عودة تقليد «القَطَّة» في بعض الأحياء الشعبية في جدة

لإعادة إحياء موروثها التقليدي في زمن الحداثة

لعبة المزمار أحد مظاهر العيد
لعبة المزمار أحد مظاهر العيد
TT

عودة تقليد «القَطَّة» في بعض الأحياء الشعبية في جدة

لعبة المزمار أحد مظاهر العيد
لعبة المزمار أحد مظاهر العيد

تشتاق جدة دائما إلى نفسها، وتبحث من خلال أبنائها عن حكايات الأزقة والحواري القديمة، وما كان يدور في فلكها من أفراح وأعياد، فهي جدة القلب النابض في زمننا الحالي، وبوابة الحرمين، والثقل الاقتصادي، تعيد موروثها التقليدي في زمن التقنية والحداثة، بـ«العيدية» أو ما يُعرف بين ساكنيها بـ«القَطَّة».
جدة، التي كانت قابعة في كيلومتر واحد، وعرفت بالمنطقة التاريخية، لعمرها الذي يزيد على ثلاثة آلاف عام، وقيل إن قبيلة قضاعة استوطنتها بعد هذا التاريخ بنحو 500 عام - حسب «الروايات» - وسميت جدة نسبة إلى أحد أبناء القبيلة، وتغيرت ملامحها، واتسعت خارطتها لتصل إلى أكثر من خمسة آلاف كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكانها بنحو 3.4 مليون نسمة، أي ما يمثل 14 في المائة من عدد سكان السعودية، وما زالت تتغنى بالموروث القديم على مدار أيام العيد الثلاثة، في محاولة من سكانها لإعادة التاريخ.
وفي تفاصيل الحكاية، أن مجموعة من الشباب في عدد من الأحياء الشعبية، يقومون في العشر الأواخر من رمضان بجمع مبالغ مالية من سكان الحي تُعرف بـ«القَطَّة» أو «العيدية»، لإحياء أيام العيد الثلاثة التي اندثرت بمرور الزمن وتغير الحال، وتكون هذه العملية تحت إشراف أحد وجهاء الحي؛ حيث تكون المشاركة حسب قدرة كل فرد، ولا تكون إلزامية لبعض الأسر من ذوي الدخل المحدود. ومع هذا الحراك، يبدأ التخطيط للفعاليات، التي تنطلق بالاتفاق مع المؤسسات المختصة لتجهيز المواقع (مؤسسات لوازم الأفراح)، يليه الاتفاق مع المطبخ، لإعداد الولائم في أيام العيد الثلاثة، وبعد تجميع نصف المبلغ، يعمد القائمون على هذه التجمعات إلى الاتفاق مع الفِرَق الشعبية لإحياء الحفل، مع وضع برنامج ومسابقات خاصة للأطفال تعتمد على الموروث الشعبي في جدة.
وتشمل مسابقات الأطفال بعض الألعاب التراثية، ومنها لعبة «العصفور» التي تمارس من خلال وضع أحد الشباب في حفرة ودفنه بقليل من التراب، ثم يسأل الطرف الآخر: «معانا ولا مع القوم؟»، وإن أجاب: «مع القوم» تزاد كمية التراب المنهالة عليه حتى يقول إنه معهم، وكذلك لعبة «المعكيرة»، التي تستخدم فيها قطعة قماش تبرم حتى تصبح نحيلة، ولعبة «الضاع» وهي حجر صغير يُخبأ من قِبَل أحد الفريقين الذي لا يتجاوز عددهم خمسة أفراد في كل فريق، وإن لم يتوصل الفريق إلى الإصبع الذي يحتوي على الحجر الصغير يضرب بقطعة قماش.
ويقول عبد الإله الهاجري، أحد منظمي العيدية في الرويس، إن «الفكرة انطلقت قبل أربع سنوات، لإعادة بعض ملامح العيد في سنوات سابقة، والمتمثلة في تجمع أبناء الحي، خصوصا أولئك الذي نزحوا إلى مواقع أخرى؛ إذ تعتمد الفكرة على الالتقاء والمعايدة، وإعادة الذكريات مع كبار السن في الحي، والتعرف عن كثب على كثير من تفاصيل العيد، وما كان يمارسونه في سنوات سابقة».
ويعول مختصون في السياحة على مثل هذه الاحتفالات في الأحياء، التي تنطلق بألوان غنائية شعبية بدءا من المزمار، والينبعاوي، مرورا باللون البحري، والخبيتي، للتعريف بالكثير من الألوان والرقصات الشعبية، واستقطاب المقيمين، وحتى الزائرين من الحجاج والمعتمرين، خصوصا أن جدة تمتلك كل المقومات السياحية من المورث والمواقع التاريخية، التي جعلتها وجهة للزائرين، وهو ما ذهب إليه سلطان أحمد (منسق في شركات السياحة)، الذي أضاف أن «هذه المهرجانات والاحتفالات تلقى رواجا كبيرا من الزائرين ومرتادي جدة، خصوصا في المنطقة التاريخية المشهورة على المستويين؛ المحلي والدولي، وإذا عُرِّف بهذه المناسبات ستستقطب أعدادا كبيرة من زوار جدة، خصوصا المعتمرين الذين تتوافق مغادرتهم مع هذه الأيام»، لافتا إلى أن جدة عرفت بـ«المتحف المفتوح» لوجود قرابة 300 مجسم جمالي.
ويجتهد عدد من عمداء الأحياء، في الدفع بهذا الحراك، من خلال المشاركة، ومتابعة التفاصيل، والاتصال بكبار سكان الحي، في محاولة لإعادة الشباب إلى التمركز داخل الحي، وإحياء العيد، خصوصا في ظل خروج الشباب إلى الاستراحات، ومواقع الترفيه لقضاء ساعات طويلة خارج الحي الذي كان يغلب عليه في فترات سابقة الهدوء خلال أيام العيد.
من جهة أخرى، يرى خالد الشريف، أخصائي اجتماعي، أن «هذه الاحتفالات أو ما يعرف بـ(القَطَّة) أو (العيدية)، هي أحد العوامل المهمة لجذب الشباب إلى الحي الذي كان يعيش فترة إهمال من الجميع، لعدم وجود برامج ومواقع تحتضن الشباب الذي فضَّل الخروج للبحث عما يناسبه»، موضحا أهمية تشجيع أهالي الحي على تخصيص فترات زمنية لا تقتصر على العيد فقط في تجمع الشباب؛ مما ينعكس بالإيجاب على الحي وسكانه.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».