«داعشيات» في مهمة تجنيد

يعملن منسقات على الإنترنت

لقطة من فيديو بثه «داعش» يصور مشاركة امرأة في القتال (من صفحات التنظيم)
لقطة من فيديو بثه «داعش» يصور مشاركة امرأة في القتال (من صفحات التنظيم)
TT

«داعشيات» في مهمة تجنيد

لقطة من فيديو بثه «داعش» يصور مشاركة امرأة في القتال (من صفحات التنظيم)
لقطة من فيديو بثه «داعش» يصور مشاركة امرأة في القتال (من صفحات التنظيم)

في حين قال مراقبون إن تنظيم داعش الإرهابي بات يعتمد بشكل كبير الآن على الغربيات العائدات من أرض الهزائم في سوريا والعراق، للتخطيط للعمليات الإرهابية المقبلة، واستخدامهن كمنسقات عبر الإنترنت لتجنيد أتباع جُدد، سواء رجال أو نساء، والتنسيق بين عناصر التنظيم القديمة والجديدة، أكد باحثون في الحركات الأصولية أن الكتائب الداعشية تتواصل مع النساء عبر قنوات متخصصة على موقع «تليغرام»، وأن التنظيم نجح في إعداد جيل من «المنظرات الجدد» اللائي لم يكتفين بدراسة المواد الشرعية، بل يشاركن بأنفسهن في استقطاب غيرهن من الرجال والنساء. وأوضح الباحثون أن «توظيف النساء في تنفيذ العمليات الإرهابية قد حقق كثيراً من المزايا لـ(داعش)، إلى جانب مضاعفة المجندين المحتملين. وساهم تقليل المتابعة الأمنية لهن في إمكانية مرورهن للأماكن المزدحمة والمستهدفة بسهولة، دون إثارة للريبة».
أدت النساء أدواراً محورية في «داعش»، من بينها دعم الأزواج، وتربية الصغار على الأفكار المتطرفة، وتجنيد أخريات. وقال رسمي عجلان، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، لـ«الشرق الأوسط»، إن «داعش» استخدام النساء العائدات في استقطاب الأفراد الجُدد، حيث يعملن كحلقة وصل بين «المتطرفين» الجدد والمقاتلين المتمرسين، ويعملن أيضاً كمنسقات على الإنترنت، حيث يقمن بدور المنسق بين قيادة «داعش» والأفراد المقاتلين، أو الخلايا الصغيرة القتالية، أو الذئاب المنفردة، مضيفاً أن النساء اللاتي كانت مهمتهن الحمل والإنجاب والعمل بالمنزل في البداية، باتت لهن قدرة كبيرة على تجنيد المزيد من المتطرفين بصورة فعالة خلال الفترة الماضية.
وأكد عجلان أن الداعشيات تحت سن الثلاثين يستطعن حمل السلاح الذي يخلفه الرجال الذين لقوا مصرعهم في المعارك بسوريا والعراق، فهن لسن فتيات ساذجات يسعين وراء الحب، أو وجدن أنفسهن بطريق الخطأ في صفوف «الخلافة المزعومة»، بل إنهن أكثر نشاطاً وعنفاً من ذي قبل. فقد تم الاعتماد على النساء في مجال اللوجيستيات والدعاية والتجنيد، فضلاً عن القيام بعمليات انتحارية.

