الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

بعضهم يتعرض للاغتصاب والتعذيب أو يتم دمجه في الجماعات الإرهابية والإجرامية

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
TT

الأطفال القُصّر... جيل جديد من المهاجرين يستوطن ليبيا

أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)
أطفال أفارقة يلعبون خارج قاعدة بحرية في طرابلس بعد إنقاذهم من طرف البحرية الليبية من الغرق (أ.ف.ب)

منذ قرابة عامين، هربت الطفلة الأفريقية فاطمة أبو رحماني من قبضة عصابة لتهريب البشر، بمساعدة مواطن ليبي، واستقر بها المقام في مدينة سبها (جنوب) ولم تغادرها حتى الآن. هذه الفتاة التي تستهل عامها الثالث عشر، عُثر عليها ليلاً في صحراء فزان، بعدما قفزت من حافلة كانت تُقلّ مهاجرين غير شرعيين من دول جوار عدة، وهي الآن تعمل لدى عائلة ليبية، مقابل الطعام والسكن، وتسمح لها ببيع المناديل الورقية قرب الأسواق التجارية في آخر اليوم. بخوف شديد، سردت فاطمة أبو رحماني جزءاً من مأساتها، فقالت: «أرسلني والداي من الصومال مع رفيقات ونساء ورجال كثيرين للسفر إلى إيطاليا. لكن السماسرة الذين كانوا على حدود تشاد أخذوا أموالنا، وسلمونا إلى عصابة محلية، عنّفتنا ومنعت عنا الطعام والمياه».
لكن فاطمة، وعلى صغر سنها، لا تعد حالة معزولة. ففي داخل الأرضي الليبية يوجد عشرات الأطفال أصغر منها سناً، بعضهم دفعت بهم أُسرهم الفقيرة للمصير نفسه وبالطريقة نفسها، وبعضهم الآخر فقدوا آباءهم غرقاً في مياه البحر المتوسط، أثناء محاولة فاشلة للهجرة، وهو ما خلّف معضلة إضافية تتنامى داخل المجتمع الليبي، مُلخصها أن جيلاً من الأطفال الذين تقطّعت بهم السبل، أصبح يعيش في هذا البلد المليء بالفوضى دون آباء أو معيل. منهم من يعيش على «حلم مؤجل»، ويعمل في كل شيء لتوفير ثمن «رحلة البحر»، بينما غالبيتهم يفضلون البقاء في ليبيا على العودة إلى بلادهم، وكلهم يعيشون بعيداً عن أعين أجهزة الشرطة، وخارج مراكز إيواء المهاجرين الحكومية.
«الشرق الأوسط» استقصت هذه الظاهرة في أنحاء البلاد، وتتبعت مسارات تحركات هؤلاء الأطفال، الذين سقطوا من ذاكرة المنظمات والهيئات الدولية، لمعرفة من أين جاؤوا؟ وأين يتجمعون؟ وهل يمكن أن يشكلوا خطراً على البلد الذي تضربه الانقسامات السياسية منذ إسقاط نظام الرئيس معمر القذافي قبل نحو ثماني سنوات؟... وخرجت بالتحقيق التالي...
عندما بحثنا عن رفاق فاطمة، الفارين من بؤس دولهم الأفريقية الفقيرة، إلى بلد يعاني فراغاً أمنياً، اقتفينا أثرهم في رحلتهم الممتدة من الحدود الأفريقية مع ليبيا إلى وسط وغرب البلاد، فتبين أن نقطة الانطلاق فيها تبدأ عادة من مدن الجنوب، مثل سبها وبراك الشاطئ، ثم الكفرة، التي تسيطر عليها عصابات الاتجار بالبشر، ومرتزقة أفارقة، وقبائل يتاجر بعضها في تسهيل مهمة من يدفع «مقابل المرور»، وصولاً إلى بني وليد كنقطة تمركز، قبل الانطلاق باتجاه القرة بولي ثم إلى الخمس، ومنها نحو صبراتة أو زوارة.
ورغم أن الأجهزة الأمنية في ليبيا تُودع من حين إلى آخر، مئات المهاجرين الذين ينسلون عبر الحدود أو الذين تنقذهم قوات خفر السواحل، قيد الاحتجاز أو في مراكز للإيواء تشرف عليها وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني. لكن أعداداً كثيرة من القصّر، بينهم نساء وأطفال غير مصحوبين بذويهم، يتسربون بطرق ملتوية إلى المدن والبلدات الليبية؛ وهو ما كشفت عنه أرقام شبه رسمية؛ إذ يقدر عدد الذين يقيمون داخل تلك المراكز بـ34 ألف مهاجر فقط، مقابل أكثر من 740 ألفاً يمرحون في عموم البلاد، وفق ما أعلن عنه المبعوث الأممي لدى ليبيا الدكتور غسان سلامة في حوار مع قناة «(فرانس 24» نهاية الشهر الماضي.

