«الشرق الأوسط» ترصد أبرز منابع الهجرة الأفريقية نحو «الفردوس الأوروبي»

«تجارة الموت» تحصد آلاف القتلى يومياً وضحاياها من المغرب وتونس والجزائر وليبيا ... والقارة السمراء

عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
TT

«الشرق الأوسط» ترصد أبرز منابع الهجرة الأفريقية نحو «الفردوس الأوروبي»

عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)

كل يوم تقريباً، يموت مهاجرون أفارقة خلال محاولة التسلل عبر الأسلاك الشائكة، في حين يموت آخرون غرقاً عند ركوبهم البحر، وكلهم أمل في الوصول الى الضفة الغربية، التي يرون فيها وسيلتهم الوحيدة للهرب من الفقر، والبطالة، وذل الاحتياج.
وقبل أيام فقط، دقت منظمات متخصصة، وعلى رأسها المنظمة الدولية للهجرة، ناقوس الخطر بخصوص تنامي الظاهرة، دون أن تحدد بشكل صريح المسؤولين عن حدوث هذه الفظاعات. لكن بعض المتخصصين في قضايا الهجرة يجمعون على أن المسؤول الأول عن الفظاعات المهولة التي يتعرض لها المهاجرون الأفارقة في عرض البحر المتوسط هي عصابات تهريب البشر، وتقاعس بعض الحكومات عن أداء دورها لحمايتهم.
من الكاميرون، والنيجر، والسينغال ودول أخرى، تبدأ رحلة سفر هؤلاء المهاجرين نحو المجهول... رحلة غالباً ما تكون برية طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر، حيث يسقط بعضهم في أيدي عصابات متخصصة تستولي على أموالهم، وتعنّفهم وتقتلهم في بعض الأحيان، ومنهم من تتخلى عصابات تهجير البشر عنهم وسط الصحاري بعد الاستيلاء على كل ما يملكون من أموال وزاد ليموتوا جوعاً وعطشاً. أما القلة القليلة التي تتمكن من الوصول إلى المغرب أو تونس أو ليبيا أو الجزائر، فغالباً ما ينتهي بها المطاف في أعمال السخرة، وفي ظروف قاسية أشبه ما تكون بالعبودية، حيث يتم استغلالهم في أعمال البناء والزراعة والأشغال المضنية، مقابل مبالغ زهيدة لا تضمن حتى الحد الأدنى من العيش اللائق. وعندما يتمكنون في آخر المطاف من توفير بعض المال لضمان مقعدهم داخل أحد «مراكب الموت»، المتجهة إلى أوروبا يكتشفون، بعد فوات الأوان، أنهم وقعوا ضحية عملية نصب واحتيال، وأن قائد المركب انتقل بهم من وجهة بحرية إلى أخرى، لكن داخل البلد نفسه.
«الشرق الأوسط» انتقلت إلى أماكن عيش هؤلاء المهاجرين في تونس، والمغرب، والجزائر، وليبيا، ومصر، ورصدت ظروف عيشهم، ومعاناتهم اليومية، وأسباب هربهم من بلدهم، وحاورت متخصصين ومسؤولين في مجال الهجرة غير الشرعية، وخرجت بالتحقيق التالي:

طريق المهاجرين عبر ليبيا... رحلة شقاء مصيرها الموت

ليبيا

القاهرة: جمال جوهر

أبقت الأوضاع الإنسانية السيئة لمهاجري سفينة «نيفين»، التي اقتحمتها السلطات الأمنية الليبية قبالة ساحل مدينة مصراتة (شمال غربي البلاد)، منتصف الأسبوع الماضي، الباب مفتوحاً حول طبيعة تدفق أفواج المهاجرين غير النظاميين القادمين إلى ليبيا، وزادت من حدة التساؤلات عن المسارات التي يسلكها آلاف القادمين من دول أفريقية وآسيوية، أملاً في الانتقال إلى «جنة أوروبا الموعودة».
وتعكس حياة 79 مهاجراً، كانوا على السفينة التي تحمل علم بنما، وتم إنزالهم بـ«القوة»، أوضاعاً إنسانية «بالغة الصعوبة»، وتكشف المعاناة التي عاشوها لدخول ليبيا، إلى أن استقر بهم المقام حالياً في مركز إيواء مصراتة بمنطقة الكراريم، انتظاراً لترحليهم من قبل السلطات الليبية إلى بلدانهم مرة ثانية، الأمر الذي يصفه محمود علي الطوير، المستشار بالأكاديمية العربية الأوروبية للدراسات الاستراتيجية في حديث إلى «الشرق الأوسط» بـ«الرحلة القاتلة... الفائز الأول فيها عصابات التهريب».
وقال المواطن الصومالي ترويجي أحمد، أحد المحتجزين لدى مركز إيواء في مدينة جنزور، إنه «ترك وراءه أسرة كبيرة في بلاده، وجاء إلى ليبيا بهدف العمل حتى يتمكن من الهجرة إلى أوروبا»، مؤكدا أنه أنفق مالاً كثيراً لوسطاء نظير نقله عبر الحدود الليبية.
ومضى ترويجي يقول، وفقاً لمصدر أمني «دفعت 10 آلاف دينار ليبي أخرى إلى بعض الأفراد كي يساعدوني في الانتقال إلى الساحل، لكن قبل الوصول إلى هناك قبض علي مع عشرة آخرين».
وحكاية المواطن الصومالي وغيره من المهاجرين من جنسيات مختلفة، أكدها العقيد عبد السلام عليوان، مدير إدارة الفروع بجهاز الهجرة غير الشرعية، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بقوله إن «الأوضاع المعيشية الصعبة بالقرن الأفريقي باتت تدفع آلاف المهاجرين لترك بلادهم، بحثاً عن جنة أوروبا كما يتوهمون... لكن للأسف يقعون فريسة لعصابات التهريب»، متابعاً «نحن في ليبيا نتضرر كثيراً من هذه الأفواج التي لا تنقطع».
وتقول المنظمة الدولية للهجرة إنه مع قرب انتهاء العام الحالي وصل أكثر من 22541 مهاجراً إلى إيطاليا بحراً منذ يناير (كانون الثاني). لكن ما زال كثير من المهاجرين يلقون حتفهم في حوادث غرق زوارق مطاطية غير آمنة تحمل عدداً أكبر من حمولتها. كما أوضحت المنظمة أن 1277 مهاجراً غرقوا في البحر المتوسط هذا العام حتى الآن، مقارنة بـ2786 في نفس الفترة من العام الماضي.
ويعبر آلاف الحالمين بـ«الجنة الموعودة» إلى الحدود الليبية، عبر سبعة مسارات، كما يقول الطوير الذي يوضح أن «الهجرة غير الشرعية إلى ليبيا تنطلق من دول أفريقيا وشرق آسيا، بالإضافة إلى بعض دول المغرب العربي... أحيانا تكون طرق دخولهم إلى الأراضي الليبية بشكل قانوني، عبر المنافذ والمعابر الشرعية. لكن بعد استقرارهم في ليبيا، يبدأون في التخطيط والبحث عن طرق لتهريبهم عبر البحر».
وكانت قوات الشرطة، التابعة لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، قد استخدمت الرصاص المطاطي لإجبار 79 مهاجراً من السودان وجنوب السودان، والصومال، وباكستان، وبنغلاديش، وإثيوبيا، على إخلاء سفينة «نيفين»، الأسبوع الماضي، بعد فشل مفاوضات أجرتها معهم البعثة الأممية لدى ليبيا، وأودعوا مركز إيواء بمصراتة لحين تسفيرهم إلى دولهم.
وأنقذت السفينة (نيفين) هؤلاء المهاجرين، وغيرهم، قبالة الساحل الليبي، بينما كان قاربهم على وشك الغرق، ونقلتهم إلى ميناء مصراتة. ولدى وصولها نزل 14 منهم طواعية. لكن الباقين (92 منهم) رفضوا النزول من السفينة. وقال مصدر أمني إن عدداً من هؤلاء المهاجرين قضوا سنوات في السجون الليبية، لأسباب مختلفة، مشيراً إلى أن «الأوضاع الإنسانية السيئة التي يعيشونها في بلدانهم تدفعهم للمخاطرة بالهجرة إلى أوروبا، وترغمهم على التعامل مع عصابات الاتجار في البشر، ودفع أموال كثيرة».
وأضاف المصدر، الذي رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث إلى الإعلام: «عندما يتم إخضاع هؤلاء المهاجرين إلى جهات التحقيق نكتشف أن أوضاعهم غير الإنسانية في بلادهم صعبة للغاية... وتبقى ليبيا هي الضحية لأنها دولة عبور، وليست طرفاً في هذه أزمة المهاجرين».
وذهب المصدر ذاته إلى أن كثيرين من المهاجرين، الذين يتمكنون من دخول البلاد عبر عصابات التهريب، ينخرطون في أعمال المعمار والمقاولات، أو العمل في المزارع، وبعد تجميعهم ما يلزم من مصاريف نقلهم إلى أوروبا، ينقطعون عن العمل. وتابع موضحا «نعثر على جثث بعضهم غرقى بعد انتشالها من البحر المتوسط، وآخرون يتم إدخالهم مراكز الإيواء، ومن يهرب منهم يبدأ مشوار التفكير في الهجرة عبر البحر مجدداً».
ويضيف الطوير، المستشار بالأكاديمية العربية الأوروبية، أن «هناك مهاجرين يدخلون ليبيا عبر الصحراء على مراحل عدة. وغالبا تكون الفئات العمرية من الشباب المغامرين بحياتهم لأجل البحث عن حياة أفضل وبحسب أحلامهم».
كما كشف الطوير أن «أغلب أفواج المهاجرين عبر الحدود تتمركز لدى عصابات تجار البشر في الصحراء الشاسعة»، لافتاً إلى أنه جرت تحقيقات لمكتب النائب العام الليبي مؤخراً حول أماكن تجميع هؤلاء المهاجرين، وهي جنوب العاصمة طرابلس في منطقة الشويرف، وبني وليد.
ورأى الطوير في ختام حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن أماكن تجميع هؤلاء المهاجرين تقتصر على المدن والبلدات المهمشة، التي تفتقد إلى الأمن، مما يجعل عصابات التهريب تتحكم هناك وتسود.
وسبق للتقرير الأخير لفريق خبراء الأمم المتحدة اتهام لواء «سبل السلام»، التابع للجيش الليبي بمكافحة الاتجار على الحدود بين ليبيا والسودان، بالتورط في عملية تهريب المهاجرين. وقال فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة في تقريره إلى رئيس مجلس الأمن إن «لواء سبل السلام يوفر الحراسة لقوافل المهاجرين من الحدود مع السودان، مقابل عشرة آلاف دينار ليبي لكل شاحنة صغيرة، كما يحتجز اللواء المهاجرين لابتزازهم».
ونقل الفريق الأممي عن محمد عبد الفضيل، رئيس مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بالكفرة وجود «سبعة مسارات للهجرة من تشاد والسودان إلى ليبيا عبر أوروبا ومصر»، لافتاً إلى أن «الميليشيات المسلحة تعد جهات فاعلة في شبكات التهريب عبر حماية قوافل المهاجرين، خاصة عبر الكفرة وتازربو وبني وليد».
وانتهى مدير مركز الاحتجاز إلى أن «ما بين 800 و1000 مهاجر يدفعون ما مجمله نحو خمسة آلاف دولار يومياً»، مبرزا أن «الهجرة غير النظامية تؤجج الفوضى في ليبيا».

