علامات استفهام حول توجهات «ثلاثي أميركا اللاتينية العملاق»

على خلفية انعقاد «قمة «مجموعة العشرين» في الأرجنتين

علامات استفهام حول توجهات «ثلاثي أميركا اللاتينية العملاق»
TT

علامات استفهام حول توجهات «ثلاثي أميركا اللاتينية العملاق»

علامات استفهام حول توجهات «ثلاثي أميركا اللاتينية العملاق»

قبيل منتصف الليلة الأولى من ديسمبر (كانون الأول) الحالي وقف قادة «مجموعة العشرين» يصفّقون بحماسة حول الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري، الذي كان، إلى جانب زوجته جوليانا عواضة، يذرف دموع التأثر وهو يستمع إلى الهتافات المدّوية التي كان يطلقها الراقصون والراقصات على خشبة مسرح «كولومبوس» مرددين اسم الأرجنتين التي كانت تسدل الستار على قمّة الدول العشرين التي انعقدت طوال يومين في عاصمتها بوينس آيرس.
كان ذلك هو المشهد الأخير الذي حمله معهم قادة البلدان التي تضمّ ثلثي سكّان العالم وتنتج 85 في المائة من ثرواته وتتبادل ثلاثة أرباع تجارته. تلك الدموع التي ترقرقت بها مقلتا الرئيس الأرجنتيني، والتي دفعت بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى تقبيله، وبرئيس وزراء الهند ناريندرا مودي إلى معانقته بحرارة، وبالرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى «الاحتجاج» لأن العرض المسرحي قد انتهى مبكراً، يمكن أن تختصر ما عنته تلك القمّة من مطامح وإحباطات بالنسبة إلى الأرجنتين ولمعظم بلدان أميركا الجنوبية... هذه الدول التي تجهد منذ عقود - وتتعثّر باستمرار - لتفعيل مواردها وطاقاتها وترسيخ الدور الذي يتماشى مع هذه الطاقات والموارد على الساحة الدولية.

«قمّة العشرين»، التي هي بمثابة مجلس لإدارة الكثير من الشؤون العالمية، سلّطت الضوء على التباين بين مواقف الدول الكبرى بشأن عدد من الملفّات الاقتصادية الأساسية، وبخاصة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، لكنها أكّدت جدواها كمنتدى للحوار وتنفيس الأزمات.
لم تخرج القمة التي استضافتها العاصمة الأرجنتينية بنتائج باهرة، لكن أحداً لم يكن يتوقّع لها ذلك في مثل هذه الظروف الاقتصادية والجيوسياسية التي يمرّ بها العالم. فالدول الكبرى، كما يستدّل من التاريخ القريب والبعيد، لن تبدّي القضايا الدولية على شواغلها الداخلية، ولن تقدّم تضحيات لتعزيز الاستقرار الدولي، ما لم تكن أمام مفترق اقتصادي بالغ الخطورة، كما حصل عامي 2008 و2009 عندما اتخذت «قمة العشرين» في واشنطن ولندن مجموعة من القرارات والإجراءات الجذرية لمنع انهيار النظام المالي العالمي واندلاع أزمة كساد كبرى ثانية.
بعد عشر سنوات على تلك الأزمة عاد قادة «مجموعة العشرين» للاجتماع في العاصمة الأرجنتينية وإن في ظروف مختلفة تماماً. ذلك أن المشهد الاقتصادي يواجه تحدّيات متزايدة، لكن ثمّة إجماعاً على أن هذه التحديات، من «بريكست» إلى الحرب التجارية، وارتفاع الدين العام، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وتقلبات أسعار النفط، لن تمنع استمرار النموّ في العام المقبل... ولو بمعدلات متفاوتة.
التعاون الدولي، من جهته، ما زال يحاول استيعاب الانتكاسة التي نجمت عن انكفاء الولايات المتحدة والتكيّف مع ذلك. وليس سرّاً أن شعار «أميركا أولاً» الذي رفعه الرئيس دونالد ترمب وواجه انتقادات كثيرة، يلقى تجاوباً - ولو غير معلن - لدى بعض قادة «مجموعة العشرين» المرتاحين لهذا الخطاب الذي يلقى تجاوباً سهلاً وسريعاً على الصعيد الداخلي، ويتيح هامشاً عريضاً للتنصّل من بعض الالتزامات السابقة.