سبها قبلة القصر الوافدين
في متاهة التضاريس الصحراوية الغالبة على البلد الغني بالنفط، والذي تربو مساحته على 1.7 مليون كيلومتر مربع، تتربع مدينة سبها، (عاصمة الجنوب) بمناطقها الخمسة عشر، وفيها يتوه آلاف الأطفال الوافدين من أفريقيا، بين أهلها المُنهكين في أزماتهم المعيشية، فيندمجون في أوساطهم في عملية احتواء طابعها العطف والشفقة بحجة «أنهم أطفال مساكين بلا أُسر، تم الدفع بهم إلى بلادنا، عبر حدودنا المفتوحة للهرب إلى أوروبا... مثل الطفلة فاطمة التي كُتب لها عُمر جديد، بعدما عثرنا عليها بين الحياة والموت في صحراء فزان، فاقدة للنطق»، كما قال زنّاري الضوي، الذي يمتلك مزرعة من النخيل، لـ«الشرق الأوسط»، وتابع موضحاً: «كدنا أن ندهسها، قبل أن تبرق عيناها أمام ضوء السيارة كقط بري... وقد حكت لنا الطفلة بفزع شديد، وعلى أيام متباعدة، تفاصيل ما وقع لها ليلة عثورنا عليها في ظلمة الصحراء. إنها لا تزال تعاني حالة نفسية صعبة، توقظها ليلاً وهي تصرخ؛ لذا أتركها على راحتها، وأساعدها على إرسال أموال لأسرتها الفقيرة في الصومال. فهي تدّخر من عملها في منزلي، وبيع المناديل».