عائلات تبكي أبناءها بعد ركوبهم «قوارب الموت» لملاقاة «الحلم الأوروبي»

الجزائر

الجزائر: بوعلام غمراسة

أصبحت عين تيموشنت (300 كيلومتر غرب العاصمة الجزائرية)، التي زارتها «الشرق الأوسط»، من أكثر المناطق تصديراً لـ«الحراقة» (المهاجرون غير الشرعيين) خلال السنوات الأخيرة. وفيها تبكي عدة أمهات أبناءهن الذين غادروا المنطقة منذ سنوات دون أن يظهر عنهم أي خبر، فيما اتصل آخرون بذويهم لإعلامهم بأنهم تمكنوا من الوصول إلى إسبانيا أو فرنسا.
وفي اتصال مع أحد هؤلاء «الحراقة» في حي بارباس روششوار الباريسي، الذي بات يشتهر بأنه مأوى للمهاجرين الجزائريين غير الشرعيين، قال: «ركبت القارب من بلدة بوزجار (مستغانم) ودامت الرحلة 24 ساعة، قبل أن أصل إلى إسبانيا ومنها سافرت إلى فرنسا. لا تصدقوا من يقول لكم إننا نعاني الفقر في أوروبا. فنحن نشتغل من حين لآخر، ونوفر ما يلزمنا من مأكل وملبس وحتى تأجير شقق مشتركة فيما بيننا، وفي كل الأحوال حالنا أفضل مما كنا عليه في الجزائر».
وفي بدلس، كبرى مدن ولاية بومرداس (شرق) الساحلية، التقينا عائلة كشاش التي تعيش قلقا بالغا منذ أن غادر طفلاها كريم وعبد الجليل البيت راكبين «قارب الموت»، برفقة 5 آخرين من أبناء دلس.
«كان ذلك قبل عام، وقد اتصل بنا شخص من إسبانيا يقول إنه جزائري، وإنه التقى كريم وعبد الجليل هناك وإنهما يعملان»، بحسب رواية والديهما الذي أضاف بنبرة متشككة: «لكني لا أصدق ما سمعته، فلو كانا بخير لاتصل بي أحدهما بنفسه».
وقبل أيام قليلة أعلن في الجزائر عن العثور على جثتي غريقين في البحر المتوسط، بالقرب من سواحل إيطاليا، وتم التأكد من أن الأمر يتعلق بشابين من 10 مهاجرين سريين، غادروا الجزائر منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، طمعا في عيش أفضل في أوروبا. لكن هذه القصص المأساوية لا تعد حالات معزولة؛ إذ تشهد عدة مدن ساحلية جزائرية هجرة العشرات يوميا، عبر قوارب تقليدية كثير منها تتعطل محركاتها في منتصف الطريق.
ويتحدر الشباب العشرة من حي الريس حميدو بالضاحية الغربية للعاصمة، واتفقوا مع مالك قارب تقليدي بعنابة (600 كلم شرق العاصمة)، على «الإبحار» من هذه المدينة الأقرب إلى جزيرة سردينيا قياسا إلى العاصمة.
وقال أفراد من عوائلهم في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إنهم ظلوا من دون أخبار عن مصيرهم لأيام، قبل أن تصل إليهم معلومات بأن محرك القارب الذي حملهم توقف بسبب عطب، عند اقترابه من سردينيا. ولما عجز صاحب القارب عن إعادة تشغيل المحرك، قفز 5 من المهاجرين إلى البحر لإكمال الرحلة سباحة، حسب شقيق مهاجر مفقود كان تحدث بحرقة لـ«الشرق الأوسط»... «صراحة لا نعرف إن كانوا وصلوا إلى الساحل، كما لا نعرف ما جرى لمن بقوا في القارب... يجب أن ننتظر نتائج البحث التي بدأها خفر السواحل الإيطالي، ولكني بصراحة لست متفائلا بشأن العثور عليهم أحياء، فقد شهدنا مثل هذه الحوادث عدة مرات في السنوات الماضية، ونادرا ما عاد مهاجرون سالمين، في حال تعطل القارب في الطريق».
وتتراوح أعمار «الحراقة» العشرة بين 26 و35 سنة، وخططوا للهجرة السرية من دون إبلاغ أي من أفراد عائلاتهم، ما عدا أم عبد الفتاح التي كانت على دراية بالمشروع، والتي قالت وهي تشعر بقلق بالغ على ابنها: «لقد صارحني بأنه جمع مبلغا من المال يسمح له بقطع البحر. حاولت ثنيه لكني عجزت، فقد تحجج بفقدان الأمل في الجزائر، وبأن مساعيه للبحث عن عمل استمرت لعشر سنوات دون جدوى، ونتيجة لذلك وجدت نفسي شبه مقتنعة بأن أوروبا هي خلاصه، رغم أنني كنت أسمع بهلاك شباب في مقتبل العمر في عرض البحر، وهم يحاولون اللحاق بالضفة الشمالية».
وقال محمد الناشط بـ«الهلال الأحمر» الجزائري، إن رفاقا للمهاجرين العشرة من الحي نفسه، شجعوهم على الهجرة، بعد أن سلكوا الطريق نفسها ووصلوا إلى أوروبا بسلام، وقد تحدثوا إليهم من إيطاليا عبر «سكايب».
وأفاد محمد بأن تكاليف حجز مكان في قارب الهجرة، تصل إلى 300 ألف دينار جزائري (نحو 2700 دولار أميركي)، حسب شهادة أشخاص خاضوا التجربة المريرة، وقد ترتفع القيمة في فصل الصيف لأن البحر يكون هادئا، وبالتالي تكون مخاطر الرحلة أقل. وفي معرض حديثه عن دوافع هؤلاء الشبان للهجرة وبلوغ «الحلم الأوروبي»، يقول أستاذ علم الاجتماع ناصر جابي: «هجرة الشباب بكثرة، وفي ظروف محفوفة بالمخاطر، تعكس واقعا لا يمكن إخفاؤه، وهو أنه لم يعد هناك حلم جزائري يدفع الشباب إلى البقاء في البلاد. وهي دليل على فشل سياسات النظام الحالي الذي شجع كل فئات المجتمع على التفكير في الهجرة... الفقير يركب القوارب، والمتعلم يطلب تأشيرة السفر للدراسة في الخارج، وحتى المسؤول الكبير يفضل الهروب بعد تحويل أمواله وشراء عقارات في الخارج».