- تفاؤل حيال البيان الختامي
انطلاقاً من هذا السياق، يمكن القول إن البيان الختامي للقمّة يحمل على بعض التفاؤل. أولاً، لأن القمّة خرجت ببيان وافقت عليه كل الأطراف بعكس ما ذهبت إليه توقعات كثيرة. وثانياً، لأن أهميّة بيان يصدر بالإجماع ومن غير تحفظات، تكمن في أنه يشكّل تشخيصاً مشتركاً لمجموعة من التحديات الاقتصادية العالمية، مثل مستقبل العمالة وضرورة تعزيز الاستثمار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في عام 2030، وبخاصة في مجالات الصحة والبنى التحتية والتعليم والعناية بالأطفال، ومكافحة الفساد والتصدّي لمشكلتي الهجرة واللاجئين.
ومن النتائج الواعدة لهذه القمة التي يعلّق عليها مراقبون آمالاً كبيرة، الاتفاق حول ضرورة إصلاح منظمة التجارة العالمية للحؤول دون نشوب حرب تجارية مفتوحة في الأمد الطويل يستحيل التكهّن بعواقبها. لكن هذه الخطوة دونها عقبات عدة، أبرزها الخلاف المستحكم حالياً بين الصين والولايات المتحدة والذي يجهد الاتحاد الأوروبي للتوسّط من أجل تسويته عبر فتح قنوات للحوار بين الطرفين. ويبدو أن الوساطة الأوروبية قد عقدت أولى ثمارها في بوينس آيرس، حيث عقد لقاء ثنائي بين الرئيسين الأميركي والصيني أدّى إلى إعلان هدنة مؤقتة بين العملاقين؛ إذ قبلت الولايات المتحدة بتأجيل تطبيق ضرائب بنسبة 25 في المائة على عدد كبير من السلع الصينية لفترة ثلاثة أشهر، في حين أبدت بكّين استعدادها للتجاوب منعاً لخوض حرب تجارية مع واشنطن تسعـى إلى تحاشيها بكل الوسائل.
كثيرة كانت الآمال المعقودة على منتدى «قمة العشرين» في بداياته لتعزيز النظام المتعدد الأطراف لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، لكن تطورات السنوات الأخيرة فرضت مقاربة أكثر واقعية وخفّضت منسوب التفاؤل، الذي وصل إلى مستوى الاكتفاء بانعقادها والتوافق حول الحد الأدنى من الخطوط العريضة واعتبار أن مجرّد انعقادها هو نجاح بحد ذاته. فاللقاء الذي كان منتظراً بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين نسفه الفصل الأخير على الجبهة الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، والمباحثات الثنائية بين الزعيمين الصيني والأميركي لم تكن تطمح إلى أكثر من تهدئة مؤقتة تأجيلاً لصدام تخشاه الدول الأخرى أكثر مما تخشاه بكين وواشنطن، وبخاصة بعد أحداث الأيام الأخيرة في أعقاب إقدام كندا على اعتقال المديرة المالية لشركة «هواوي» الصينية، والتطورات التي أعقبت ذلك.

- اضطرابات فرنسا
ثم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حشد كل طاقاته ليتوَّج زعيماً للجبهة المناصرة للنظام المتعدد الأطراف، سرعان ما تبخّرت أحلامه عندما فاجأته أنباء الاضطرابات والاحتجاجات العنيفة في عقر داره. وحصل هذا بينما كان الاتحاد الأوروبي لا يزال منهمكاً في إخماد الحرائق المشتعلة على جبهات عدة، من «بريكست» إلى أزمة الموازنة الإيطالية وصعود الأحزاب والقوى الشعبوية التي باتت تهزّ دعائمه من أساسها.
لكن، في أي حال، ورغم هذه الصورة القاتمة، يرى مراقبون أن القوى الاقتصادية الكبرى باتت تدرك أن مواطِن الضعف في النظام الرأسمالي تكمن في الرأسماليين، بحسب ما يؤكد راغوران راجان، الخبير الاقتصادي من جامعة شيكاغو، في كتابه «كيف ننقذ الرأسمالية من الرأسماليين» الذي تعتمده شركات عالمية كبرى ومؤسسات ومنظمات دولية متعددة الأطراف أساساً للكثير من مبادراتها وبرامجها الإنمائية. ويعتبر راجان، الذي شغل لسنوات منصب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، أن السوق الحرة هي النظام الاقتصادي الأفضل والأكثر فاعلية لتحسين ظروف العيش في المجتمعات الحديثة، لكن شريطة أن تواكبه مجموعة من البرامج والإجراءات التي توفّر المساواة في الفرص بين المواطنين وتعطي الدولة دوراً وازناً في تحديد القواعد التي تضبط السوق وتوفير البنى التحتية والخدمات الأساسية.