مأساة الصومالية بائعة المناديل
فاطمة التي تخطو نحو المجهول، منذ أن ألقى بها والدها على ظهر حافلة، تحت أقدام عشرات الرجال والنساء، أصبحت تعرف شوارع سبها جيداً وتحفظ أسماءها، كما تحفظ أسماء مدينة كانيبو الصومالية، التي أتت منها قبل عامين. وهي تواظب اليوم على الوقوف في قلب إحدى الأسواق الشعبية المزدحمة مع بنات وصبيان آخرين من دول أفريقية مختلفة، يبيعون المناديل الورقية، ويستجدون المارة للحصول على المال.
كانت فترة العامين، التي عاشتهما الصغيرة فاطمة في ليبيا، كافية لتتعلم القليل من مفردات اللغة العربية، التي ترددها بركاكة مصحوبة بلهجة ليبية. تقول فاطمة: «جئت مع نحو 50 رجلاً وامرأة، وأطفال كثيرين في سيارة ممتلئة بالبشر، انطلقت بنا لأيام في الصحراء، وعندما كانت تتوقف لم يكن يسمحون لنا بالنزول منها، فكنا نقضي حاجتنا الطبيعية داخل السيارة... ولطالما بكينا طويلاً وصرخنا من الجوع والعطش».
وتضيف فاطمة لـ«الشرق الأوسط»: «عندما شعر الرجال باقترابنا من المدن الليبية، قفز بعضهم من أعلى السيارة في ظلام الصحراء، هرباً من العصابة التي تسلمتنا من سيارة أخرى على حدود تشاد، فسقطت من شدة التدافع».
وبأسى شديد، ومرارة بالغة تابعت فاطمة سرد مأساتها بعد أن أدركت أن حلم معانقة الأراضي الإيطالية أصبح صعب المنال: «والدي قال لي إنهم ذاهبون إلى إيطاليا، وعليك أن تتبعيهم. لكن ذلك لم يحدث، وأنا الآن أساعد عائلة عمي زنّاري، وأبيع المناديل من العصر إلى آخر اليوم مع أطفال من دول أفريقية في السوق، وأعود لأنام في المنزل. أبي يُلح عليّ بالاتجاه نحو البحر، لكنني لن أغادر سبها، فكثير من الأطفال، الذين كنت أقابلهم كل يوم اختفوا. كانوا أكثر من 20 بنتاً وسبعة أولاد، غالبيتهم من إريتريا وتشاد وساحل العاج... لا أعلم أين ذهبوا...هل تعرف أين هم الآن؟».
تساءلت فاطمة بحزن شديد، قبل أن تستكمل سرد حكايتها المؤلمة «كان بين الأطفال المختفين ثلاث بنات مصابات بالسل (الدرن) والإيدز»، وهي الأمراض التي كشفت عنها الأجهزة الطبية في البلاد لاحقاً، بعد توقيف عدد من المهاجرين، وإخضاعهم للفحص الطبي، قبل ترحيلهم إلى دولهم.
وتبعاً للمعطيات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط»، فإن الأطفال المهاجرين يفضلون الاندماج في مدن الجنوب، مستغلين في ذلك التقارب في لون البشرة السمراء مع مواطنيها، وهرباً من التمييز ضد أصحاب هذه البشرة، حتى باتت هذه الظاهرة في تنام ملحوظ. وفي هذا السياق، يرى إسماعيل بازنكة، الناشط المدني الذي ينتمي إلى قبلية التبو، أنه «رغم عدم وجود حصر لعدد هؤلاء الأطفال في البلاد، فإن أعدادهم كبيرة، وهم يتواجدون في المدن والمناطق المعروفة بالتهريب».
وأوضح بازنكة، أن «غالبية الأطفال الأفارقة، المتواجدين في الجنوب تركوا عائلاتهم وأتوا للعمل في ليبيا رفقة مهاجرين كبار السن، رغم حداثة أعمارهم»، مؤكداً أن «نسبة كبيرة منهم صغار السن وضعاف البنية، ولا يملكون المهارات اللازمة لأي عمل».
وتابع بازنكة، الذي اطّلع بحكم نشاطه التطوعي على نماذج عدة لهؤلاء الأطفال القصر: «هم يشتغلون لدى العمالة الوافدة في أماكن إقامتهم، ويساعدونهم على الطهو، وعندما يضمنون ثمن إيجار قارب ينتقلون إلى الساحل للتوجه نحو أوروبا».