تناقض «داعشي»
وكشف عجلان عن زيف زعم تنظيم داعش، الذي كان يزعم أنه يطبق صحيح الدين الإسلامي مع النساء، لكنه استخدمهن بصورة أكبر في العمليات الحركية، وإنشاء كتائب نسائية، على رأسها «كتيبة الخنساء» التي أُنشئت للعمل في الحسبة ومراقبة النساء، ثم تطور الأمر إلى نزول المرأة إلى ساحة القتال، وترك المنزل نتيجة للتطورات الأخيرة للوضع الداعشي، وانحساره على الأرض بسبب الهزائم المتلاحقة على يد قوات التحالف في سوريا والعراق. ويبدو أن دائرة استغلال النساء اتسعت بشكل أكبر، خصوصاً في ظل وجود النساء الغربيات المنضمات للتنظيم.
ويتسق كلام عجلان مع دراسة لوحدة التحليل والمتابعة بمرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، التابع لدار الافتاء المصرية، أكدت أن تنظيم داعش يناقض فتاواه حول حقيقة مشاركة المرأة في العمليات القتالية، سواء ما جاءت به صحيفة «النبأ» الأسبوعية التي شرّعت مشاركة المرأة في القتال، أو فتاوى إذاعة «البيان»، التابعة للتنظيم، التي رفضت مشاركة المرأة في القتال.
وقالت الدراسة المصرية التي اعتمدت على تحليل مضمون 8 كتب أعدها «ديوان الافتاء، ومكتبة الهمة»، إضافة إلى عدد من الفتاوى الصوتية الصادرة عن «إذاعة البيان»، الناطقة باسم التنظيم، وبعض المقالات التي كتبها رموز «داعش» في صحيفة «النبأ»، إنها توصلت إلى أن تلك النصوص كشفت الشذوذ الفكري لدى التنظيم الإرهابي، في المضمون الديني والاجتماعي، وفضحت جهل أتباع التنظيم بالأصول الفقهية والشرعية، وانفصالهم عن الواقع المعاصر، وإفلاس التنظيم من المشروع الإنساني المحقق لمقاصد الشريعة.
وأوضحت الدراسة، التي أعدها باحثون في دار الافتاء، أن أفكار التنظيم حول المرأة أكدت جهله بماهية حقوق وواجبات المرأة في الإسلام، وانحصار رؤية الفكر الداعشي للمرأة في جانب الغريزة الجنسية المتطرفة حد الهوس الجنسي، حيث ركزت غالبية النصوص التي يتبناها فكر الدواعش في الحديث عن المرأة على أحكام «وطء المرأة بعد سبيها، والاستمتاع الجنسي بالسبية، وأحكام زواج المرأة بعد سبيها، والتفريق بينها وبين زوجها»، واعتبر التنظيم سبي المرأة خير وسيلة لتسهيل زواج عناصره غير المقتدرين.
وأضاف الباحثون أن دراسة رؤية «داعش» كشفت غلبة السادية العنيفة على عقلية أفراد التنظيم في تعاملهم مع المرأة، فمعظم كتابات التنظيم تحقر المرأة وتسلبها كيانها الإنساني المتمتع بالحقوق والواجبات، فهي لا ترى في المرأة سوى أداة للجنس، توطأ وتباع كأي شيء مملوك، كما أنها تورث ويتم التشارك فيها، وهي تضرب وتعنف إذا ما خالفت «سيدها». كما أشارت إلى أن التنظيم الإرهابي أفتى بردة وتكفير المسلمات اللاتي لا يخضعن لأحكامه، بل توسع التنظيم في استخدام هذا المصطلح لتبرير اختطاف أكبر عدد من النساء في مناطق نفوذه، وهو ما دلت عليه حوادث التنظيم في سوريا، بمنطقة السويداء، أخيراً.
وكشفت الدراسة أيضاً عن أن نصوص التنظيم الداعشي فرضت وصاية على المرأة في ملبسها، بتأكيدها وجوب ارتداء المرأة للنقاب، وإصدارهم فتاوى متعددة تقضي بحرمة ارتداء أي ملابس سوى النقاب. كما حرمت اختلاط المرأة بالرجال، وشددت على حرمة خروج المرأة من منزلها إلا للضرورة، وعدم سفرها دون محرم.