المهاجرون الأفارقة في المغرب: مسار شاق باتجاه «القارة العجوز»

المغرب

الرباط: لطيفة العروسني الدار البيضاء: لحسن مقنع

تنقذ وحدات خفر السواحل التابعة للبحرية الملكية في المغرب، بشكل شبه يومي، مهاجرين سريين أغلبهم من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، من الغرق في عرض سواحل مدن الناظور، والحسيمة، والفنيدق، وطنجة (شمال البلاد)، في حين يلاقي المئات حتفهم غرقاً وهم يحاولون عبور المتوسط نحو أوروبا.
وخلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مشهد غير مألوف، فيديوهات تصور عمليات الهجرة السرية، صوّرها المهاجرون أنفسهم بهواتفهم المحمولة، وهم في عرض البحر على متن قوارب تكدس فوقها العشرات. وبذلك، لم تعد «رحلات الموت» سرية، بل موثقة وكأن الأمر لا يتعلق بمخاطرة بالحياة، بل بنزهة بحرية؛ وهو ما أثار علامات استفهام كثيرة، وأعاد إلى الواجهة الحديث عن ظاهرة «قوارب الموت» التي كانت قد تراجعت بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية.
وقال محمد بن عيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، لـ«الشرق الأوسط»: إن «المغرب بلد عبور مهم للمهاجرين المتحدرين من دول جنوب الصحراء، الذين يعتبرون الحدود المغربية - الجزائرية المنفذ الرئيسي لهم نحو المغرب، والذين تزايد عددهم منذ اعتماد المغرب سياسة جديدة في مجال الهجرة تنطلق من البعد الإنساني، والتي عملت من خلالها على تسوية وضعية عشرات الآلاف من المهاجرين للإقامة بالمغرب... وهو ما أدى إلى تصاعد عددهم بشكل كبير، وبالتالي خلق ضغطاً على الحدود الشمالية، مع ظهور حالات معدودة للاجئين من دول الشرق الأوسط وآسيا».
يتخذ المهاجرون السريون الغابات الموجودة قرب المدن الساحلية القريبة من مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ملجأً لهم، في انتظار فرصة العبور إلى أوروبا، ويعيشون هناك لأشهر في ظروف تصفها الجمعيات الحقوقية بأنها مأساوية وغير إنسانية. كما يوجد عدد كبير من المهاجرين في المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء.
ويتصدر السنغاليون قائمة الجنسيات التي تعيش في الغابات المجاورة لسبتة بـ50 في المائة، متبوعين بالغينيين بـ22 في المائة، ثم الغامبيين بـ10 في المائة، والماليين بالنسبة نفسها، ومن كوت ديفوار بـ5 في المائة، وأخيراً الكاميرونيون بـ3 في المائة.
لكن رحلات الموت هذه لا تقتصر على المهاجرين الأفارقة فحسب، بل تشمل أيضاً أفواجاً كثيرة من الشباب المغربي الراغب في معانقة الضفة الأخرى، بعدما ظهرت قوارب سريعة لتجار المخدرات تنقل المهاجرين مقابل مبالغ مالية كبيرة، وأغلب هؤلاء الشباب تتراوح أعمارهم بين 13 و30 سنة، يمثلون مختلف مدن المغرب.

حملات ترحيل المهاجرين

في هذا الصدد، يقول عمر الناجي، مسؤول فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الناظور: إن حملات ترحيل المهاجرين تضاعفت بعد أواخر يونيو (حزيران) 2018، وتوسعت لتشمل مدينتي طنجة وتطوان ومناطق أخرى من الشمال؛ حيث بلغ عدد المرحلين، حسب تقديرات المتتبعين وجمعيات المهاجرين، أكثر من 6500 شخص.
لكن الجمعية انتقدت «السياسة الأمنية الأوروبية، التي تستمر في ممارسة الضغط على الدول الأفريقية، بالخصوص، لمنع المهاجرين من الوصول لأوروبا، وتعقيد شروط تحقيق ذلك»، على اعتبار أن «الهجرة حق مشروع تضمنه كثير من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولا سبيل لتجريم الحق في التنقل».
ومنذ يوليو (تموز) الماضي قامت السلطات المغربية بترحيل مئات المهاجرين الأفارقة من المناطق الساحلية للمتوسط إلى داخل وجنوب البلاد. وحسب مصدر أمني، فإن هذه الحملة استهدفت الأفارقة، الذين لا يتوفرون على بطاقة إقامة في المغرب. إضافة إلى الأفارقة الذين حصلوا على بطاقات الإقامة في مدن أخرى كالدار البيضاء والرباط وأغادير، والذين تنقلوا إلى المدن الشمالية على الساحل الأطلسي بهدف تحيّن فرص العبور إلى أوروبا. مشيراً إلى أن الكثير منهم أصبحوا يعيشون ظروفاً صعبة في ضواحي الناظور وطنجة، في انتظار فرص قد لا تأتي للعبور إلى الضفة الأخرى.
وفي سياق عودة حكايات «قوارب الموت» بين المغرب وإسبانيا إلى واجهة الأحداث خلال الأسابيع الأخيرة، قررت السلطات الإسبانية تنفيذ اتفاقية قديمة بين المغرب وإسبانيا، تتعلق بإعادة ترحيل المهاجرين غير القانونيين الذين يصلون عبر السواحل الإسبانية إلى المغرب، في حال ثبوت أنهم جاؤوا عن طريق المغرب.
يأتي ذلك في وقت ارتفع فيه ضغط المهاجرين الأفارقة على الحدود الإسبانية - المغربية بشكل غير مسبوق منذ يونيو الماضي. وفي هذا السياق، أوضح تقرير صدر الأسبوع الماضي عن وكالة الأمم المتحدة للهجرة، أن 51 ألف مهاجر من بين 104 آلاف مهاجر، وصلوا إلى أوروبا بحراً منذ بداية العام الحالي دخلوا من السواحل الإسبانية، وهو رقم أعلى من مجموع أعداد المهاجرين، الذين وصلوا السواحل الإسبانية خلال السنوات الثلاث الأخيرة مجتمعة. لكن خلال هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر فقد العشرات حياتهم. وحسب مرسيل أمييتو، رئيس نقابة العمال الأفارقة في المغرب، فإن هذا الارتفاع القوي في عدد ضحايا قوارب الموت ناتج بالأساس من وجود خطاب رائج لمن سماهم بـ«بائعي الأوهام»، الذين نجحوا في إقناع المهاجرين الأفارقة بأن وراء البحر تنتظرهم «الجنة».