في قبضة عصابات الجريمة
تعاني منطقة الجنوب، التي يبلغ امتدادها نحو 600 كيلومتر، من التهريب بكل أنواعه، وبخاصة المخدرات والاتجار بالبشر. ومع تردي الأوضاع المعيشية بعد مقتل القذافي، وسقوط سلطة الدولة، باتت جميع القبائل التي تقع على خط سير عمليات تهريب المهاجرين «تسترزق من الهجرة»، واتجه شبانها لمساعدة تلك العصابات في نقل المهاجرين من الجنوب، إلى أقرب نقطة على الساحل. وقد تسبب الفساد الإداري في إغلاق بعض مراكز الإيواء في الجنوب، التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني، ولم يتبق غير مركزي إيواء الكفرة، وسبها طريق المطار؛ الأمر الذي ساهم - برأي البعض - في تسلل مئات الأطفال المهاجرين إلى المدن والبلدات، وبخاصة في ظل ضعف رقابة الأجهزة الأمنية المنقسمة بين حكومتين متنازعتين في شرق البلاد وغربها. وأصبح من السهل تبعاً لذلك رصد تجمعاتهم بالعشرات، فيما يشبه «جيتوهات».
في ظل هذه الظروف الصعبة، لا يسلم المهاجرون الأطفال في ليبيا، وبخاصة الفئات المستضعفة منهم، من التعرض لعمليات اغتصاب وتعذيب واحتجاز للقُصّر؛ إذ رصدت البعثة الأممية لدى ليبيا في أحدث تقاريرها في ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن شبكات إجرامية أسرت طالبة لجوء من إريتريا ثلاث مرات في براك الشاطئ، وبني وليد والخمس، تعرضت خلالها لاغتصاب جماعي وضرب وتجويع، وسردت معاناة الفتاة على لسانها «كنا نحو مائتي شخص في غرفة واحدة. لم نكن نقوى على التنفس أو الحركة أو مد أرجلنا، وكنت أتعرض في كل ليلة للاغتصاب من قبل نحو ستة رجال، بعضهم ليبيون، وآخرون من جنسيات أفريقية مختلفة».
كما قالت البعثة: إن صومالية صغيرة السن «بيعت لمتاجرين بالبشر في مدينة الكفرة فور دخولها ليبيا، قادمة من السودان أواخر العام الماضي، وسردت تفاصيل تجربتها المريرة على لسانها: (في الكفرة تعرضت للاغتصاب والضرب إلى أن دفعت والدتي المال. غير أنه لم يطلق سراحي، بل تم اقتيادي إلى براك الشاطئ، وطلب مني دفع المال مرة أخرى، فبقيت هناك أشهر عدة، شهدت خلالها وفاة عشرين شخصاً)».
«الشرق الأوسط» سألت أحد أعضاء «جهاز الهجرة غير الشرعية» في مدينة سبها عن هؤلاء الأطفال، داخل وخارج مقار مركز الهجرة، فقال: «لا يوجد لدينا أطفال غير مصحوبين بذويهم، وليست لدينا إحصائية في الجنوب عن أعدادهم خارج مركز الإيواء. لكنهم كثيرون، ويعملون بالتسول في شوارع المدينة، ويتواجدون بكثرة في محيط المحال التجارية، وفي الأسواق والمناطق المزدحمة».
وأضاف عضو جهاز الهجرة في سبها، الذي اختار لنفسه اسم أحمد امحمد، موضحاً: إن «هذه النوعية من الأطفال المهاجرين يظهرون بشكل كبير، وبخاصة في الصيف، وأحياناً يختفون بشكل مريب»، كاشفاً عن «تعرضهم لمخاطر كبيرة»، وقال: «إذا كان المهاجرون بشكل عام يتعرضون لأهوال في ليبيا، فإن الأطفال يعتبرون صيداً سهلاً، وأكثر استهدافاً من قبل عصابات الجريمة، والاتجار في البشر».
وأوضح امحمد باعتباره أحد سكان سبها، أن هذه الشريحة باتت «تتزايد بشكل مستمر بسبب موجات الهجرة، ونشاط عصابات الاتجار بالبشر، لكن يظل الوضع في المناطق الجنوبية كارثياً بالنسبة لهؤلاء الأطفال». ففي الأشهر الماضية خطفت عصابات مسلحة بعض المهاجرين الأطفال، وأخضعتهم لعملية ابتزاز: إمّا أن يدفعوا إليهم أموالاً، أو يتم التنازل عنهم لعصابة أخرى مقابل مبلغ من الدولارات.

