وزير المالية التونسي الأسبق «ينافس» بيتهوفن في مهرجان {الجم} للموسيقى السيمفونية

تنطلق فعاليته الليلة بحفل لأوركسترا أوبرا فيينا

المسرح الأثري في مدينة الجم  التونسية
المسرح الأثري في مدينة الجم التونسية
TT

وزير المالية التونسي الأسبق «ينافس» بيتهوفن في مهرجان {الجم} للموسيقى السيمفونية

المسرح الأثري في مدينة الجم  التونسية
المسرح الأثري في مدينة الجم التونسية

تتجه أنظار محبي الموسيقى السيمفونية في تونس بداية من مساء الليلة إلى مدينة الجم من محافظة المهدية الساحلية (200 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس)، وإلى مسرحها الأثري تحديدا حيث تفتتح فعاليات الدورة 29 لمهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية بحفل لأوركسترا أوبرا فيينا. وهي المرة 16 التي يؤمن فيها هذا الأوركسترا حفل افتتاح المهرجان بموجب اتفاقية تعاون بين المهرجان وجمعية الصداقة التونسية النمساوية وتتواصل.
ويحظى مهرجان الجم بشعبية واسعة.. وهو يمثل خصوصية في خارطة المهرجانات الثقافية التونسية الكثيرة التي تنتظم كل صيف في كافة أنحاء البلاد.. خصوصية صنعتها نوعية الموسيقى التي يقدمها المهرجان، كما صنعها أيضا المكان الذي يحتضن العروض وكذلك نوعية الجمهور من التونسيين والأجانب المقيمين بتونس والسياح الذين يؤمون هذه العروض.
ومن أبرز عروض هذه الدورة التي ستتواصل حتى يوم 30 أغسطس (آب) عرض السيمفونية التاسعة لبيتهوفن سيؤمنه أوركسترا ألماني بمائة عازف و60 منشد كورال درس بعضهم في المعاهد العليا للموسيقى في عدد من المدن التونسية مثل تونس وصفاقس وسوسة يوم 6 أغسطس وعرض للفنان اللبناني مارسيل خليفة مع الأوركسترا السيمفوني التونسي يوم 4 أغسطس وهو عمل تواصل الإعداد له سنة كاملة وفق منظمي المهرجان. وسترافق مارسيل خليفة الفنانة أميمة الخليل. والحفل عبارة عن صياغة سيمفونية لقصيدة «أحمد العربي» للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
كما يستضيف المهرجان يوم 23 أغسطس الأوركسترا السيمفوني للمعهد العالي للموسيقى بموسكو، وعرضين متتاليين يومي 27 و28 أغسطس لأوركسترا آخر من روسيا، في حين تقدم أوبرا الصين عرضا يوم 9 أغسطس.
أما مفاجأة المهرجان لهذه السنة فهي عرض الاختتام الذي سيقدمه جلول عياد وزير المالية الأسبق يوم 30 أغسطس. وجلول عياد تقلد منصب وزير المالية في الحكومة التونسية بعد 14 يناير (كانون الثاني) 2011 وتصاحبه يسرى زكري مغنية الأوبرا التونسية ويحمل العرض عنوان «حلم تونسي» وهو عمل أنجز خصيصا للمهرجان. وقد اكتشف التونسيون غرام جلول عياد بالموسيقى من خلال بعض البرامج التلفزيونية التونسية كما سبق له أن شارك كضيف شرف في حفل أقيم في مهرجان قرطاج الدولي بتقديم عزف على آلة البيانو. وهو لا يزال يسجل حضوره على الساحة السياسية التونسية وكان مرشحا في وقت من الأوقات لترؤس الحكومة التونسية التي عادت في النهاية إلى مهدي جمعة رئيس الحكومة الحالي.
وتجدر الإشارة أن محمد الناصر وهو من أبناء مدينة الجم ووزير سابق في عهد الحبيب بورقيبة أسس مهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية سنة 1986. وتقام عروض المهرجان في المسرح الروماني بالمدينة وهو من أبرز المعالم الأثرية ليس في تونس فحسب بل في المنطقة المتوسطية حيث ينافس من حيث الأهمية التاريخية قصر «الكوليسيوم» بالعاصمة الإيطالية روما. وقد تم إدراج قصر الجم سنة 1979 من قبل اليونيسكو على قائمة المواقع الأثرية العالمية. هو عبارة عن حلبة رئيسة تحيط بها مدارج على شكل هيكل دائري، وكان جوف هذه المدارج يستخدم كسرادب للوحوش وللأسرى. وبالهيكل فتحتان رئيسيان تؤديان إلى الحلبة. وكانت حلبة القصر تستخدم كفضاء لصراع الوحوش، ومنافسات المصارعين، ولسباق العربات. في حين كان النبلاء الرومانيون وعموم الشعب يتابعون هذه المصارعات والسباقات من المدارج المحيطة بالحلبة.
ومنذ 1986 وحلبة مسرح الجم تستقبل كل صيف أبرز فناني الموسيقى السيمفونية وموسيقى الجاز في العالم مما يضفي على مدينة الجم أجواء خاصة ومميزة طيلة أيام المهرجان. وعدا البعد الثقافي للمهرجان فقد سعت الهيئات المتعاقبة على إدارته إلى إعطائه بعدا سياحيا. وعلى مر الدورات كان السياح مكونا رئيسيا في جمهور المهرجان وقد استفاد في ذلك من قرب مدينتين سياحيتين تونسيين هامتين هما سوسة والمنستير وهما لا تبعدان كثيرا عن مدينة الجم (نحو 50 كيلومترا). وغالبا ما ينتهز عدد من السياح فرصة وجودهم بتونس لـ«اختطاف» لحظة تاريخية نادرة بحضور إحدى حفلات المهرجان في إطار أثري مميز، وهو ما يعطي لزيارتهم لتونس بعدا مختلفا حقا عن مجرد رحلة سياحية عادية. بل إن هناك من السياح من أصبح يبحث كلما سنحت له الظروف بذلك ببرمجة عطلته السنوية في تونس بالتزامن مع أيام المهرجان. كما تحضر المهرجان الجاليات الدبلوماسية والأجنبية المقيمة بتونس وخاصة الأوروبية ويقبل عليه أيضا الجمهور التونسي المحب للموسيقى الراقية. وتشهد عروض المهرجان إقبالا هاما وغالبا ما تخصص إدارة المهرجان قطارا يتجه من العاصمة نحو مدينة الجم ويعود نحو العاصمة عند نهاية العرض.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)