- «ثلاثي» أميركا اللاتينية
الأرجنتين - الدولة المستضيفة -، ومعها الدول الأخرى الكبرى في أميركا اللاتينية، مثل البرازيل والمكسيك، تدرك أن العولمة الاقتصادية هي الملعب الوحيد المتاح لتحقيق الأهداف الإنمائية التي تتماشى مع قدراتها ومواردها. وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها منذ أواخر العام الماضي، بذلت الأرجنتين جهداً استثنائياً لعقد القمة وتوفير كل الظروف الممكنة لإنجاحها، وإعطاء صورة عن دولة قادرة على مواجهة التحديات الكبرى وجديرة بثقة النظام الدولي... الذي منحها أكبر قرض في تاريخ صندوق النقد لإنقاذ نظامها المالي من انهيار كان محتوماً.
لكن قصة المتاعب المالية الأرجنتينية باتت مسلسلاً من الأزمات والمفاجآت التي تحتل موقعاً بارزاً في السجل الاقتصادي العالمي، ومصدراً للعِبَر التي يستخلصها الخبراء حول الوصفات والخطط التي ينبغي تحاشيها. والقرض الذي حصلت عليه الأرجنتين لإنقاذ نظامها المالي من الانهيار، الذي بلغت قيمته 50 مليار دولار أميركي، سيعيد البلاد إلى نقطة الصفر من حيث أعباء الديون المترتّبة عليها والتي كانت التضحيات الكبيرة التي بذلت لسدادها السبب الأساسي في تدهور الأوضاع الاجتماعية. إذ أصبح 30 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وبات مؤشر التنمية البشرية فيها يقترب من مؤشر البلدان الأفريقية، بعد أن كان في مستوى البلدان الأوروبية التي كان بعضها مديوناً للأرجنتين مطالع القرن الماضي.
ويشكّك البعض في أن هذه المساعدة الضخمة التي حصلت عليها الأرجنتين من صندوق النقد الدولي ستُخرجها من محنتها الاقتصادية بعدما فقدت عملتها نصف قيمتها منذ بداية العام الحالي، وسجّلت أسعار الفائدة على الودائع بالعملة الوطنية رقماً قياسياً عالمياً، بينما بلغت نسبة التضخّم المرتبة الخامسة في العالم. واليوم، يخشى المشكّكون أن تركّز الحكومة الأرجنتينية جهودها وإجراءاتها الاقتصادية، بعد التدابير التقشفيّة الأولى التي فرضتها شروط القرض من صندوق النقد الدولي، على الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية في العام المقبل، حين يرجّح أن تميل إلى اتخاذ إجراءات تخفف الاحتقان الشديد الذي يسود الأوساط النقابية والاجتماعية، عوضاً عن مواصلة الإصلاحات الهيكلية اللازمة لإعادة الاقتصاد إلى مسار النمو وإرساء النظام المالي على قواعد متينة تحول دون تعرّضه للاهتزاز أو الانهيار عند ظهور أزمة جديدة.