مسارات المهاجرين
تتعدد وتتنوع مسارات المهاجرين إلى ليبيا، أبرزها المسار الرابط من إقليم دارفور بالسودان، مروراً بالقلع الغربي للسودان، ثم عبور ليبيا بالقرب من منفذ السارة إلى خط الأربعمائة، ومن ثم إلى جبل كلمنجة ومنطقة واو الناموس، ومنها إلى سبها، ثم إلى طرابلس العاصمة. وهناك مسار آخر من تشاد إلى منفذ السارة البري، ومنه إلى منطقة ريبانة، أو جبل كلنجة غرب مدينة الكفرة.
بالنسبة لمحطة بني وليد، فرغم المسافة الشاسعة بينها وبين سبها، والتي تقدر بـ524 كيلومتراً، فإن الأخيرة التي تقع في الشمال الغربي، تعد إحدى أهم المحطات بطريق وفود الهجرة غير الشرعية. فهناك يستريح المهاجرون من عناء الطريق التي قطعوها من الجنوب، قبل أن ينطلقوا إلى ترهونة، ثم صبراتة أو الزاوية على الساحل الغربي. ومن هناك يتم الهرب في زوارق إلى البحر، إذا استطاع المهاجرون تدبير الأموال المطلوبة ودفعها للمهربين.
ويبدو أن المدينة، التي لا تزال تدين بالولاء للقذافي، لها نصيب من اسمها الذي عُرفت به حسب المرويات القديمة، حيث كان مواطنو المغرب، والجزائر، وتونس الذين يذهبون إلى «الأراضي الحجازية» للحج، يمرون عبر ليبيا من خلال هذه البقعة ويبقون فيها نوقهم، التي على وشك أن تلد، وخلال عودتهم من الحج يجدون إبلهم قد ولدت، فأطلقوا عليها اسم «وادي الوليد»، ثم تطور الاسم إلى أن صار بني وليد.
واليوم أصبح المهاجرون، الذين يمرون عبر صحراء بني وليد، يتخففون من المهاجرين الصغار، بعدما تحولوا إلى عبء في رحلة محفوفة بالمخاطر، فأصبحوا يبقونهم في فضاء الصحراء ليعثر عليهم سكان المدينة، ومن بين هؤلاء الصغار، طفلة قادمة من النيجر، تدعى أنبوتي، لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، جاءت من بلادها مع مهاجرين آخرين، عبر الحدود الجنوبية الليبية، في رحلة قاسية يرويها حاتم التويجر، عضو مجلس إدارة «جمعية السلام بني وليد» للأعمال الخيرية: «فور وصول الطفلة إلى قرية الشويرف شمال مدينة سبها، التي تعتبر ممراً لجماعات المهاجرين، اختفت وبدأ الخاطفون في مساومة أسرتها المسيحية المقيمة في النيجر، لدفع فدية. لكنها لم تستطع توفير المال اللازم لإطلاق سراحها، فسكبوا البنزين على جسدها وأشعلوا فيها النار، وألقوا بها جنوب ضواحي المدينة، التي تبعد عن العاصمة طرابلس 180 كيلومتراً، وقد عثرت عليها سرية حماية بني وليد الأمنية، ونقلتها إلى المستشفى العام في المدينة لتلقي الإسعافات الأولية».

اعتناق الإسلام
في العاصمة طرابلس، بدأت الطفلة أنبوتي تتلقى العلاج من الحروق لمدة شهرين على نفقة مواطن ليبي يدعى عبد العاطي المروم، ثم عادت إلى بني وليد ثانية، لتبدأ رحلة جديدة... لكن هذه المرة مع اعتناق الدين الإسلامي.
حول هذه المرحلة يقول التويجر لـ«الشرق الأوسط»: «كانت أنبوتي تتردد على الجمعية، وأشهرت إسلامها لما شهدته من حسن معاملة من أهالي المدينة، وحفظت 8 سور من القرآن الكريم، وتم تسميتها رحمة، ثم التحقت بفضل مساعدة أسرة المروم بالمدرسة الهندية (السند العالمية) لتستكمل دراستها».
ومع الجهود التي بذلتها السلطات المحلية في بني وليد، عادت أنبوتي إلى أسرتها في النيجر، في حالة فريدة من نوعها. بينما بقيت أخريات من أمثالها هناك، يصارعن مستقبلاً مجهولاً، بعدما تبددت آمالهن في الانتقال إلى «الشط الثاني»، وأصبحن يخططن للإقامة في ليبيا بشكل دائم. ولذلك؛ أنشأت الجمعية مقراً أطلقت عليه «البيت الآمن» خصيصاً للحالات المرضية للأطفال والنساء الناجين من حوادث الهجرة أثناء تنقلهم عبر الطرق الصحراوية، يتلقون فيه العلاج والغذاء مجاناً. كما أن أطفالاً عدة من الصومال وإثيوبيا والنيجر أصبحوا يتلقون الرعاية في جمعية بني وليد.
لكن العصابات المسلحة دائماً ما تتربص بالعابرين لصحراء بني وليد، وتقطع عليهم «طريق الرحلة»، بقيادة المهرب موسي دياب، الذي طالب مكتب النائب العام، بالقبض عليه وإخضاعه للمحاكمة، بعد مجزرة قضى فيها 15 مهاجراً، معظمهم من إريتريا، والصومال، وإثيوبيا بعد إطلاق النار على 140 شخصاً، أثناء محاولتهم الفرار من سجن سري يديره مهربون قرب ضواحي بني وليد.
وقال الصدّيق الصور، رئيس مكتب التحقيقات بمكتب النائب العام، خلال مؤتمر صحافي في مارس (آذار) الماضي، إنهم أصدروا 205 مذكرات توقيف ضد أشخاص متورطين في تنظيم عمليات الاتجار بالبشر وحالات تعذيب وقتل واغتصاب، من بينهم دياب.

