ليبيا، وذلك على خلفية تجاوزات تتعلق باستغلال مهاجرين على نحو غير أخلاقي. بقول بشر: «عندما يتأكد لنا وجود خروقات أمنية في أي مركز لإيواء المهاجرين يتم إغلاقه على الفور دون تردد... ولو تطلب الأمر إحالة أي ضابط صف متورط إلى النائب العام فإننا لن نتأخر».
غير أن عدم اهتمام الأجهزة الرسمية في ليبيا بغير المهاجرين الموقوفين لديها في مراكز الإيواء، وضع تلك الشريحة المستضعفة فريسة سهلة أمام استغلالها من عصابات الجريمة المنظمة في أعمال منافية للآداب، ودمجها في الجماعات الإرهابية والإجرامية، في ظل مخاوف من تعرض هؤلاء الأطفال لعمليات متاجرة في الأعضاء البشرية.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.