- مغامرة برازيلية خطيرة
في الحقيقة، كل أميركا اللاتينية تحبس أنفاسها أيضاً أمام الفصل الجديد في مسار البرازيل، العملاق الآخر الذي يفتح صفحة سياسية غير مسبوقة في تاريخه بعد سنوات ترنّح فيها من النمو الاقتصادي الواعد إلى فترة مديدة من الركود وتداعي المؤسسات العامة بفعل الفساد والسياسات الخاطئة.
بعد أيام يتسلّم العسكري السابق جاير بولسونارو مهامه رئيساً جديداً تنذر ولايته بتحولات جذرية في سياسة البرازيل الاقتصادية، وعلاقاتها مع دول الجوار، ودورها على الساحة الدولية. وتدل المؤشرات الأولى على أن الشعبوية المتطرفة التي أظهرها بولسونارو في حملته الانتخابية الصاخبة، لن تقابلها شعبوية في سياسته الاقتصادية التي أوكلها إلى أحد التلامذة البارزين من مدرسة شيكاغو الليبرالية. لكن ثمّة خشية كبيرة من أن تكون البرازيل على موعد قريب مع موسم جديد من الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات العمالية عندما تعلن الحكومة الجديدة عن برنامجها الاقتصادي الذي يرجّح أن يلغي برامج المساعدات للطبقات الفقيرة ويفرض مزيداً من التضحيات على الطبقة المتوسطة. وتزداد الخشية في ضوء المواقف التي أعلنها بولسونارو سابقاً حول ميله إلى إطلاق يد قوى الأمن والشرطة لمواجهة العنف والفوضى، وحنينه المتكرر المعلن إلى زمن الديكتاتورية العسكرية.
مصدر آخر للمخاوف من التصعيد في المشهد السياسي البرازيلي هو وزير العدل الجديد القاضي سيرجيو مورو، الذي كان وراء محاكمة الرئيس الأسبق لويس إيغناسيو دا سيلفا «لولا» - الخصم اللدود لبولسونارو - وزجّه في السجن ثم منعه من الترشّح للانتخابات الرئاسية. ويتوقّع مراقبون أن يصبّ مورو اهتمامه في مرحلة أولى على ملاحقة رموز وقادة حزب العمّال بتهم الفساد وسوء الإدارة من وحي الشعار الذي أطلقه المرشح بولسونارو في حملته الانتخابية عندما قال: إن «حزب العمّال سرطان لا بد من استئصاله».

- المكسيك... عكس التيار
المكسيك تفتح أيضاً صفحة سياسية جديدة، فيها من المجهول أكثر ما فيها من اليقين مع مانويل لوبيز أوبرادور اليساري الشعبوي الذي حملته إلى الرئاسة أغلبية شعبية كبيرة على متن برنامج حافل بالعناوين الكبرى والوعود الصعبة.
لن يكون من السهل على الرئيس الجديد أن يشقّ طريقه نحو تنفيذ ما وعد به من تغيير جذري وإصلاحات واسعة في ظل الموروث الثقيل من الفساد والعنف وتراجع الأداء الاقتصادي والوهن الذي تعاني منه مؤسسات الدولة. يضاف إلى ذلك، أن الرياح الجديدة التي تهبّ من الولايات المتحدة، «جارته» الشمالية الكبيرة، ستزيد من همومه ومشاغله والمفاجآت، رغم تجاوز عقبة كبيرة في الأيام الأخيرة عند التوقيع على المعاهدة التجارية الجديدة بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة على هامش اجتماعات قمة الأرجنتين في بوينس آيرس.

- «سكّري الديمقراطية»
أفاد التقرير السنوي الأخير الذي صدر عن معهد الدراسات الاستراتيجية في أميركا اللاتينية، بأن نسبة المواطنين الذين ليسوا راضين عن النظام الديمقراطي في البلدان الأميركية اللاتينية قد ارتفعت من 51 في المائة في العام الماضي إلى 71 في المائة هذا العام، في حين تراجعت نسبة الراضين من 44 في المائة إلى 24 في المائة؛ ما يفسّر «الانقلابات» الانتخابية التي شهدتها المنطقة في الفترة الأخيرة.
ويصف التقرير هذه الحالة بأنها بمثابة «سكّري الديمقراطية»، نسبة إلى مرض السكّري الذي لا تظهر عوارضه عندما يكون في طور النموّ، ولا يؤدي سريعاً إلى الوفاة، لكن يكاد يستحيل الشفاء منه بعد ظهوره. ويعزو التقرير أسباب ذلك إلى تراجع مستوى التنمية واستشراء الفساد وانعدام الثقة بالمؤسسات العامة وندرة القيادات التي تتمتع بالسلوك الديمقراطي والكفاءات اللازمة.