مماني في طرابلس
داخل مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بطريق السكة (فرع طرابلس)، أمضت الطفلة مماني ابنة السنوات السبع، قرابة العام دون أسرتها التي أتت من ساحل العاج، وغرقت في مياه المتوسط، قبل أن تصل إلى أوروبا، يقول ميلاد الساعدي، المستشار الإعلامي لجهاز مكافحة الهجرة لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الطفلة السمراء تعرف أحداً ولا تعلم شيئاً، فاصطحبتها السيدة خدوجة، الممرضة بالمركز، إلى بيتها لتربيتها مع أبنائها».
ومضى الساعدي يقول: «حرصت السيدة خدوجة على تحصين مماني بكل التطعيمات التي كانت محرومة منها في بلدها، وألحقتها بالمدرسة، وظلت تحظى بالعناية إلى أن تم تسليمها إلى سفارة ساحل العاج في ليبيا».
وتظهر السلطات المحلية قلة حيلتها أمام تنامي ظاهرة تسرب أطفال المهاجرين بين المدن المختلفة، وهو ما كشف عنه مسؤول أمني كبير في وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، بقوله: «هذه تركة ثقيلة ورثناها... وأمامنا بعض الوقت لترتيب أمورنا»، قبل أن يستدرك: «المكان الطبيعي للمهاجرين غير النظاميين، هو مراكز الإيواء، ولا يوجد لدينا غير ذلك». أما العميد محمد بشر، رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، فكان أكثر صراحة، وقال في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «لا يوجد حصر دقيق لأعداد المهاجرين غير الشرعيين خارج مراكز الإيواء... ومسؤوليتنا تتوقف عند الأطفال الذين هم داخل المراكز فقط.. وهؤلاء أعدادهم ليست كبيرة»، دون إعطاء أرقام محددة.
وأبقى جهاز الهجرة غير الشرعية في طرابلس على 12 مركزاً فقط، من إجمالي 34 على مستوى ليبيا، وذلك على خلفية تجاوزات تتعلق باستغلال مهاجرين على نحو غير أخلاقي. بقول بشر: «عندما يتأكد لنا وجود خروقات أمنية في أي مركز لإيواء المهاجرين يتم إغلاقه على الفور دون تردد... ولو تطلب الأمر إحالة أي ضابط صف متورط إلى النائب العام فإننا لن نتأخر».
غير أن عدم اهتمام الأجهزة الرسمية في ليبيا بغير المهاجرين الموقوفين لديها في مراكز الإيواء، وضع تلك الشريحة المستضعفة فريسة سهلة أمام استغلالها من عصابات الجريمة المنظمة في أعمال منافية للآداب، ودمجها في الجماعات الإرهابية والإجرامية، في ظل مخاوف من تعرض هؤلاء الأطفال لعمليات متاجرة في الأعضاء البشرية.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.