مسار الرحلة إلى المغرب وكلفتها

كشف تقرير المرصد الحقوقي، عن أن 55 في المائة من المهاجرين دخلوا البلاد عن طريق الحدود الجزائرية - المغربية، وهو مسار طويل يستغرق بين شهر وستة أشهر للوصول إلى المغرب، وقد أكد عدد من المهاجرين أن رحلتهم غير آمنة، وأن الكثير منهم يلقون حتفهم في الصحراء، أو يتعرضون لاعتداءات العصابات التي تنشط بالمنطقة، والتي ترغمهم على دفع إتاوات مقابل السماح لهم بالعبور. كما يتم استغلالهم في العمل لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة. في حين عبر 35 في المائة؜ منهم عن طريق الحدود الموريتانية - المغربية التي لا تكلف سوى بضعة أيام، وغالباً لا تتجاوز الأسبوع، و10 في المائة فقط هم من وصلوا إلى المغرب عن طريق الجو.
وحدد 50 في المائة من الأشخاص كلفة السفر من بلدانهم الأصلية إلى المغرب بما بين 500 يورو وألف يورو، وحدد 30 في المائة؜ منهم كلفتها بأقل من 500 يورو، بينما حدد 20 في المائة كلفة السفر بأكثر من 1000 يورو.
وبخصوص ظروف عيش هؤلاء المهاجرين، أوضح التقرير أن 65 في المائة منهم يقيمون في كهوف أو خيام بلاستيكية داخل الغابات المحيطة بمدينة سبتة المحتلة، في حين أوضح 25 في المائة من المهاجرين الجنوب صحراويين أنهم يقيمون في مساكن جماعية، غالباً في مدينتي طنجة والفنيدق، في حين حدد 10 في المائة مكان إقامتهم بمساكن فردية.
وفي حين عبّر 65 في المائة من المهاجرين عن رغبتهم في متابعة الهجرة إلى أوروبا، عبّر30 في المائة عن استعدادهم للإقامة بالمغرب بصفة نهائية، في حال توفر العمل وتحسن ظروفهم المعيشية، بينما عبر 5 في المائة فقط عن رغبتهم في العودة إلى بلدانهم في حال تمكينهم من مساعدات مالية، تمكنهم من إنجاز أنشطة تجارية في بلدانهم الأصلية.
وحسب التقرير ذاته، رأى 60 في المائة من المهاجرين أن أفضل مسار نحو الجنوب الإسباني يبقى عن طريق «قوارب الموت»؛ وذلك بسبب تكثيف المراقبة الأمنية المغربية - الإسبانية حول سياجات المدينة عبر دوريات المراقبة اليومية. كما أن الكثير من المحاولات التي كان ينظمها المهاجرون في مجموعات كبيرة من أجل تسلق السياجات تبوء بالفشل، ويترتب عنها إصابات بليغة في صفوفهم.
وأعلن نور الدين بوطيب، الوزير المنتدب في وزارة الداخلية المغربية، مؤخراً، أن المغرب تمكن حتى نهاية سبتمبر الماضي من إحباط نحو 68 ألف محاولة للهجرة غير الشرعية، وتفكيك 122 شبكة إجرامية تنشط في هذا المجال. لكن في المقابل، تدعو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى وقف حملات التنقيل التي يتعرض لها المهاجرون من جنوب الصحراء من شمال المغرب إلى الجنوب، و«الكف عن لعب دور الدركي، ووضع قانون للهجرة يحترم الحقوق الأساسية للمهاجرين، ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان». لكن السلطات المغربية ترى أن ترحيل هؤلاء المهاجرين يهدف بالأساس إلى حمايتهم من شبكات الاتجار بالبشر، في حين أعلن المغرب رسمياً رفضه بشكل مطلق تشييد مراكز إيواء لاستقبال المهاجرين، كما تطالب أوروبا، واعتبر أن الاقتراح سيساهم في تعقيد المشكلة بدلاً من حلها. وقد طالبت الرباط بمساعدات مالية إضافية من الاتحاد الأوروبي لمواجهة تدفقات الهجرة غير الشرعية.
وللحد من تدفقات المهاجرين بصورة غير شرعية، شدد المغرب من إجراءات دخول أراضيه من طرف المهاجرين الأفارقة، ولجأ مؤخراً إلى فرض تأشيرة دخول على مواطني ثلاث دول أفريقية، هي الكونغو برازافيل وغينيا كوناكري ومالي، التي كانت من بين الدول التي لا يحتاج مواطنوها إلى تأشيرة لدخول المغرب. وأكدت مصادر في أوساط المهاجرين الأفارقة، أن الإجراء دخل حيز التطبيق في مطار محمد الخامس، الذي يستقبل 70 في المائة من المهاجرين الأفارقة الوافدين على المغرب، في حين أكدت المصادر، أن الإجراء لم يطبق بعد على الوافدين عبر المعبر الحدودي الكركرات على الحدود مع موريتانيا.
يقول أبو بكر ندياي، منسق جمعية السنغاليين المقيمين في مدينة العيون: «إن هجرة الأفارقة بالمغرب لها طابع خاص جداً. فمواطنو جميع دول غرب أفريقيا، باستثناء موريتانيا، يمكنهم دخول المغرب من دون تأشيرة. ويكفي الإدلاء في الحدود بجواز سفر قانوني لدخول البلاد، لكن لمدة محدودة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. المشكلة هي عندما يقرر الوافد التحول من زائر إلى مهاجر، ويقرر البقاء بعد انقضاء تصريح ثلاثة أشهر المؤشر عليه في جواز سفره، فعندها يجد نفسه في وضعية غير قانونية».
وحسب دراسة لمنظمة «كونراد أديناور» الألمانية حول الهجرة بالمغرب، فإن الغالبية الساحقة للمهاجرين الأفارقة يلجون البلاد بشكل قانوني، قبل أن يتحولوا إلى مهاجرين غير قانونيين، مشيرة إلى أن 12 في المائة فقط من المهاجرين الأفارقة يلجون المغرب من دون وثائق، وأن 70 في المائة من المهاجرين الأفارقة الوافدين على المغرب يأتون عن طريق الجو، ويدخلون أساساً من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، في حين يصل نحو 22 في المائة منهم براً بالسيارات والحافلات، و7 في المائة سيراً على الأقدام.

أعمار 15% من المهاجرين أقل من 18 سنة

> كشفت نتائج البحث الذي أنجزه «مرصد الشمال لحقوق الإنسان»، عن أن 15 في المائة من المهاجرين في المغرب تقل أعمارهم عن 18 سنة (قاصرون)، و40 في المائة تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة، و43 في المائة بين الفئة العمرية 26 و39 سنة، و2 في المائة فقط يتجاوز عمرهم 40 سنة؛ الأمر الذي يدل على أن الشباب هم الفئة التي تغامر بالهجرة. وبشأن المستوى التعليمي والمهن التي كان يزاولها المهاجرون في بلدانهم الأصلية، كشف البحث عن أن 40 في المائة مستواهم التعليمي ثانوي، و28 في المائة ابتدائي، و15 في المائة من دون أي مستوى، و10 في المائة جامعي، و7 في المائة مستواهم التعليمي إعدادي (متوسط). في حين يلاحظ أن 70 في المائة من العينة هم عزاب، و30 في المائة متزوجون.
وعبر 45 في المائة منهم، عن أن نشاطهم الأساسي في بلدهم الأصلي هو التجارة، و20 في المائة كانوا عاطلين عن العمل، وأن 25 في المائة مزارعون، و10 في المائة كانوا يعملون في قطاع الخدمات. أما بخصوص الأسباب التي تقف وراء هجرة هؤلاء الأفارقة، فقد عبّر 75 في المائة منهم أن الأوضاع الاقتصادية في بلدانهم هي السبب، مقابل 25 في المائة أرجعوا ذلك إلى الأوضاع والاضطرابات الأمنية التي تعيشها بلدانهم.

أحلام المهاجرين المصريين غير الشرعيين «تتبخر» في الصحراء

مصر

القاهرة: عبد الفتاح فرج

إذا كان شباب المغرب وتونس والجزائر يخاطر بحياته من أجل بلوغ القارة الأوروبية، فإن الوضع في مصر يختلف شيئاً ما، ذلك أن عدداً كبيراً من المصريين يحاول، عوضاً عن ذلك، بلوغ الأراضي الليبية بحثاً عن لقمة العيش.
السيد عبد الراضي، شاب عشريني ابن محافظة سوهاج، اضطر إلى جمع مبلغ سبعة آلاف جنيه مصري عن طريق العمل الشاق والاقتراض من أقاربه لتحقيق حلمه بالسفر إلى ليبيا، وبناء شقة حديثة في بيت والده، ثم الزواج من إحدى فتيات القرية التي ينتمي إليها. لكن محاولات تسلله إلى ليبيا عبر الدروب الصحراوية الوعرة باءت بالفشل، بعد ملاحقة قوات حرس الحدود المصرية للمجموعة، التي كان يسير معها في قلب الصحراء، جنوب واحة سيوة التي تبعد عن مدينة مطروح الساحلية بنحو 300 كلم جنوباً. ووفق ما قاله عبد الراضي لـ«الشرق الأوسط»، فإن حلم جمع مبالغ كبيرة في وقت قصير طغى على تفكيره، وجعله ينسى المخاطر التي قد تنجم عن الهجرة إلى ليبيا.
كلام الشاب المصري، الذي فشل في العبور إلى ليبيا، أكده البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية المصرية قبل أسبوع، والذي أعلنت فيه عن ضبط 86 قضية في مجال الهجرة غير الشرعية، ضمت مئات المتهمين والسماسرة، في وقت تكثف فيه الوزارة من جهودها لضبط المهربين والسماسرة.
وسلّط بيان الداخلية الضوء كذلك على إحباط عملية تهريب 33 مهاجراً غير شرعي في إحدى قضايا مكافحة الهجرة غير الشرعية، من بينهم اثنان يحملان جنسية إحدى الدول العربية، عند تواجدهما بأحد المنازل المهجورة، بمديرية أمن مطروح قبيل سفرهما، إلى جانب ضبط عدد من الصيادين المتهمين بنقل مهاجرين غير شرعيين. وقد عزز إعلان مديرية أمن مطروح قبل خمسة أشهر عن ضبط عدد سبعة أشخاص خلال رحلة هجرة غير شرعية على الحدود المصرية - الليبية، تصريحات الوزارة ذاتها.
ورغم حالة التشديد الأمني المفروضة من قبل عناصر الشرطة وقوات حرس الحدود، ومنع سفر العمال المصريين إلى ليبيا منذ شهر فبراير (شباط) 2015، بعدما ذبح تنظيم داعش الإرهابي 20 عاملاً مصرياً من الأقباط، فإن ثمة مهاجرين مصريين نجحوا بالفعل في العبور إلى الجانب الآخر بشكل غير شرعي، وهو ما يؤكده السيد رجب، أحد أهالي قرية ميت زنقر، بمركز طلخا في محافظة الدقهلية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «مع أن قريتنا شهدت حوادث وفاة عدد من المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا خلال العام الماضي، إلا أن آخرين استطاعوا التسلل إلى ليبيا، ولم يخشوا من الموت وسط الصحراء، أو من الملاحقات الأمنية، حيث تواصل عدد منهم مع ذويهم بعد شهر كامل من مغادرتهم القرية».
وأضاف رجب موضحاً: إن هؤلاء الأشخاص «يفضلون الهرب إلى ليبيا في فصل الشتاء، بسبب ارتفاع دراجات الحرارة في فصل الصيف». لافتاً إلى أن عدداً من شبان القرية والقرى المجاورة ما زالوا يقدِمون على السفر عبر التهريب، بعد دفع مبالغ مالية تصل إلى 10 آلاف جنيه. وقال بهذا الخصوص «يعرف الأهالي السماسرة بشكل شخصي، وهم يتحركون بشكل طبيعي، وينجحون في إقناع الشباب بالسفر إلى ليبيا، مدعين أن حالتها الاقتصادية أفضل من مصر، وفرص العمل فيها كثيرة ورواتبها أفضل، مغفلين الشق الأمني والمخاطر التي يتعرض لها الشبان خلال الرحلة».
عمليات الهجرة غير الشرعية من مصر إلى ليبيا لم تظهر إلا بعد انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها حالة انفلات أمني ضربت معظم أنحاء مصر، وبالأخص حدودها الغربية. ووصل عدد المصريين الذين عادوا من ليبيا خلال ستة أشهر في عام 2015 إلى 76 ألف مصري، منهم 30 ألفاً دخلوا ليبيا بصورة غير شرعية، وفق إحصاءات صدرت من مديرية أمن مطروح، نشرتها صحف مصرية في العام نفسه. ولم تصدر السلطات المصرية إحصاءات حول أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وقبل عام ونصف العام عثرت السلطات الليبية على جثث 48 مهاجراً غير شرعي في منطقة صحراوية، تقع بين حدود مدينتي أجدابيا وطبرق (شرق ليبيا). وكان الضحايا وفق «الهلال الأحمر الليبي» من محافظات أسيوط والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ، وجدت جثثهم في الصحراء على شكل مجموعات متفرقة قريبة من بعضها، من بينهم شاب يدعى علاء سعيد سيد، من مركز سمالوط بمحافظة المنيا (جنوبي القاهرة)، أصر على التسلل إلى ليبيا مع والده الذي سبق له السفر إلى ليبيا بشكل شرعي. لكن الشاب لفظ أنفاسه الأخيرة بسبب الشمس الحارقة، ونفاد طعامه وشرابه، فقام والده بدفنه بنفسه في حفره صغيرة قبل أن يستسلم لملاقاة مصير ابنه. لكن كُتب له عمر جديد بعد إنقاذه من قبل قوات حرس الحدود الليبية، وفق ما ذكرته زوجة الرجل فاطمة عبد الله لـ«الشرق الأوسط»، التي أوضحت أن المهربين يسلكون طريقين رئيسيتين للعبور إلى ليبيا: الأول جنوب منفذ السلوم الحدودي، والأخرى جنوب واحة سيوة، بداية بحر الرمال العظيم. «فاطمة» لا تزال تذرف دموعاً حارة على ابنها الذي افتقدته في رحلة الهجرة غير المشروعة، كما تقول، ورغم المخاطرة الكبيرة التي خاضها «علاء»، والأوجاع التي تركها لعائلته، فإن أحلامه الصغيرة لن تتحقق أبداً.

شبكات إجرامية تغري الشباب بالهجرة لجني أرباح خيالية

تونس

تونس: المنجي السعيداني

قبل أيام قليلة اعتقلت أجهزة الأمن التونسي امرأة حاملاً في مقتبل العمر، كانت بصدد الإبحار خلسة نحو السواحل الإيطالية، وعندما سألتها عن سبب المشاركة في هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، قالت إنها كانت تخطط لتضع مولودها في الديار الإيطالية؛ حتى يحصل بصفة آلية على الجنسية الإيطالية، وتتمكن بالتالي من تحسين وضعها الاقتصادي والحصول على الإقامة في هذا البلد الأوروبي، الذي بات يضيّق الخناق أكثر فأكثر على المهاجرين. هذه المرأة مجرد نموذج مصغر من عشرات الشبان التونسيين الذين يسعون بكل الوسائل للوصول إلى سواحل أوروبا بطرق مختلفة، وإن كان لكلٍ غايته المنشودة. لكن القاسم المشترك الذي يجمعهم جميعاً هو الفقر والخصاصة في المقام الأول.
وتؤكد مراكز الأبحاث والدراسات المختصة في مجال الهجرة، أن تونس أصبحت إحدى المحطات المهمة بالنسبة للهجرة الأفريقية نحو أوروبا، وبخاصة في بلدان ما وراء الصحراء، وباتت تغري الكثير من شبان أفريقيا للوصول إليها، والاستقرار مؤقتاً في انتظار ساعة الصفر، وربط العلاقات الضرورية مع المهربين وتجار البشر قصد عبور المتوسط في اتجاه ضفته الشمالية.
لكن هؤلاء المهاجرون الأفارقة يعانون خلال محطة الانتظار الطويلة من تمييز كبير في الأجور، ومن ساعات العمل الطويلة، وغالباً ما يستغلهم أصحاب المشروعات الاقتصادية الخاصة لأداء أعمال شاقة، وبخاصة في مجال البناء والأشغال العامة، وكذلك في القطاع الفلاحي، وغالباً ما يجدون أنفسهم مرغمين على القبول بأجور هزيلة في محاولة لجمع المال اللازم لرحلتهم السرية، واغتنام الفرصة المناسبة لعبور البحر.
ونتيجةً لتوافد آلاف الأفارقة الراغبين في ركوب قوارب الموت، باتت مناطق تونسية عدة تُعرف بأنها خزان الهجرة غير الشرعية، واشتهرت بكونها من بين محطات الانطلاق الرئيسية بالنسبة للشباب الأفريقي والتونسي على حد سواء. وفي هذا السياق، أكدت إحصائيات رسمية أن الشهور الأولى، التي تلت «ثورة الياسمين»، عرفت هجرة أكثر من 5 آلاف تونسي من منطقة جرجيس (جنوب شرقي)، وهي منطقة تقع على مقربة من الحدود مع ليبيا.
كما تُعرف مناطق أخرى بأنها ناشطة في هذا مجال تهريب البشر نحو أوروبا، مثل جزيرة قرقنة ومنطقة الهوارية، التي تعد أقرب نقطة إلى الأراضي الإيطالية، بالإضافة إلى منطقة بنزرت والمهدية. لكن غالباً ما تتغير أهمية المنطقة، تماشيا مع تضييقات رجال الأمن، ومثال على ذلك فبعد المراقبة الأمنية القوية التي عرفتها منطقة جرجيس تحول نشاط الهجرة غير الشرعية إلى جزيرة قرقنة؛ وهو ما جعلها تتحول في ظرف زمني قصير إلى قبلة كثير من الشبان الأفارقة من مختلف الجنسيات.
وخلافاً لسنوات الهجرة في سبعينات القرن الماضي، أصبحت عمليات الهجرة غير الشرعية من تونس نحو إيطاليا مؤطرة بشبكات «مافيوزية»، تجني من ورائها ثروات ضخمة. وقد تطور نشاط هذه العصابات بقوة، حيث أصبح يتم الترويج للهجرة عبر فيديوهات لشباب تونسيين وهم بصدد الإبحار نحو إيطاليا. ويتم تداول هذه الفيديوهات قصد تشجيع مزيد من الشبان على الهجرة غير الشرعية.
وبهذا الخصوص، قال مسعود الرمضاني، رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاجتماعية (منظمة حقوقية مستقلة) لـ«الشرق الأوسط»: إن «لجوء الحكومة إلى الحلول الأمنية لحل مشكل الهجرة غير النظامية بصفته حلاً وحيداً لن يفضي إلى استقرار حقيقي، ولن يثني الشباب التونسي على عدم المغامرة في الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط»، معتبراً في هذا السياق أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الشباب التونسي، وقلة خيارات التنمية وفرص العمل، من بين أهم العوائق التي تُفشل مخططات الحكومة في التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية.
