«الشرق الأوسط» ترصد أبرز منابع الهجرة الأفريقية نحو «الفردوس الأوروبي»

«تجارة الموت» تحصد آلاف القتلى يومياً وضحاياها من المغرب وتونس والجزائر وليبيا ... والقارة السمراء

عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
TT

«الشرق الأوسط» ترصد أبرز منابع الهجرة الأفريقية نحو «الفردوس الأوروبي»

عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)
عشرات الأفارقة داخل زورق صغير في المتوسط (أ.ف.ب)

كل يوم تقريباً، يموت مهاجرون أفارقة خلال محاولة التسلل عبر الأسلاك الشائكة، في حين يموت آخرون غرقاً عند ركوبهم البحر، وكلهم أمل في الوصول الى الضفة الغربية، التي يرون فيها وسيلتهم الوحيدة للهرب من الفقر، والبطالة، وذل الاحتياج.
وقبل أيام فقط، دقت منظمات متخصصة، وعلى رأسها المنظمة الدولية للهجرة، ناقوس الخطر بخصوص تنامي الظاهرة، دون أن تحدد بشكل صريح المسؤولين عن حدوث هذه الفظاعات. لكن بعض المتخصصين في قضايا الهجرة يجمعون على أن المسؤول الأول عن الفظاعات المهولة التي يتعرض لها المهاجرون الأفارقة في عرض البحر المتوسط هي عصابات تهريب البشر، وتقاعس بعض الحكومات عن أداء دورها لحمايتهم.
من الكاميرون، والنيجر، والسينغال ودول أخرى، تبدأ رحلة سفر هؤلاء المهاجرين نحو المجهول... رحلة غالباً ما تكون برية طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر، حيث يسقط بعضهم في أيدي عصابات متخصصة تستولي على أموالهم، وتعنّفهم وتقتلهم في بعض الأحيان، ومنهم من تتخلى عصابات تهجير البشر عنهم وسط الصحاري بعد الاستيلاء على كل ما يملكون من أموال وزاد ليموتوا جوعاً وعطشاً. أما القلة القليلة التي تتمكن من الوصول إلى المغرب أو تونس أو ليبيا أو الجزائر، فغالباً ما ينتهي بها المطاف في أعمال السخرة، وفي ظروف قاسية أشبه ما تكون بالعبودية، حيث يتم استغلالهم في أعمال البناء والزراعة والأشغال المضنية، مقابل مبالغ زهيدة لا تضمن حتى الحد الأدنى من العيش اللائق. وعندما يتمكنون في آخر المطاف من توفير بعض المال لضمان مقعدهم داخل أحد «مراكب الموت»، المتجهة إلى أوروبا يكتشفون، بعد فوات الأوان، أنهم وقعوا ضحية عملية نصب واحتيال، وأن قائد المركب انتقل بهم من وجهة بحرية إلى أخرى، لكن داخل البلد نفسه.
«الشرق الأوسط» انتقلت إلى أماكن عيش هؤلاء المهاجرين في تونس، والمغرب، والجزائر، وليبيا، ومصر، ورصدت ظروف عيشهم، ومعاناتهم اليومية، وأسباب هربهم من بلدهم، وحاورت متخصصين ومسؤولين في مجال الهجرة غير الشرعية، وخرجت بالتحقيق التالي:

طريق المهاجرين عبر ليبيا... رحلة شقاء مصيرها الموت

ليبيا

القاهرة: جمال جوهر

أبقت الأوضاع الإنسانية السيئة لمهاجري سفينة «نيفين»، التي اقتحمتها السلطات الأمنية الليبية قبالة ساحل مدينة مصراتة (شمال غربي البلاد)، منتصف الأسبوع الماضي، الباب مفتوحاً حول طبيعة تدفق أفواج المهاجرين غير النظاميين القادمين إلى ليبيا، وزادت من حدة التساؤلات عن المسارات التي يسلكها آلاف القادمين من دول أفريقية وآسيوية، أملاً في الانتقال إلى «جنة أوروبا الموعودة».
وتعكس حياة 79 مهاجراً، كانوا على السفينة التي تحمل علم بنما، وتم إنزالهم بـ«القوة»، أوضاعاً إنسانية «بالغة الصعوبة»، وتكشف المعاناة التي عاشوها لدخول ليبيا، إلى أن استقر بهم المقام حالياً في مركز إيواء مصراتة بمنطقة الكراريم، انتظاراً لترحليهم من قبل السلطات الليبية إلى بلدانهم مرة ثانية، الأمر الذي يصفه محمود علي الطوير، المستشار بالأكاديمية العربية الأوروبية للدراسات الاستراتيجية في حديث إلى «الشرق الأوسط» بـ«الرحلة القاتلة... الفائز الأول فيها عصابات التهريب».
وقال المواطن الصومالي ترويجي أحمد، أحد المحتجزين لدى مركز إيواء في مدينة جنزور، إنه «ترك وراءه أسرة كبيرة في بلاده، وجاء إلى ليبيا بهدف العمل حتى يتمكن من الهجرة إلى أوروبا»، مؤكدا أنه أنفق مالاً كثيراً لوسطاء نظير نقله عبر الحدود الليبية.
ومضى ترويجي يقول، وفقاً لمصدر أمني «دفعت 10 آلاف دينار ليبي أخرى إلى بعض الأفراد كي يساعدوني في الانتقال إلى الساحل، لكن قبل الوصول إلى هناك قبض علي مع عشرة آخرين».
وحكاية المواطن الصومالي وغيره من المهاجرين من جنسيات مختلفة، أكدها العقيد عبد السلام عليوان، مدير إدارة الفروع بجهاز الهجرة غير الشرعية، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بقوله إن «الأوضاع المعيشية الصعبة بالقرن الأفريقي باتت تدفع آلاف المهاجرين لترك بلادهم، بحثاً عن جنة أوروبا كما يتوهمون... لكن للأسف يقعون فريسة لعصابات التهريب»، متابعاً «نحن في ليبيا نتضرر كثيراً من هذه الأفواج التي لا تنقطع».
وتقول المنظمة الدولية للهجرة إنه مع قرب انتهاء العام الحالي وصل أكثر من 22541 مهاجراً إلى إيطاليا بحراً منذ يناير (كانون الثاني). لكن ما زال كثير من المهاجرين يلقون حتفهم في حوادث غرق زوارق مطاطية غير آمنة تحمل عدداً أكبر من حمولتها. كما أوضحت المنظمة أن 1277 مهاجراً غرقوا في البحر المتوسط هذا العام حتى الآن، مقارنة بـ2786 في نفس الفترة من العام الماضي.
ويعبر آلاف الحالمين بـ«الجنة الموعودة» إلى الحدود الليبية، عبر سبعة مسارات، كما يقول الطوير الذي يوضح أن «الهجرة غير الشرعية إلى ليبيا تنطلق من دول أفريقيا وشرق آسيا، بالإضافة إلى بعض دول المغرب العربي... أحيانا تكون طرق دخولهم إلى الأراضي الليبية بشكل قانوني، عبر المنافذ والمعابر الشرعية. لكن بعد استقرارهم في ليبيا، يبدأون في التخطيط والبحث عن طرق لتهريبهم عبر البحر».
وكانت قوات الشرطة، التابعة لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، قد استخدمت الرصاص المطاطي لإجبار 79 مهاجراً من السودان وجنوب السودان، والصومال، وباكستان، وبنغلاديش، وإثيوبيا، على إخلاء سفينة «نيفين»، الأسبوع الماضي، بعد فشل مفاوضات أجرتها معهم البعثة الأممية لدى ليبيا، وأودعوا مركز إيواء بمصراتة لحين تسفيرهم إلى دولهم.
وأنقذت السفينة (نيفين) هؤلاء المهاجرين، وغيرهم، قبالة الساحل الليبي، بينما كان قاربهم على وشك الغرق، ونقلتهم إلى ميناء مصراتة. ولدى وصولها نزل 14 منهم طواعية. لكن الباقين (92 منهم) رفضوا النزول من السفينة. وقال مصدر أمني إن عدداً من هؤلاء المهاجرين قضوا سنوات في السجون الليبية، لأسباب مختلفة، مشيراً إلى أن «الأوضاع الإنسانية السيئة التي يعيشونها في بلدانهم تدفعهم للمخاطرة بالهجرة إلى أوروبا، وترغمهم على التعامل مع عصابات الاتجار في البشر، ودفع أموال كثيرة».
وأضاف المصدر، الذي رفض ذكر اسمه لأنه غير مخول له الحديث إلى الإعلام: «عندما يتم إخضاع هؤلاء المهاجرين إلى جهات التحقيق نكتشف أن أوضاعهم غير الإنسانية في بلادهم صعبة للغاية... وتبقى ليبيا هي الضحية لأنها دولة عبور، وليست طرفاً في هذه أزمة المهاجرين».
وذهب المصدر ذاته إلى أن كثيرين من المهاجرين، الذين يتمكنون من دخول البلاد عبر عصابات التهريب، ينخرطون في أعمال المعمار والمقاولات، أو العمل في المزارع، وبعد تجميعهم ما يلزم من مصاريف نقلهم إلى أوروبا، ينقطعون عن العمل. وتابع موضحا «نعثر على جثث بعضهم غرقى بعد انتشالها من البحر المتوسط، وآخرون يتم إدخالهم مراكز الإيواء، ومن يهرب منهم يبدأ مشوار التفكير في الهجرة عبر البحر مجدداً».
ويضيف الطوير، المستشار بالأكاديمية العربية الأوروبية، أن «هناك مهاجرين يدخلون ليبيا عبر الصحراء على مراحل عدة. وغالبا تكون الفئات العمرية من الشباب المغامرين بحياتهم لأجل البحث عن حياة أفضل وبحسب أحلامهم».
كما كشف الطوير أن «أغلب أفواج المهاجرين عبر الحدود تتمركز لدى عصابات تجار البشر في الصحراء الشاسعة»، لافتاً إلى أنه جرت تحقيقات لمكتب النائب العام الليبي مؤخراً حول أماكن تجميع هؤلاء المهاجرين، وهي جنوب العاصمة طرابلس في منطقة الشويرف، وبني وليد.
ورأى الطوير في ختام حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن أماكن تجميع هؤلاء المهاجرين تقتصر على المدن والبلدات المهمشة، التي تفتقد إلى الأمن، مما يجعل عصابات التهريب تتحكم هناك وتسود.
وسبق للتقرير الأخير لفريق خبراء الأمم المتحدة اتهام لواء «سبل السلام»، التابع للجيش الليبي بمكافحة الاتجار على الحدود بين ليبيا والسودان، بالتورط في عملية تهريب المهاجرين. وقال فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة في تقريره إلى رئيس مجلس الأمن إن «لواء سبل السلام يوفر الحراسة لقوافل المهاجرين من الحدود مع السودان، مقابل عشرة آلاف دينار ليبي لكل شاحنة صغيرة، كما يحتجز اللواء المهاجرين لابتزازهم».
ونقل الفريق الأممي عن محمد عبد الفضيل، رئيس مركز إيواء المهاجرين غير الشرعيين بالكفرة وجود «سبعة مسارات للهجرة من تشاد والسودان إلى ليبيا عبر أوروبا ومصر»، لافتاً إلى أن «الميليشيات المسلحة تعد جهات فاعلة في شبكات التهريب عبر حماية قوافل المهاجرين، خاصة عبر الكفرة وتازربو وبني وليد».
وانتهى مدير مركز الاحتجاز إلى أن «ما بين 800 و1000 مهاجر يدفعون ما مجمله نحو خمسة آلاف دولار يومياً»، مبرزا أن «الهجرة غير النظامية تؤجج الفوضى في ليبيا».