- إطلالة «الأرجنتينية الأولى»... وبذخها
أولت وسائل الإعلام في الأرجنتين وأميركا اللاتينية اهتماماً بالدور البارز الذي لعبته جوليانا عواضة، قرينة الرئيس الأرجنتيني، المتحدرة من أصل لبناني، وبخاصة في البرنامج الاجتماعي للقمة ومرافقة نظيراتها من قرينات رؤساء الدول الأخرى. وتوقّفت صحف عدّة عند أناقتها اللافتة وجمالها الذي غطّى، وفق كثيرين، حتى على جاذبية ميلانيا ترمب «الأميركية الأولى» التي عادة ما تخطف الأضواء في مناسبات مماثلة. لكن، في المقابل، فإن وسائل إعلام أرجنتينية انتقدت البذخ الذي رافق تحركاتها وظهورها في مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة للبلاد، وأشارت إلى أن ثلث موازنة القمة التي كلّفت الخزانة العامة 112 مليون دولار ذهب لتغطية نفقات لقاءات عواضة وبرنامج زياراتها مع ضيوفها... والهدايا الرسميّة التي اختارتها بسخاء.

- التغلغل الصيني الصامت
حذّرت دراسة نشرها مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، بالتزامن مع انعقاد قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، من سياسة «التغلغل الصامت» التي تتبعها الصين في أميركا اللاتينية منذ سنوات، والتي تختلف كليّاً عن سياسة تغلغلها في القارة الأفريقية على وقع تنفيذ مشروعات البنى التحتية والقروض الميسّرة والمساعدات المالية.
وتفيد الدراسة بأن بكين ركّزت في أميركا اللاتينية على الاستثمار في قطاعات مثل الإعلام ومؤسسات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني والفني؛ بهدف الترويج لصورة إيجابية عن الصين، واستقطاب النخب المثقّفة تمهيداً لتغلغل اقتصادي أعمق وأوسع في قارة تزخر بالمواد الأولية التي هي في أمسّ الحاجة إليها، وتشكّل سوقاً استهلاكية واسعة ذات قدرة شرائية متنامية.
وتتحدث الدراسة عن برنامج كبير لزيارات يقوم بها مفكّرون وفنّانون من أميركا اللاتينية إلى الصين بدعوة من الحكومة الصينية، يحظون خلالها بمعاملة ترقى إلى معاملة كبار الزوار.


مقالات ذات صلة

الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمته في الجلسة الثالثة لقمة دول مجموعة العشرين (واس)

السعودية تدعو إلى تبني نهج متوازن وشامل في خطط التحول بـ«قطاع الطاقة»

أكدت السعودية، الثلاثاء، أن أمن الطاقة يمثل تحدياً عالمياً وعائقاً أمام التنمية والقضاء على الفقر، مشددة على أهمية مراعاة الظروف الخاصة لكل دولة.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)
أميركا اللاتينية الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في اليوم الأخير من القمة (إ.ب.أ)

قمة الـ20 تعطي معالجة الفقر والمناخ زخماً... لكنها منقسمة حول حروب الشرق الأوسط وأوكرانيا وترمب

نجحت البرازيل بصفتها الدولة المضيفة في إدراج أولويات رئيسية من رئاستها في الوثيقة النهائية لقمة العشرين بما في ذلك مكافحة الجوع وتغير المناخ.

أميركا اللاتينية الجلسة الافتتاحية لقمة «مجموعة العشرين» في ريو دي جانيرو الاثنين (أ.ف.ب)

إطلاق «التحالف العالمي ضد الجوع» في «قمة الـ20»

أطلق الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، «التحالف العالمي ضد الجوع والفقر»، وذلك خلال افتتاحه في مدينة ريو دي جانيرو، أمس، قمة «مجموعة العشرين».