«قتال مُباشر»
وأكد الباحثون في دار الافتاء أن نصوص التنظيم وكتاباته، التي قامت بتحليلها ودراستها، أوضحت وجود مزيد من التناقض والإفلاس والجهل الشرعي لدى عناصر التنظيم في ما يتعلق بالمرأة، وقد تنوعت مساحات التناقض والإفلاس في النصوص، ومنها غياب أي نص مكتوب من قبل التنظيم، أو «ديوان الافتاء» التابع للتنظيم، يعمل بشكل أساسي على تأصيل أحكام مشاركة النساء مباشرة في العمليات القتالية، ووجود فتاوى متناقضة حول حقيقة مشاركة المرأة في العمليات القتالية، سواء ما جاءت به صحيفة «النبأ»، التي شرعت مشاركة المرأة في القتال، وفتاوى إذاعة «البيان»، التابعة للتنظيم، التي رفضت مشاركة المرأة في القتال، وهي تتناقض أيضاً مع ما جاءت به مطوية «وجوب ستر المرأة» الصادرة عن التنظيم. وهناك تناقض بين فتاوى التنظيم النسائية والواقع الميداني للتنظيم، فقد كشفت بعض إصدارات التنظيم المرئية عن توظيف المرأة في العمليات القتالية مباشرة، كما أن التنظيم أتاح لعناصره النسائية كشف الوجه، رغم تحريمه ذلك في العمليات، كما اختلطت نساء التنظيم مع الرجال في أثناء وبعد تنفيذ العمليات، رغم تحريم مسألة الاختلاط.

«مقاتلات جُدد»
وفي السياق ذاته، قال تقرير لمرصد الأزهر في القاهرة إن الجماعات الإرهابية استخدمت النساء للقيام ببعض العمليات التي يصعب على الرجال اختراق أهدافها. وبعودة الأجنبيات المنضمات لتنظيم داعش إلى الغرب، أمكن للدواعش استغلال الفكرة الشائعة عن أن النساء لا يمثلن خطراً كبيراً، في ما يتعلق بالهجمات الإرهابية، مثل الرجال. وأضاف المرصد، في تقرير له: رغم أن سوريا والعراق كانت معقلاً لهؤلاء المنسقات والمخططات، فإنه حديثاً بات ممكناً أن تتم هذه العمليات على نطاق أوسع في الدول الغربية التي سوف يتفرق بها العائدات الأجنبيات. وبما أن النساء الغربيات في «داعش»، اللائي عملن مستقطبات للتنظيم، يتمتعن بأسلوب مقنع لجذب الأخريات، فعمل المرأة كمخطط للعمليات يوحي بأن الغرب سوف يضم المزيد من المقاتلات من النساء.
وخلص تقرير الأزهر إلى أن الدور النسائي في الجماعات الإرهابية سوف يظل محل تناقض دائم، فهم يدعون دائماً إلى اقتصار دور المرأة على داخل بيت الزوجية، باعتبارها زوجة وأماً تربي جيلاً من المقاتلين، ثم إذ بهم يخرجونها من بيتها لتحمل السلاح وتقاتل معهم، كما يبرز دورها أيضاً في التنسيق والتخطيط الإلكتروني للعمليات الإرهابية التي ينفذها التنظيم. ونرى أنه إذا كانت النساء المقاتلات في صفوف الإرهاب يمثلن خطراً على مجتمعهن، في ما يتعلق بتنفيذ الهجمات الإرهابية والتخطيط لها، فإن الخطر الأكبر هو غرس هؤلاء النساء للآراء المتطرفة التي تشبعن بها في عقول أبنائهن، ليصحو العالم على جيل من الأطفال المتطرفين ينتشرون في أرجائه.

«فتاوى متناقضة»
وقدر المراقبون نسبة المراهقات المنضمات لتنظيم داعش بنحو 55 في المائة، وأن حلمهن كان في البداية مجرد الزواج بأحد عناصر التنظيم في أرض «الخلافة المزعومة»، لكن تحول إلى سعيهن لتنفيذ هجمات انتحارية والمشاركة في القتال.
وعن استخدام «داعش» للنساء بشكل كبير الآن، أكد رسمي عجلان أن «من أبرز العوامل التي يستغلها التنظيم لجذب أعداد جديدة لصفوفه هي ضعف الوازع الديني، الذي قد يتوفر في المسلمات الجُدد اللاتي لم تكتمل لديهن حصيلة وافية من المعرفة الواعية بالإسلام». والمنسقات الداعشيات يستهدفن استقطاب المراهقات الأوروبيات حديثي العهد بالإسلام، حيث يعاني معظمهن من مشاكل أسرية، وعدم المعرفة الكافية بدينهن.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.