عائلات تبكي أبناءها بعد ركوبهم «قوارب الموت» لملاقاة «الحلم الأوروبي»

الجزائر

الجزائر: بوعلام غمراسة

أصبحت عين تيموشنت (300 كيلومتر غرب العاصمة الجزائرية)، التي زارتها «الشرق الأوسط»، من أكثر المناطق تصديراً لـ«الحراقة» (المهاجرون غير الشرعيين) خلال السنوات الأخيرة. وفيها تبكي عدة أمهات أبناءهن الذين غادروا المنطقة منذ سنوات دون أن يظهر عنهم أي خبر، فيما اتصل آخرون بذويهم لإعلامهم بأنهم تمكنوا من الوصول إلى إسبانيا أو فرنسا.
وفي اتصال مع أحد هؤلاء «الحراقة» في حي بارباس روششوار الباريسي، الذي بات يشتهر بأنه مأوى للمهاجرين الجزائريين غير الشرعيين، قال: «ركبت القارب من بلدة بوزجار (مستغانم) ودامت الرحلة 24 ساعة، قبل أن أصل إلى إسبانيا ومنها سافرت إلى فرنسا. لا تصدقوا من يقول لكم إننا نعاني الفقر في أوروبا. فنحن نشتغل من حين لآخر، ونوفر ما يلزمنا من مأكل وملبس وحتى تأجير شقق مشتركة فيما بيننا، وفي كل الأحوال حالنا أفضل مما كنا عليه في الجزائر».
وفي بدلس، كبرى مدن ولاية بومرداس (شرق) الساحلية، التقينا عائلة كشاش التي تعيش قلقا بالغا منذ أن غادر طفلاها كريم وعبد الجليل البيت راكبين «قارب الموت»، برفقة 5 آخرين من أبناء دلس.
«كان ذلك قبل عام، وقد اتصل بنا شخص من إسبانيا يقول إنه جزائري، وإنه التقى كريم وعبد الجليل هناك وإنهما يعملان»، بحسب رواية والديهما الذي أضاف بنبرة متشككة: «لكني لا أصدق ما سمعته، فلو كانا بخير لاتصل بي أحدهما بنفسه».
وقبل أيام قليلة أعلن في الجزائر عن العثور على جثتي غريقين في البحر المتوسط، بالقرب من سواحل إيطاليا، وتم التأكد من أن الأمر يتعلق بشابين من 10 مهاجرين سريين، غادروا الجزائر منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، طمعا في عيش أفضل في أوروبا. لكن هذه القصص المأساوية لا تعد حالات معزولة؛ إذ تشهد عدة مدن ساحلية جزائرية هجرة العشرات يوميا، عبر قوارب تقليدية كثير منها تتعطل محركاتها في منتصف الطريق.
ويتحدر الشباب العشرة من حي الريس حميدو بالضاحية الغربية للعاصمة، واتفقوا مع مالك قارب تقليدي بعنابة (600 كلم شرق العاصمة)، على «الإبحار» من هذه المدينة الأقرب إلى جزيرة سردينيا قياسا إلى العاصمة.
وقال أفراد من عوائلهم في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إنهم ظلوا من دون أخبار عن مصيرهم لأيام، قبل أن تصل إليهم معلومات بأن محرك القارب الذي حملهم توقف بسبب عطب، عند اقترابه من سردينيا. ولما عجز صاحب القارب عن إعادة تشغيل المحرك، قفز 5 من المهاجرين إلى البحر لإكمال الرحلة سباحة، حسب شقيق مهاجر مفقود كان تحدث بحرقة لـ«الشرق الأوسط»... «صراحة لا نعرف إن كانوا وصلوا إلى الساحل، كما لا نعرف ما جرى لمن بقوا في القارب... يجب أن ننتظر نتائج البحث التي بدأها خفر السواحل الإيطالي، ولكني بصراحة لست متفائلا بشأن العثور عليهم أحياء، فقد شهدنا مثل هذه الحوادث عدة مرات في السنوات الماضية، ونادرا ما عاد مهاجرون سالمين، في حال تعطل القارب في الطريق».
وتتراوح أعمار «الحراقة» العشرة بين 26 و35 سنة، وخططوا للهجرة السرية من دون إبلاغ أي من أفراد عائلاتهم، ما عدا أم عبد الفتاح التي كانت على دراية بالمشروع، والتي قالت وهي تشعر بقلق بالغ على ابنها: «لقد صارحني بأنه جمع مبلغا من المال يسمح له بقطع البحر. حاولت ثنيه لكني عجزت، فقد تحجج بفقدان الأمل في الجزائر، وبأن مساعيه للبحث عن عمل استمرت لعشر سنوات دون جدوى، ونتيجة لذلك وجدت نفسي شبه مقتنعة بأن أوروبا هي خلاصه، رغم أنني كنت أسمع بهلاك شباب في مقتبل العمر في عرض البحر، وهم يحاولون اللحاق بالضفة الشمالية».
وقال محمد الناشط بـ«الهلال الأحمر» الجزائري، إن رفاقا للمهاجرين العشرة من الحي نفسه، شجعوهم على الهجرة، بعد أن سلكوا الطريق نفسها ووصلوا إلى أوروبا بسلام، وقد تحدثوا إليهم من إيطاليا عبر «سكايب».
وأفاد محمد بأن تكاليف حجز مكان في قارب الهجرة، تصل إلى 300 ألف دينار جزائري (نحو 2700 دولار أميركي)، حسب شهادة أشخاص خاضوا التجربة المريرة، وقد ترتفع القيمة في فصل الصيف لأن البحر يكون هادئا، وبالتالي تكون مخاطر الرحلة أقل. وفي معرض حديثه عن دوافع هؤلاء الشبان للهجرة وبلوغ «الحلم الأوروبي»، يقول أستاذ علم الاجتماع ناصر جابي: «هجرة الشباب بكثرة، وفي ظروف محفوفة بالمخاطر، تعكس واقعا لا يمكن إخفاؤه، وهو أنه لم يعد هناك حلم جزائري يدفع الشباب إلى البقاء في البلاد. وهي دليل على فشل سياسات النظام الحالي الذي شجع كل فئات المجتمع على التفكير في الهجرة... الفقير يركب القوارب، والمتعلم يطلب تأشيرة السفر للدراسة في الخارج، وحتى المسؤول الكبير يفضل الهروب بعد تحويل أمواله وشراء عقارات في الخارج».