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو )
العالم لقطة جماعية لقادة الدول العشرين قبيل ختام القمّة التي عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية (إ.ب.أ)

«قمة العشرين» تدعو لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان

أعلنت دول مجموعة العشرين في بيان مشترك صدر، في ختام قمّة عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية أنّها «متّحدة في دعم وقف لإطلاق النار» في كل من غزة ولبنان.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس
TT

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة الأحد الماضي، قد خسر معركة داخلية للسيطرة على الحزب أمام أنجيلا ميركل في عام 2002، بعدما تمكنت من تحييده والاستيلاء على زعامة الحزب. وانسحب ميرتس كلياً من السياسة عام 2009 ليعود بعد نهاية «حقبة ميركل» التي طالت حتى عام 2021. إلا أنه حتى عودته تلك لم تكن سهلة؛ ذلك أنه حاول الفوز بالزعامة 3 مرات، ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة بعد فشل الزعيمين السابقين اللذين فضلهما الحزب، آنغريته كرامب كرامباور وآرمين لاشيت، اللذين كانا مقرّبين من ميركل وينتميان لجناحها في الحزب. ولكن في عام 2022، نجح ميرتس أخيراً في كسب أصوات المندوبين للوصول في النهاية إلى مقر المستشارية وهو في سن السبعين. قصة ميرتس داخل حزبه تعكس شخصيته التي تثير انقسامات كبيرة، ليس فقط داخل حزبه، بل أيضاً على المستوى الوطني. فتحالفه مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» لتمرير اقتراح داخل البرلمان عارضته كل الأحزاب الأخرى - ولم ينجح إلا جزئياً بسبب دعم الحزب اليميني المتطرف - أثار انقسامات كبيرة في ألمانيا، وكاد يكلفه طموحه الذي انتظر عقدين لتحقيقه. أما الآن وقد فاز حزبه بالانتخابات، ووقعت عليه مهمة تشكيل الحكومة الألمانية المقبلة، فسيتوجّب على الرجل الذي أمضى فترة «تقاعده» السياسي في عالم الأعمال، أن يقود ألمانيا التي تواجه تحديات كثيرة خلال الأشهر والسنوات الآتية.

يوصف فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المكلّف، أحياناً بأنه «شعبوي» ويغازل قاعدة اليمين المتطرف. وهو صاحب عبارات اشتهرت وأثارت انتقادات كبيرة، بل رُميت أحياناً بـ«العنصرية»، كوصفه مرة طلاب مدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشاوات صغار»، أو زعمه أن اللاجئين يأتون إلى ألمانيا لـ«إجراء عمليات تجميل لأسنانهم في حين أن الألمان عاجزون عن حجز مواعيد لدى أطباء الأسنان» (ادعاء نفته نقابة أطباء الأسنان التي قالت إن التأمين لا يغطي إلا العمليات الضرورية وليس التجميلية)، أو وصفه اللاجئين الأوكران الذين أتوا إلى ألمانيا في بداية الحرب مع روسيا بأنهم «لاجئون سيّاح»، قاصداً أنهم يأتون للاستفادة من التسهيلات المالية التي تقدمها لهم السلطات الألمانية.

فكر محافظ صريح

ميرتس هو أيضاً صاحب عبارة: «الثقافة الألمانية الطاغية» التي روّج لها منذ قبل «تقاعده الإجباري» المؤقت من البرلمان الذي دفعه إليه عصر ميركل. وبذلك كان يتعمّد انتقاد التعددية الثقافية التي لا يعتبرها «ألمانية»، مكرّراً «ضرورة» أن يتقبّل المهاجرون في ألمانيا «الثقافة الطاغية».

وفي صيف 2023، بعد انتخابه أخيراً زعيماً للديمقراطيين المسيحيين، وقف ميرتس أمام مجموعة من سكان غيلاموس، وهي بلدة صغيرة في ولاية بافاريا، قائلاً: «كرويتسبيرغ ليست ألمانيا. غيلاموس هي ألمانيا»، أمام هتافات الحاضرين وتصفيقهم. وللعلم، كرويتسبيرغ منطقة في برلين معروفة بتنوعها الثقافي، وتُعدّ معقل الجالية التركية في العاصمة الألمانية.

وأخيراً، في مطلع العام، قبل أسابيع من الانتخابات، كسر ميرتس قاعدة ذهبية تعتمدها الأحزاب الألمانية منذ هزيمة النازيين خوفاً من صعود اليمين المتطرف مرة جديدة ومنعاً لتكرار التاريخ... وهذه القاعدة غير المكتوبة تنص على رفض التعاون مع أحزاب يمينية متطرفة، في ما يُعرف ألمانيّاً بـ«جدار الحماية».