ونتيجة لهذا الوضع الذي باتت تنعدم فيه فرص العمل وتأمين لقمة العيش، يواصل الشباب التونسي الارتماء في أحضان المتوسط، دون تقدير المخاطر المحدقة بهم؛ إذ غالباً ما يتركهم المشرفون على عمليات التهريب بعيداً عن السواحل الإيطالية، ويأمرونهم بمغادرة المركب؛ حتى لا تنتبه لهم الشرطة الإيطالية (الكرابينياري).
يقول أحد الناجين التونسيين من رحلة موت: إن «ربان السفينة التي استقلوها تركها عندما بدأت تغرق؛ حتى لا يقع بين أيدي قوات خفر السواحل الإيطالية، وفرّ بجلده تاركاً الشبان الحالمين في مواجهة مصيرهم المحتوم».
لكن على الرغم من شبح الموت، يؤكد الشاب خليفة البوجبلي، أنه لا يزال مستعداً للمحاولة آلاف المرات؛ حتى يتمكن من الوصول إلى «الجنة الموعودة» في القارة الأوروبية، حسب تعبيره، مشدداً على أنه سئم البقاء في تونس التي لا توفر له إلا الفتات، على حد تعبيره.
في السياق ذاته، يؤكد عبد القادر المهذبي، المدير العام للتعاون الدولي بوزارة الشؤون الخارجية التونسية، وجود نحو 10 آلاف مهاجر غير شرعي من أصول أفريقية عالقين في تونس. وقال على هامش مشاركته في مؤتمر إقليمي حول إشكاليات الهجرة في المنطقة الأورو – متوسطية: إن هؤلاء المهاجرين اختاروا تونس باعتبارها بلد عبور نحو الدول الأوروبية، وهم يعملون حالياً في عدد من القطاعات المضنية، كالبناء والفلاحة والخدمات في انتظار الفرصة المناسبة للمشاركة في رحلات الهجرة غير الشرعية.


مقالات ذات صلة

بريطانيا تتخذ إجراءات جديدة بحق المشتبه بتهريبهم مهاجرين

أوروبا صورة ملتقطة بواسطة طائرة مسيّرة تظهر قارباً مطاطياً يحمل مهاجرين وهو يشق طريقه نحو بريطانيا في القنال الإنجليزي  6 أغسطس 2024 (رويترز)

بريطانيا تتخذ إجراءات جديدة بحق المشتبه بتهريبهم مهاجرين

أعلنت الحكومة البريطانية، الخميس، أنّ الأشخاص المشتبه بأنّهم يقومون بتهريب مهاجرين، سيواجهون حظراً على السفر وقيودا تحول دون وصولهم إلى منصات التواصل الاجتماعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
آسيا (من اليسار إلى اليمين) الممرضات الأفغانيات مادينا أعظمي ورويا صديقي وتهمينة أعظمي يقمن بالتوليد والتمريض في مستشفى خاص بكابل - 24 ديسمبر 2024 (إ.ب.أ)

لاجئون أفغان يعيشون «سجناء» الخوف في باكستان

أصبحت حياة شهرزاد تقتصر على باحة بيت الضيافة الذي تعيش فيه في باكستان، إذ بعدما كانت تأمل أن تجد الحرية بعد هروبها من سلطات طالبان.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
العالم العربي عودة 300 ألف نازح سوري من لبنان إلى بلادهم (أ.ف.ب)

عودة 300 ألف نازح سوري من لبنان إلى بلادهم 

هناك 300 ألف نازح سوري عادوا من لبنان إلى بلادهم بعد العفو العام الذي صدر عن السلطات السورية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
أوروبا وزير الهجرة واللجوء السويدي يوهان فورسيل (أ.ب)

السويد تسعى إلى تشديد القيود على طلبات اللجوء

أعلنت الحكومة السويدية اليوم الثلاثاء أنها أعدت مشروع قانون من شأنه الحد من قدرة طالبي اللجوء الذين رُفضت طلباتهم على تقديم طلبات جديدة من دون مغادرة البلاد.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
أوروبا عنصر من الشرطة الفرنسية في ستراسبورغ (أ.ف.ب)

مقتل 5 في إطلاق نار بشمال فرنسا... والمشتبه به يسلم نفسه للشرطة

نقلت وسائل إعلام فرنسية عن مصادر أمنية، السبت، أن اثنين من رجال الأمن ومهاجرَين قُتلوا بإطلاق نار في لون بلاج بالقرب من مدينة دونكيرك الشمالية.

«الشرق الأوسط» (باريس)

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.