المهاجرون الأفارقة في المغرب: مسار شاق باتجاه «القارة العجوز»

المغرب

الرباط: لطيفة العروسني الدار البيضاء: لحسن مقنع

تنقذ وحدات خفر السواحل التابعة للبحرية الملكية في المغرب، بشكل شبه يومي، مهاجرين سريين أغلبهم من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، من الغرق في عرض سواحل مدن الناظور، والحسيمة، والفنيدق، وطنجة (شمال البلاد)، في حين يلاقي المئات حتفهم غرقاً وهم يحاولون عبور المتوسط نحو أوروبا.
وخلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مشهد غير مألوف، فيديوهات تصور عمليات الهجرة السرية، صوّرها المهاجرون أنفسهم بهواتفهم المحمولة، وهم في عرض البحر على متن قوارب تكدس فوقها العشرات. وبذلك، لم تعد «رحلات الموت» سرية، بل موثقة وكأن الأمر لا يتعلق بمخاطرة بالحياة، بل بنزهة بحرية؛ وهو ما أثار علامات استفهام كثيرة، وأعاد إلى الواجهة الحديث عن ظاهرة «قوارب الموت» التي كانت قد تراجعت بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية.
وقال محمد بن عيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، لـ«الشرق الأوسط»: إن «المغرب بلد عبور مهم للمهاجرين المتحدرين من دول جنوب الصحراء، الذين يعتبرون الحدود المغربية - الجزائرية المنفذ الرئيسي لهم نحو المغرب، والذين تزايد عددهم منذ اعتماد المغرب سياسة جديدة في مجال الهجرة تنطلق من البعد الإنساني، والتي عملت من خلالها على تسوية وضعية عشرات الآلاف من المهاجرين للإقامة بالمغرب... وهو ما أدى إلى تصاعد عددهم بشكل كبير، وبالتالي خلق ضغطاً على الحدود الشمالية، مع ظهور حالات معدودة للاجئين من دول الشرق الأوسط وآسيا».
يتخذ المهاجرون السريون الغابات الموجودة قرب المدن الساحلية القريبة من مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ملجأً لهم، في انتظار فرصة العبور إلى أوروبا، ويعيشون هناك لأشهر في ظروف تصفها الجمعيات الحقوقية بأنها مأساوية وغير إنسانية. كما يوجد عدد كبير من المهاجرين في المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء.
ويتصدر السنغاليون قائمة الجنسيات التي تعيش في الغابات المجاورة لسبتة بـ50 في المائة، متبوعين بالغينيين بـ22 في المائة، ثم الغامبيين بـ10 في المائة، والماليين بالنسبة نفسها، ومن كوت ديفوار بـ5 في المائة، وأخيراً الكاميرونيون بـ3 في المائة.
لكن رحلات الموت هذه لا تقتصر على المهاجرين الأفارقة فحسب، بل تشمل أيضاً أفواجاً كثيرة من الشباب المغربي الراغب في معانقة الضفة الأخرى، بعدما ظهرت قوارب سريعة لتجار المخدرات تنقل المهاجرين مقابل مبالغ مالية كبيرة، وأغلب هؤلاء الشباب تتراوح أعمارهم بين 13 و30 سنة، يمثلون مختلف مدن المغرب.

حملات ترحيل المهاجرين

في هذا الصدد، يقول عمر الناجي، مسؤول فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الناظور: إن حملات ترحيل المهاجرين تضاعفت بعد أواخر يونيو (حزيران) 2018، وتوسعت لتشمل مدينتي طنجة وتطوان ومناطق أخرى من الشمال؛ حيث بلغ عدد المرحلين، حسب تقديرات المتتبعين وجمعيات المهاجرين، أكثر من 6500 شخص.
لكن الجمعية انتقدت «السياسة الأمنية الأوروبية، التي تستمر في ممارسة الضغط على الدول الأفريقية، بالخصوص، لمنع المهاجرين من الوصول لأوروبا، وتعقيد شروط تحقيق ذلك»، على اعتبار أن «الهجرة حق مشروع تضمنه كثير من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولا سبيل لتجريم الحق في التنقل».
ومنذ يوليو (تموز) الماضي قامت السلطات المغربية بترحيل مئات المهاجرين الأفارقة من المناطق الساحلية للمتوسط إلى داخل وجنوب البلاد. وحسب مصدر أمني، فإن هذه الحملة استهدفت الأفارقة، الذين لا يتوفرون على بطاقة إقامة في المغرب. إضافة إلى الأفارقة الذين حصلوا على بطاقات الإقامة في مدن أخرى كالدار البيضاء والرباط وأغادير، والذين تنقلوا إلى المدن الشمالية على الساحل الأطلسي بهدف تحيّن فرص العبور إلى أوروبا. مشيراً إلى أن الكثير منهم أصبحوا يعيشون ظروفاً صعبة في ضواحي الناظور وطنجة، في انتظار فرص قد لا تأتي للعبور إلى الضفة الأخرى.
وفي سياق عودة حكايات «قوارب الموت» بين المغرب وإسبانيا إلى واجهة الأحداث خلال الأسابيع الأخيرة، قررت السلطات الإسبانية تنفيذ اتفاقية قديمة بين المغرب وإسبانيا، تتعلق بإعادة ترحيل المهاجرين غير القانونيين الذين يصلون عبر السواحل الإسبانية إلى المغرب، في حال ثبوت أنهم جاؤوا عن طريق المغرب.
يأتي ذلك في وقت ارتفع فيه ضغط المهاجرين الأفارقة على الحدود الإسبانية - المغربية بشكل غير مسبوق منذ يونيو الماضي. وفي هذا السياق، أوضح تقرير صدر الأسبوع الماضي عن وكالة الأمم المتحدة للهجرة، أن 51 ألف مهاجر من بين 104 آلاف مهاجر، وصلوا إلى أوروبا بحراً منذ بداية العام الحالي دخلوا من السواحل الإسبانية، وهو رقم أعلى من مجموع أعداد المهاجرين، الذين وصلوا السواحل الإسبانية خلال السنوات الثلاث الأخيرة مجتمعة. لكن خلال هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر فقد العشرات حياتهم. وحسب مرسيل أمييتو، رئيس نقابة العمال الأفارقة في المغرب، فإن هذا الارتفاع القوي في عدد ضحايا قوارب الموت ناتج بالأساس من وجود خطاب رائج لمن سماهم بـ«بائعي الأوهام»، الذين نجحوا في إقناع المهاجرين الأفارقة بأن وراء البحر تنتظرهم «الجنة».