تشديد قوانين الهجرة

وفي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، إثر تكرار الهجمات التي نفّذها لاجئون أفغان أو سوريون، خرج ميرتس غاضباً ليعلن طرحه اقتراحاً أمام البرلمان لتشديد قوانين الهجرة. ومع أن الاقتراح لم يكن مُلزماً للحكومة، قرّر ميرتس المضي بطرحه رغم اعتراض الأحزاب التقليدية عليه لمخالفته عدداً من القوانين الأوروبية، بحسب منظمات حكومية، مثل إغلاق الحدود مع «دول الشنغن»، ووقف استقبال اللاجئين غير الشرعيين. وأيضاً أصرّ ميرتس على طرح الاقتراح في «البوندستاغ» مع أن الحزب الكبير الوحيد الذي دعمه كان «البديل من أجل ألمانيا».

وحقاً، مرّ جزء من الاقتراح بفضل أصوات الحزب المتطرّف؛ ما أثار موجة من المظاهرات خرج فيها مئات الآلاف يصفون ميرتس بـ«الخائن». ومع إثارة ميرتس انقسامات داخل حزبه، توالت الدعوات من الأحزاب الأخرى له للانسحاب من السباق لمنصب المستشارية؛ لأنه «ما عاد مناسباً لقيادة ألمانيا». لكن الزعيم المحافظ سارع لاحتواء الأزمة والتعهد بأنه لن يتحالف مع «البديل» في حال فوز حزبه بالانتخابات. ورغم احتلال الحزب المتطرّف المرتبة الثانية في الانتخابات بـ20 في المائة من الأصوات ومضاعفته عدد مقاعده البرلمانية، رفض ميرتس الدخول في مباحثات لتشكيل الحكومة معه. واختار بدلاً منه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الذي حلّ ثالثاً بـ15 في المائة من الأصوات.

أهمية الملفات الدولية

وبسرعة بدا واضحاً، بعد فوز الديمقراطيين المسيحيين، أن زعيمهم الجديد يعي أهمية الملفات الدولية التي تنتظره؛ فهو قبل أن يبدأ المشاورات الرسمية لتشكيل حكومته، سافر إلى باريس في زيارة غير رسمية للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتناول العشاء معه لمناقشة ملفات لم يكشف عنها أي من الطرفين. وجاء اللقاء بُعيد عودة ماكرون من واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبدا الاختلاف بينهما واضحاً حول التعاطي مع أوكرانيا.

ومع أن ميرتس من كبار مؤيدي «العلاقات عبر الأطلسية» والمروّجين لها، فإنه بدا متشكِّكاً في الأيام الماضية من إنقاذ العلاقة المتغيّرة. وهو انضم بعد مغادرته البرلمان عام 2009 إلى «أتلانتيك بروكيه» (أو الجسر الأطلسي)، وهي جماعة ضغط تروّج للعلاقات عبر الأطلسية.

نظرة إلى سيرته

ميرتس الآتي من عالم القانون؛ إذ درس المحاماة في جامعة بون، انخرط في عالم الأعمال خلال السنوات التي ابتعد فيها عن السياسة. وعمل في شركة «بلاك روك» الأميركية، وجنى ثروة من جلوسه كذلك في مجالس إدارة عدة شركات ومصارف، بل اعتقد كثيرون أن خلفية ميرتس هذه قد تقرّبه من ترمب الآتي من خلفية مشابهة؛ فهو رجل أعمال ثري يملك حتى طائرته الخاصة التي يقودها بنفسه أحياناً؛ كونه طياراً هاوياً تدرب على الطيران خلال السنوات الماضية، ثم إن أفكاره المحافظة حول الهجرة والإجهاض مثلاً، وأفكاره الليبرالية حول السوق، قريبة جداً من أفكار الجمهوريين؛ ما عزز توقعات اقترابه فكرياً من الرئيس الأميركي.

ويُذكر أنه رغم انتقاد كثيرين مهاجمة مؤيدي ترمب مقر الكونغرس بعد فوز الرئيس السابق جو بايدن، ظل ميرتس مؤمناً حتى بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض بأنه يمكن ترميم العلاقات المتدهورة مع واشنطن. ولكن خطابه إزاء واشنطن بدأ يتغيّر بعد كلمة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في ميونيخ، وبدا وكأنه يُعدّ لعلاقة صعبة أساسها التركيز على تشكيل وبناء تحالفات أوروبية قوية. وبالفعل، انتقد ميرتس فانس لدعوة الأخير للأحزاب الألمانية إلى التعاون مع حزب «البديل»، مشدداً على أن هذا شأن داخلي.