مسار الرحلة إلى المغرب وكلفتها

كشف تقرير المرصد الحقوقي، عن أن 55 في المائة من المهاجرين دخلوا البلاد عن طريق الحدود الجزائرية - المغربية، وهو مسار طويل يستغرق بين شهر وستة أشهر للوصول إلى المغرب، وقد أكد عدد من المهاجرين أن رحلتهم غير آمنة، وأن الكثير منهم يلقون حتفهم في الصحراء، أو يتعرضون لاعتداءات العصابات التي تنشط بالمنطقة، والتي ترغمهم على دفع إتاوات مقابل السماح لهم بالعبور. كما يتم استغلالهم في العمل لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة. في حين عبر 35 في المائة؜ منهم عن طريق الحدود الموريتانية - المغربية التي لا تكلف سوى بضعة أيام، وغالباً لا تتجاوز الأسبوع، و10 في المائة فقط هم من وصلوا إلى المغرب عن طريق الجو.
وحدد 50 في المائة من الأشخاص كلفة السفر من بلدانهم الأصلية إلى المغرب بما بين 500 يورو وألف يورو، وحدد 30 في المائة؜ منهم كلفتها بأقل من 500 يورو، بينما حدد 20 في المائة كلفة السفر بأكثر من 1000 يورو.
وبخصوص ظروف عيش هؤلاء المهاجرين، أوضح التقرير أن 65 في المائة منهم يقيمون في كهوف أو خيام بلاستيكية داخل الغابات المحيطة بمدينة سبتة المحتلة، في حين أوضح 25 في المائة من المهاجرين الجنوب صحراويين أنهم يقيمون في مساكن جماعية، غالباً في مدينتي طنجة والفنيدق، في حين حدد 10 في المائة مكان إقامتهم بمساكن فردية.
وفي حين عبّر 65 في المائة من المهاجرين عن رغبتهم في متابعة الهجرة إلى أوروبا، عبّر30 في المائة عن استعدادهم للإقامة بالمغرب بصفة نهائية، في حال توفر العمل وتحسن ظروفهم المعيشية، بينما عبر 5 في المائة فقط عن رغبتهم في العودة إلى بلدانهم في حال تمكينهم من مساعدات مالية، تمكنهم من إنجاز أنشطة تجارية في بلدانهم الأصلية.
وحسب التقرير ذاته، رأى 60 في المائة من المهاجرين أن أفضل مسار نحو الجنوب الإسباني يبقى عن طريق «قوارب الموت»؛ وذلك بسبب تكثيف المراقبة الأمنية المغربية - الإسبانية حول سياجات المدينة عبر دوريات المراقبة اليومية. كما أن الكثير من المحاولات التي كان ينظمها المهاجرون في مجموعات كبيرة من أجل تسلق السياجات تبوء بالفشل، ويترتب عنها إصابات بليغة في صفوفهم.
وأعلن نور الدين بوطيب، الوزير المنتدب في وزارة الداخلية المغربية، مؤخراً، أن المغرب تمكن حتى نهاية سبتمبر الماضي من إحباط نحو 68 ألف محاولة للهجرة غير الشرعية، وتفكيك 122 شبكة إجرامية تنشط في هذا المجال. لكن في المقابل، تدعو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى وقف حملات التنقيل التي يتعرض لها المهاجرون من جنوب الصحراء من شمال المغرب إلى الجنوب، و«الكف عن لعب دور الدركي، ووضع قانون للهجرة يحترم الحقوق الأساسية للمهاجرين، ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان». لكن السلطات المغربية ترى أن ترحيل هؤلاء المهاجرين يهدف بالأساس إلى حمايتهم من شبكات الاتجار بالبشر، في حين أعلن المغرب رسمياً رفضه بشكل مطلق تشييد مراكز إيواء لاستقبال المهاجرين، كما تطالب أوروبا، واعتبر أن الاقتراح سيساهم في تعقيد المشكلة بدلاً من حلها. وقد طالبت الرباط بمساعدات مالية إضافية من الاتحاد الأوروبي لمواجهة تدفقات الهجرة غير الشرعية.
وللحد من تدفقات المهاجرين بصورة غير شرعية، شدد المغرب من إجراءات دخول أراضيه من طرف المهاجرين الأفارقة، ولجأ مؤخراً إلى فرض تأشيرة دخول على مواطني ثلاث دول أفريقية، هي الكونغو برازافيل وغينيا كوناكري ومالي، التي كانت من بين الدول التي لا يحتاج مواطنوها إلى تأشيرة لدخول المغرب. وأكدت مصادر في أوساط المهاجرين الأفارقة، أن الإجراء دخل حيز التطبيق في مطار محمد الخامس، الذي يستقبل 70 في المائة من المهاجرين الأفارقة الوافدين على المغرب، في حين أكدت المصادر، أن الإجراء لم يطبق بعد على الوافدين عبر المعبر الحدودي الكركرات على الحدود مع موريتانيا.
يقول أبو بكر ندياي، منسق جمعية السنغاليين المقيمين في مدينة العيون: «إن هجرة الأفارقة بالمغرب لها طابع خاص جداً. فمواطنو جميع دول غرب أفريقيا، باستثناء موريتانيا، يمكنهم دخول المغرب من دون تأشيرة. ويكفي الإدلاء في الحدود بجواز سفر قانوني لدخول البلاد، لكن لمدة محدودة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. المشكلة هي عندما يقرر الوافد التحول من زائر إلى مهاجر، ويقرر البقاء بعد انقضاء تصريح ثلاثة أشهر المؤشر عليه في جواز سفره، فعندها يجد نفسه في وضعية غير قانونية».
وحسب دراسة لمنظمة «كونراد أديناور» الألمانية حول الهجرة بالمغرب، فإن الغالبية الساحقة للمهاجرين الأفارقة يلجون البلاد بشكل قانوني، قبل أن يتحولوا إلى مهاجرين غير قانونيين، مشيرة إلى أن 12 في المائة فقط من المهاجرين الأفارقة يلجون المغرب من دون وثائق، وأن 70 في المائة من المهاجرين الأفارقة الوافدين على المغرب يأتون عن طريق الجو، ويدخلون أساساً من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، في حين يصل نحو 22 في المائة منهم براً بالسيارات والحافلات، و7 في المائة سيراً على الأقدام.

أعمار 15% من المهاجرين أقل من 18 سنة

> كشفت نتائج البحث الذي أنجزه «مرصد الشمال لحقوق الإنسان»، عن أن 15 في المائة من المهاجرين في المغرب تقل أعمارهم عن 18 سنة (قاصرون)، و40 في المائة تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة، و43 في المائة بين الفئة العمرية 26 و39 سنة، و2 في المائة فقط يتجاوز عمرهم 40 سنة؛ الأمر الذي يدل على أن الشباب هم الفئة التي تغامر بالهجرة. وبشأن المستوى التعليمي والمهن التي كان يزاولها المهاجرون في بلدانهم الأصلية، كشف البحث عن أن 40 في المائة مستواهم التعليمي ثانوي، و28 في المائة ابتدائي، و15 في المائة من دون أي مستوى، و10 في المائة جامعي، و7 في المائة مستواهم التعليمي إعدادي (متوسط). في حين يلاحظ أن 70 في المائة من العينة هم عزاب، و30 في المائة متزوجون.
وعبر 45 في المائة منهم، عن أن نشاطهم الأساسي في بلدهم الأصلي هو التجارة، و20 في المائة كانوا عاطلين عن العمل، وأن 25 في المائة مزارعون، و10 في المائة كانوا يعملون في قطاع الخدمات. أما بخصوص الأسباب التي تقف وراء هجرة هؤلاء الأفارقة، فقد عبّر 75 في المائة منهم أن الأوضاع الاقتصادية في بلدانهم هي السبب، مقابل 25 في المائة أرجعوا ذلك إلى الأوضاع والاضطرابات الأمنية التي تعيشها بلدانهم.

أحلام المهاجرين المصريين غير الشرعيين «تتبخر» في الصحراء

مصر

القاهرة: عبد الفتاح فرج

إذا كان شباب المغرب وتونس والجزائر يخاطر بحياته من أجل بلوغ القارة الأوروبية، فإن الوضع في مصر يختلف شيئاً ما، ذلك أن عدداً كبيراً من المصريين يحاول، عوضاً عن ذلك، بلوغ الأراضي الليبية بحثاً عن لقمة العيش.
السيد عبد الراضي، شاب عشريني ابن محافظة سوهاج، اضطر إلى جمع مبلغ سبعة آلاف جنيه مصري عن طريق العمل الشاق والاقتراض من أقاربه لتحقيق حلمه بالسفر إلى ليبيا، وبناء شقة حديثة في بيت والده، ثم الزواج من إحدى فتيات القرية التي ينتمي إليها. لكن محاولات تسلله إلى ليبيا عبر الدروب الصحراوية الوعرة باءت بالفشل، بعد ملاحقة قوات حرس الحدود المصرية للمجموعة، التي كان يسير معها في قلب الصحراء، جنوب واحة سيوة التي تبعد عن مدينة مطروح الساحلية بنحو 300 كلم جنوباً. ووفق ما قاله عبد الراضي لـ«الشرق الأوسط»، فإن حلم جمع مبالغ كبيرة في وقت قصير طغى على تفكيره، وجعله ينسى المخاطر التي قد تنجم عن الهجرة إلى ليبيا.
كلام الشاب المصري، الذي فشل في العبور إلى ليبيا، أكده البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية المصرية قبل أسبوع، والذي أعلنت فيه عن ضبط 86 قضية في مجال الهجرة غير الشرعية، ضمت مئات المتهمين والسماسرة، في وقت تكثف فيه الوزارة من جهودها لضبط المهربين والسماسرة.
وسلّط بيان الداخلية الضوء كذلك على إحباط عملية تهريب 33 مهاجراً غير شرعي في إحدى قضايا مكافحة الهجرة غير الشرعية، من بينهم اثنان يحملان جنسية إحدى الدول العربية، عند تواجدهما بأحد المنازل المهجورة، بمديرية أمن مطروح قبيل سفرهما، إلى جانب ضبط عدد من الصيادين المتهمين بنقل مهاجرين غير شرعيين. وقد عزز إعلان مديرية أمن مطروح قبل خمسة أشهر عن ضبط عدد سبعة أشخاص خلال رحلة هجرة غير شرعية على الحدود المصرية - الليبية، تصريحات الوزارة ذاتها.
ورغم حالة التشديد الأمني المفروضة من قبل عناصر الشرطة وقوات حرس الحدود، ومنع سفر العمال المصريين إلى ليبيا منذ شهر فبراير (شباط) 2015، بعدما ذبح تنظيم داعش الإرهابي 20 عاملاً مصرياً من الأقباط، فإن ثمة مهاجرين مصريين نجحوا بالفعل في العبور إلى الجانب الآخر بشكل غير شرعي، وهو ما يؤكده السيد رجب، أحد أهالي قرية ميت زنقر، بمركز طلخا في محافظة الدقهلية، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «مع أن قريتنا شهدت حوادث وفاة عدد من المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا خلال العام الماضي، إلا أن آخرين استطاعوا التسلل إلى ليبيا، ولم يخشوا من الموت وسط الصحراء، أو من الملاحقات الأمنية، حيث تواصل عدد منهم مع ذويهم بعد شهر كامل من مغادرتهم القرية».
وأضاف رجب موضحاً: إن هؤلاء الأشخاص «يفضلون الهرب إلى ليبيا في فصل الشتاء، بسبب ارتفاع دراجات الحرارة في فصل الصيف». لافتاً إلى أن عدداً من شبان القرية والقرى المجاورة ما زالوا يقدِمون على السفر عبر التهريب، بعد دفع مبالغ مالية تصل إلى 10 آلاف جنيه. وقال بهذا الخصوص «يعرف الأهالي السماسرة بشكل شخصي، وهم يتحركون بشكل طبيعي، وينجحون في إقناع الشباب بالسفر إلى ليبيا، مدعين أن حالتها الاقتصادية أفضل من مصر، وفرص العمل فيها كثيرة ورواتبها أفضل، مغفلين الشق الأمني والمخاطر التي يتعرض لها الشبان خلال الرحلة».
عمليات الهجرة غير الشرعية من مصر إلى ليبيا لم تظهر إلا بعد انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها حالة انفلات أمني ضربت معظم أنحاء مصر، وبالأخص حدودها الغربية. ووصل عدد المصريين الذين عادوا من ليبيا خلال ستة أشهر في عام 2015 إلى 76 ألف مصري، منهم 30 ألفاً دخلوا ليبيا بصورة غير شرعية، وفق إحصاءات صدرت من مديرية أمن مطروح، نشرتها صحف مصرية في العام نفسه. ولم تصدر السلطات المصرية إحصاءات حول أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وقبل عام ونصف العام عثرت السلطات الليبية على جثث 48 مهاجراً غير شرعي في منطقة صحراوية، تقع بين حدود مدينتي أجدابيا وطبرق (شرق ليبيا). وكان الضحايا وفق «الهلال الأحمر الليبي» من محافظات أسيوط والمنيا وبني سويف وكفر الشيخ، وجدت جثثهم في الصحراء على شكل مجموعات متفرقة قريبة من بعضها، من بينهم شاب يدعى علاء سعيد سيد، من مركز سمالوط بمحافظة المنيا (جنوبي القاهرة)، أصر على التسلل إلى ليبيا مع والده الذي سبق له السفر إلى ليبيا بشكل شرعي. لكن الشاب لفظ أنفاسه الأخيرة بسبب الشمس الحارقة، ونفاد طعامه وشرابه، فقام والده بدفنه بنفسه في حفره صغيرة قبل أن يستسلم لملاقاة مصير ابنه. لكن كُتب له عمر جديد بعد إنقاذه من قبل قوات حرس الحدود الليبية، وفق ما ذكرته زوجة الرجل فاطمة عبد الله لـ«الشرق الأوسط»، التي أوضحت أن المهربين يسلكون طريقين رئيسيتين للعبور إلى ليبيا: الأول جنوب منفذ السلوم الحدودي، والأخرى جنوب واحة سيوة، بداية بحر الرمال العظيم. «فاطمة» لا تزال تذرف دموعاً حارة على ابنها الذي افتقدته في رحلة الهجرة غير المشروعة، كما تقول، ورغم المخاطرة الكبيرة التي خاضها «علاء»، والأوجاع التي تركها لعائلته، فإن أحلامه الصغيرة لن تتحقق أبداً.

شبكات إجرامية تغري الشباب بالهجرة لجني أرباح خيالية

تونس

تونس: المنجي السعيداني

قبل أيام قليلة اعتقلت أجهزة الأمن التونسي امرأة حاملاً في مقتبل العمر، كانت بصدد الإبحار خلسة نحو السواحل الإيطالية، وعندما سألتها عن سبب المشاركة في هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، قالت إنها كانت تخطط لتضع مولودها في الديار الإيطالية؛ حتى يحصل بصفة آلية على الجنسية الإيطالية، وتتمكن بالتالي من تحسين وضعها الاقتصادي والحصول على الإقامة في هذا البلد الأوروبي، الذي بات يضيّق الخناق أكثر فأكثر على المهاجرين. هذه المرأة مجرد نموذج مصغر من عشرات الشبان التونسيين الذين يسعون بكل الوسائل للوصول إلى سواحل أوروبا بطرق مختلفة، وإن كان لكلٍ غايته المنشودة. لكن القاسم المشترك الذي يجمعهم جميعاً هو الفقر والخصاصة في المقام الأول.
وتؤكد مراكز الأبحاث والدراسات المختصة في مجال الهجرة، أن تونس أصبحت إحدى المحطات المهمة بالنسبة للهجرة الأفريقية نحو أوروبا، وبخاصة في بلدان ما وراء الصحراء، وباتت تغري الكثير من شبان أفريقيا للوصول إليها، والاستقرار مؤقتاً في انتظار ساعة الصفر، وربط العلاقات الضرورية مع المهربين وتجار البشر قصد عبور المتوسط في اتجاه ضفته الشمالية.
لكن هؤلاء المهاجرون الأفارقة يعانون خلال محطة الانتظار الطويلة من تمييز كبير في الأجور، ومن ساعات العمل الطويلة، وغالباً ما يستغلهم أصحاب المشروعات الاقتصادية الخاصة لأداء أعمال شاقة، وبخاصة في مجال البناء والأشغال العامة، وكذلك في القطاع الفلاحي، وغالباً ما يجدون أنفسهم مرغمين على القبول بأجور هزيلة في محاولة لجمع المال اللازم لرحلتهم السرية، واغتنام الفرصة المناسبة لعبور البحر.
ونتيجةً لتوافد آلاف الأفارقة الراغبين في ركوب قوارب الموت، باتت مناطق تونسية عدة تُعرف بأنها خزان الهجرة غير الشرعية، واشتهرت بكونها من بين محطات الانطلاق الرئيسية بالنسبة للشباب الأفريقي والتونسي على حد سواء. وفي هذا السياق، أكدت إحصائيات رسمية أن الشهور الأولى، التي تلت «ثورة الياسمين»، عرفت هجرة أكثر من 5 آلاف تونسي من منطقة جرجيس (جنوب شرقي)، وهي منطقة تقع على مقربة من الحدود مع ليبيا.
كما تُعرف مناطق أخرى بأنها ناشطة في هذا مجال تهريب البشر نحو أوروبا، مثل جزيرة قرقنة ومنطقة الهوارية، التي تعد أقرب نقطة إلى الأراضي الإيطالية، بالإضافة إلى منطقة بنزرت والمهدية. لكن غالباً ما تتغير أهمية المنطقة، تماشيا مع تضييقات رجال الأمن، ومثال على ذلك فبعد المراقبة الأمنية القوية التي عرفتها منطقة جرجيس تحول نشاط الهجرة غير الشرعية إلى جزيرة قرقنة؛ وهو ما جعلها تتحول في ظرف زمني قصير إلى قبلة كثير من الشبان الأفارقة من مختلف الجنسيات.
وخلافاً لسنوات الهجرة في سبعينات القرن الماضي، أصبحت عمليات الهجرة غير الشرعية من تونس نحو إيطاليا مؤطرة بشبكات «مافيوزية»، تجني من ورائها ثروات ضخمة. وقد تطور نشاط هذه العصابات بقوة، حيث أصبح يتم الترويج للهجرة عبر فيديوهات لشباب تونسيين وهم بصدد الإبحار نحو إيطاليا. ويتم تداول هذه الفيديوهات قصد تشجيع مزيد من الشبان على الهجرة غير الشرعية.
وبهذا الخصوص، قال مسعود الرمضاني، رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاجتماعية (منظمة حقوقية مستقلة) لـ«الشرق الأوسط»: إن «لجوء الحكومة إلى الحلول الأمنية لحل مشكل الهجرة غير النظامية بصفته حلاً وحيداً لن يفضي إلى استقرار حقيقي، ولن يثني الشباب التونسي على عدم المغامرة في الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط»، معتبراً في هذا السياق أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الشباب التونسي، وقلة خيارات التنمية وفرص العمل، من بين أهم العوائق التي تُفشل مخططات الحكومة في التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية.
ونتيجة لهذا الوضع الذي باتت تنعدم فيه فرص العمل وتأمين لقمة العيش، يواصل الشباب التونسي الارتماء في أحضان المتوسط، دون تقدير المخاطر المحدقة بهم؛ إذ غالباً ما يتركهم المشرفون على عمليات التهريب بعيداً عن السواحل الإيطالية، ويأمرونهم بمغادرة المركب؛ حتى لا تنتبه لهم الشرطة الإيطالية (الكرابينياري).
يقول أحد الناجين التونسيين من رحلة موت: إن «ربان السفينة التي استقلوها تركها عندما بدأت تغرق؛ حتى لا يقع بين أيدي قوات خفر السواحل الإيطالية، وفرّ بجلده تاركاً الشبان الحالمين في مواجهة مصيرهم المحتوم».
لكن على الرغم من شبح الموت، يؤكد الشاب خليفة البوجبلي، أنه لا يزال مستعداً للمحاولة آلاف المرات؛ حتى يتمكن من الوصول إلى «الجنة الموعودة» في القارة الأوروبية، حسب تعبيره، مشدداً على أنه سئم البقاء في تونس التي لا توفر له إلا الفتات، على حد تعبيره.
في السياق ذاته، يؤكد عبد القادر المهذبي، المدير العام للتعاون الدولي بوزارة الشؤون الخارجية التونسية، وجود نحو 10 آلاف مهاجر غير شرعي من أصول أفريقية عالقين في تونس. وقال على هامش مشاركته في مؤتمر إقليمي حول إشكاليات الهجرة في المنطقة الأورو – متوسطية: إن هؤلاء المهاجرين اختاروا تونس باعتبارها بلد عبور نحو الدول الأوروبية، وهم يعملون حالياً في عدد من القطاعات المضنية، كالبناء والفلاحة والخدمات في انتظار الفرصة المناسبة للمشاركة في رحلات الهجرة غير الشرعية.


مقالات ذات صلة

بسبب القوانين... «أطباء بلا حدود» تُوقف إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط

أوروبا منظمة «أطباء بلا حدود» تنقذ مئات المهاجرين على متن قارب في البحر الأبيض المتوسط (أ.ب)

بسبب القوانين... «أطباء بلا حدود» تُوقف إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط

أعلنت منظمة «أطباء بلا حدود»، الجمعة، وقف عملياتها لإنقاذ المهاجرين في وسط البحر الأبيض المتوسط بسبب «القوانين والسياسات الإيطالية».

«الشرق الأوسط» (روما)
المشرق العربي مهاجرون جرى إنقاذهم ينزلون من سفينة لخفر السواحل اليوناني بميناء ميتيليني (رويترز)

اليونان تعلّق دراسة طلبات اللجوء للسوريين

أعلنت اليونان التي تُعدّ منفذاً أساسياً لكثير من اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي، أنها علّقت بشكل مؤقت دراسة طلبات اللجوء المقدَّمة من سوريين

«الشرق الأوسط» (أثينا)
العالم العربي دول أوروبية تعلق البت في طلبات اللجوء المقدمة من سوريين (أ.ف.ب)

دول أوروبية تعلق طلبات اللجوء المقدمة من سوريين بعد الإطاحة بالأسد

علقت دول أوروبية كثيرة التعامل مع طلبات اللجوء المقدمة من سوريين بعد استيلاء المعارضة على دمشق وهروب الرئيس بشار الأسد إلى روسيا بعد 13 عاماً من الحرب الأهلية.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

جزر الباهاماس ترفض اقتراح ترمب باستقبال المهاجرين المرحّلين

قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية إن جزر الباهاماس رفضت اقتراحاً من إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب المقبلة، باستقبال المهاجرين المرحَّلين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مهاجرون أفارقة خلال محاولتهم اقتحام معبر سبتة الحدودي مع إسبانيا (أ.ف.ب)

إسبانيا تشيد بتعاون المغرب في تدبير تدفقات الهجرة

أشادت كاتبة الدولة الإسبانية للهجرة، بيلار كانسيلا رودريغيز بـ«التعاون الوثيق» مع المغرب في مجال تدبير تدفقات الهجرة.

«الشرق الأوسط» (الرباط)

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.