بين روسيا وأوكرانيا

وكذلك، لم يتردّد ميرتس في انتقاد ترمب شخصياً بعد وصف الأخير للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ إذ اعتبر كلام ترمب «عكساً كلاسيكياً لرواية الجاني والضحية»، مضيفاً أن بوتين يصوّر الأمر بهذه الطريقة منذ سنوات، وأنه يشعر بـ«الصدمة» من استخدام ترمب الرواية نفسها اليوم.

ميرتس يُحسب من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا، وكان يحثّ الحكومة الألمانية طوال السنوات الماضية على إظهار دعم أقوى لكييف، ودأب على انتقاد سلفه المستشار الاشتراكي أولاف شولتس لـ«تردده المتكرّر» في تزويد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية التي كانت تطالب بها... وأكثر من هذا، ترك الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأيضاً، يؤيد ميرتس زيادة الإنفاق العسكري لفوق 2 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما تنفقه ألمانيا حالياً في تحوّل منذ الحرب في أوكرانيا. وفي إشارة إلى أن هذا الأمر أولوية بالنسبة له، عقد ميرتس لقاء مع شولتس بعد يوم على الانتخابات لمناقشة زيادة الإنفاق العسكري قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وفق وسائل إعلام ألمانية. ومعلوم أن تشكيل الحكومة قد يستغرق شهرين على الأقل.

كذلك قد يكون ميرتس ناقش مع ماكرون أيضاً مسألة الضمانات العسكرية التي يمكن لأوروبا أن تقدّمها، وبخاصة أنه يؤيد طرح الرئيس الفرنسي حول إنشاء جيش أوروبي قوي، وهو ما يطالب به الرئيس الأوكراني أيضاً.

وعليه، فهنا يعتبر ميرتس «أوروبياً» بامتياز، مع أنه لا يؤيد السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، مفضلاً تشديدها، حتى إنه يروّج لخطوات تعتبر غير قانونية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إغلاق الحدود، ووقف استقبال طالبي اللجوء.

تحدّيات مستقبلية صعبة

من ناحية أخرى، فرغم تعهّد ميرتس بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة، فإنه ربما يواجه عراقيل قانونية تمنعه من ذلك، وقد يرفض «شركاؤه» الاشتراكيون التوقيع على بيان حكومي يتعهد باتخاذ إجراءات مشددة، كإغلاق الحدود وغيره. لكن المستشار المكلّف يعي أيضاً أنه سيكون عليه التعامل بجدّية مع مسألة الهجرة - التي كانت في طليعة اهتمامات الناخبين – من أجل الحد من شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» التي تضاعفت على المستوى الوطني خلال 4 سنوات، بشكل أساسي، بسبب الهجرة.

وفي مقابلة قبل أيام، حذّر ميرتس من أن زيادة شعبية الحزب المتطرف هي «الإنذار الأخير» لنا. وللتذكير، كان الرجل نفسه من أشد منتقدي ميركل حين قررت السماح لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا عام 2015، وحمّلها في السنوات التي تلت مسؤولية صعود حزب «البديل».

في أي حال، الحزب المحافظ الذي قادته ميركل طوال 20 سنة، يبدو الآن مختلفاً كلياً تحت قيادة فريدريش ميرتس، مع أن القائد الجديد نفسه لم يتغيّر أو يغيّر الكثير من أفكاره منذ «تقاعده» قبل أكثر من 16 سنة؛ فهو لا يخالف ميركل في مسألة الهجرة فحسب، بل تراه يؤيد أيضاً إبقاء العمل بالمفاعلات النووية التي كانت ميركل قد قرّرت إغلاقها بعد حادثة فوكوشيما للتسرّب الإشعاعي عام 2011. وهو كان أيضاً من منتقدي توسيع مشروع «نورد ستريم» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان يدعو إلى إيقاف المشروع حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا.