ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

باريس تحبس أنفاسها في «سبت حاسم}

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟
TT

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

تحبس فرنسا اليوم أنفاسها ويقض الخوف مضاجعها. إنه الخوف من المجهول وتحديدا مما سيحمله لها «السبت الأسود» الذي يطل برأسه منذراً بمزيد من العنف والفوضى ليس فقط في العاصمة باريس بل أيضا في المدن الرئيسية والمتوسطة. ومصدر الخوف أيضاً أن الحركات الاحتجاجية لم تعد فقط محصورة بـ«السترات الصفراء» التي انطلقت في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتتأهب اليوم لـ«الفصل الرابع» و«للنزول» مجددا إلى باريس إذ انضمت إليها الحركة الطلابية التي تشمل تلامذة التعليم الثانوي والجامعي ولكل مطالبه.
ولقد عرف يوم الخميس الماضي مشاهد من العنف لا تختلف كثيرا عما يجري في فرنسا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. إلا أن ما حصل في مدينة مانت لاجولي الواقعة شمال غربي باريس أثار استياء الفرنسيين. عشرات من الشبان راكعون وأيديهم فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الحائط وحولهم رجال الأمن من الشرطة وقمع الشغب بكامل معداتهم. إنهم مزيج من تلامذة ومن شبان من الخارج تم إيقافهم لأن الشرطة اعتبرت أنهم مثلوا تهديدا للأمن بسبب المظاهرة الاحتجاجية التي كانوا يقومون بها رفضا «لإصلاحات» وزير التربية التي أدخلها على شهادة البكالوريا وولوج المرحلة الجامعية. وكانت الصدمة عظيمة لدى الفرنسيين حتى أن جان ميشال بلانكيه، وزير التربية نفسه، لم يتردد في التعبير عن صدمته هو عندما شاهد مقاطع من الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كافة وعلى منصات القنوات التلفزيونية والصحافة.

لم يعد أصحاب «السترات الصفراء» والطلاب وحدهم في الساحة الاحتجاجية الفرنسية، إذ انضمت إليهم شرائح قطاعية إضافية لتزيد المشهد تعقيدا: القطاع الزراعي، سائقو الشاحنات، سائقو سيارات الإسعاف وغيرهم من أصحاب المطالب الذين يرون أن «الضعف» الذي ألم بالحكومة يشكل الفرصة المناسبة لانتزاع شيء ما في «مهرجان» المطالب المتكاثرة.
غير أن الأساس يبقى تحرك «السترات الصفراء» الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يصل إلى ما وصل إليه وأن يرخي هذا الجو من الخوف فوق رؤوس الفرنسيين، ويشلّ العمل الحكومي، ويبيّن التوتر في أعلى هرم السلطة، ويغيّب رئيس الجمهورية عن المسرح رغم الأحداث العنيفة تاركا رئيس حكومته في خط المواجهة الأول.
سُميت الحركة الاحتجاجية «السترات الصفراء» استنادا إلى السترة الصفراء التي يفترض أن توجد في كل سيارة في فرنسا ـ ويتوجب على سائقها ارتداؤها حين حصول حادث من أي نوع كان. أما جديد هذه الحركة فهو أنها لم تخرج من عباءة أي حزب من الأحزاب أو النقابات، بل انطلقت من خلال عريضة وضعت على الإنترنت، ومن أشخاص مجهولين تطالب بوقف زيادات الرسوم على المشتقات النفطية التي ما فتئت الحكومة تزيدها شهرا وراء شهر، خصوصاً على مادة الديزل (المازوت).
حجة الحكومة أن الزيادات ليس غرضها تحميل المواطنين، خصوصاً سكان الأرياف والمزارعين وكل من يحتاج لسيارته للتنقل، مزيدا من الرسوم التي تضاف إلى الكم الكبير من الضرائب التي يدفعها الفرنسي العادي - التي هي الأعلى في أوروبا -، بل التسريع في «النقلة البيئوية» التي التزمت بها فرنسا وكل البلدان التي وقعت على «اتفاقية باريس للبيئة» في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2015.
إذن، الغرض نبيل وتحقيقه يمرّ عبر رفع الرسوم للانتقال من الاعتماد على «الطاقة الملوثة» والانتقال إلى «الطاقة النظيفة».
وكان من المفترض أن ترتفع الرسوم المشار إليها بدءا من العام 2019 وتستمر في الأعوام التالية: 2020 و2021 و2022. وبصورة عامة، ومن غير هذه الزيادات، فإن الدولة تجني من الرسوم المفروضة على المحروقات ما لا يقل عن 35 مليار يورو سنويا ويفترض بالرسوم الجديدة أن توفر لها 4 مليارات إضافية.

طفح الكيل
حقيقة الأمر أن الرسوم المشار إليها لم تكن سوى الشرارة التي أطلقت الحريق الذي انتشر كالنار في الهشيم. وأساس المشكلة أن الدولة تتصرّف منذ أن وصل إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية في ربيع العام 2016 بكثير من الفوقية. ومشكلتها أنها صمّت أذنيها عن مطالب «السترات الصفراء»، معتبرة أنها موجة عابرة سبق أن واجهت أعتى منها في السابق، وبالذات، عند إطلاق إصلاح قانون العمل والقوانين الناظمة لقطاع السكك الحديد وقوانين أخرى كثيرة تندرج في سياق طموح الرئيس ماكرون في إحداث «تحولات عميقة» في المجتمع الفرنسي... الذي وصفه ماكلاوم يوما بأنه «رافض للتغيير».
وانطلاقا من هذا المعطى، رفضت الحكومة الاستجابة لمطلب محدد. وأكد ماكرون ورئيس الحكومة إدوار فيليب والوزراء المعنيون أن الدولة «لن تتراجع» وأن الرسوم الجديدة «باقية». وراهنت الدولة على تراخي الحركة الاحتجاجية التي انطلقت بإعاقة السير في المدن وعلى الطرقات السريعة، ومحاصرة مستودعات الطاقة الرئيسية.
وحصل أول «نزول» محدود إلى العاصمة في السبت الأول. وكما في كل حركة احتجاجية، تندس مجموعات «مشاغبة» تنتمي إلى اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، لا تتردّد في اللجوء إلى العنف والاشتباك مع القوى الأمنية. وحقاً، استخدمت الحكومة هذه الحجة لنزع الشرعية عن الحركة الاحتجاجية، كما استخدمت حجة تحريكها من الخارج، وتحديداً من اليمين المتطرف ومن حزب مارين لوبن «التجمع الوطني». لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ زاد تعاطف الرأي العام معها، ووصل حتى بعد أعمال العنف التي شهدتها العاصمة إلى 80 في المائة. والأهم من ذلك أن الحركة التي كان لها مطلب واحد في البداية أصبحت أكثر راديكالية، لا بل إن مطالبها تكاثرت لتشمل، إضافة إلى إلغاء زيادات الرسوم على المحروقات، خفض الضرائب ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية، وحتى إلغاء مجلس الشيوخ وإجراء استفتاء.
كان واضحاً، لمن يريد أن يفتح عينيه، أن حركة «السترات الصفراء» تعكس مزاجاً شعبياً رافضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها عهد ماكرون منذ البداية. والأمر الثاني أن الرئاسة والحكومة يغلب عليهما طابع التكنوقراطية التي لا تعرف حقيقة مشاكل الناس، لا بل إنها تنظر إليها بفوقية. ومن هنا، فإن السائل الذي أشعل الحركات الاحتجاجية، وحوّلها إلى ما أصبحت عليه كان بالدرجة الأولى ردّ فعل ماكرون نفسه، ثم الحكومة، وكلاهما لم يفهم طبيعتها أو عمقها. والأمر الثالث أن السلطات تعاملت بكثير من «الارتجال» مع «السترات الصفراء»، وهو ما ظهر في القرارات التي اتخذت التي جاءت إما متأخرة أو منقوصة. ولم يعد سراً وجود «خلافات» على رأس السلطة، وتحديداً، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة... وكيفية تعاطي الأول مع الثاني.
كان أول الغيث رفض إدوار فيليب، الآتي إلى الحكم من صفوف حزب «الجمهوريون» اليميني، التجاوب مع رغبة ماكرون في الاستجابة جزئياً لمطالب «السترات الصفراء» قبل أقل من أسبوعين. ومع ذلك، خطا ماكرون نصف خطوة بإعلانه اعتماد «آلية» تكون مهمتها النظر في زيادات الرسوم وتكييفها وفق تحولات السوق النفطية. إلا أن هذه الخطوة «الناقصة» دفعت بـ«السترات الصفراء» إلى جادة الشانزليزيه في أول «سبت أسود».
وجاء «السبت الأسود» الثاني ليقلب الأمور رأساً على عقب بسبب بما عرفته باريس وعدد من المدن الكبرى من أعمال شغب واشتعال الحرائق، ومعارك كرّ وفرّ بين المحتجين ومن اندس في صفوفهم والقوات الأمنية... وعجز الأخيرة عن السيطرة على الوضع. وتبين للسلطات أن التمسك بالموقف الرافض الاستجابة لمطالب المحتجّين، بحجة أن التراجع عنه يعني «انكسار» الدولة بوجه الشارع، أصبح مستحيلاً، لا سيما، أن جميع الأحزاب - وبينها أصوات من داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» - ما فتئت تحثّ الحكومة على التخلي عن تصلّبها. ومن هنا، جاء إعلان رئيس الحكومة أول من أمس في البرلمان، بعد اجتماع ليلي في قصر الإليزيه برئاسة ماكرون، عن «تجميد» الزيادات على المحروقات، بما فيها الغاز والكهرباء طيلة ستة أشهر. ولأن رد الفعل جاء سلبيا واعتبار الحركة الاحتجاجية أن التدابير الحكومية «مجزوءة ومتأخرة»، دخل قصر الإليزيه على الخط ليعلن أن الرئيس ألغى كل الزيادات لسنة 2019 كاملة.

رئاسة تخطتها الأحداث
الواضح أن الرئاسة الفرنسية، التي عُرف عنها خلال عام ونصف جديتها وتمكّنها من إدارة شؤون الدولة بيد من حديد، تخطّتها الأحداث. لقد تراجعت بعدما أكدت سابقاً أنها «لن تتزحزح»، ولم تكتف بإلغاء الزيادات... بل أبطلت قراراً سابقاً بتشديد المعايير التقنية المفروضة على السيارات، وألغت الزيادات المقرّرة - ككل بداية عام - على أسعار الغاز المنزلي والكهرباء، وسعت لاسترضاء المزارعين وكل من رفع مطلباً...
من ناحية ثانية، قرار ماكرون «المزايدة» على رئيس الحكومة وضع الأخير في موقف حرج، ونزع عنه «هيبة» الموقع الذي يحتله. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فبالنظر إلى مطالبة غالبية الطيف السياسي بأن تتراجع الحكومة عن قرارها العام الماضي إلغاء «الضريبة على الثروة»، اعتبر بعض الوزراء وعلى رأسهم إدوار فيليب أنه من المفيد تنفيس الاحتقان و«فتح كوة» للنقاش في هذا الملف المتفجّر الذي جعل الناس ينظرون إلى ماكرون على أنه «رئيس الأغنياء». ولذا، لم يستبعد رئيس الحكومة في خطابه أمام النواب، أول من أمس، أن تعمد الحكومة إلى مراجعة قرارها، والنظر فيما إذا كان حقيقة يدفع المستفيدين من إلغاء الضريبة المذكورة إلى الاستثمار في الاقتصاد الفرنسي. كذلك فعل الناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو ووزيرة الثقافة مارلين شيابا.
إلا أن الرد من ماكرون جاء صاعقاً، إذ أغلق الباب تماماً أمام هذه الاحتمالات، بتأكيده في مجلس الوزراء يوم الأربعاء أن «ما تقرر لن يعاد النظر فيه». واختار ماكرون، الذي يدير العمليات عن بعد الصمت منذ عودته من العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس الأحد الماضي. وأعلن ريشار فران، رئيس مجلس النواب والمقرّب منه، أنه سيتوجه إلى الفرنسيين «الأسبوع القادم»، والسبب في ذلك أنه «لا يريد صبّ الزيت على النار» الأمر الذي يبدو غريباً، إذ أن وظيفة رئيس الجمهورية إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين لا تأجيجها.

ماذا سيجري اليوم؟
من المبكر السعي لمحصلة نهائية للحركات الاحتجاجية المتشابكة والمتواصلة لأنها لم تتكامل فصولا. لكن الاختبار الأخطر بالنسبة للدولة هو ما سيجري اليوم السبت الذي يدشّن «الفصل الرابع» من «انتفاضة السترات الصفراء».
وتحسباً لما سيحصل، عمدت الدولة إلى حشد نحو 90 ألف رجل أمن منهم 8 آلاف لباريس وحدها، في محاولة منها للسيطرة على الوضع، وتلافي تكرار مشاهد العنف التي أدمت باريس والكثير من المدن السبت الماضي. وللمرة الأولى سيشاهد الباريسيون في شوارعهم مدرّعات قوى مكافحة الشغب في غير مناسبة احتفالات العرض العسكري الذي ينظم سنوياً يوم 14 يوليو (تموز). وبموازاة ذلك، عمدت السلطات إلى إغلاق المراكز السياحية الرئيسية، وعلى رأسها برج إيفل ومتحف اللوفر ومتحف أورساي. وحثّت بلدية باريس أصحاب المتاجر في منطقة الشانزليزيه والجادات المتفرعة عن ساحة «الإيتوال»، حيث قوس النصر، إلى اتخاذ تدابير وقائية، لا بل الإغلاق.
كل يوم سبت في فرنسا يأتي بجديد. وبعدما كان يوماً عاديا، ككل أيام السنة التي تشهد مظاهرات واحتجاجات في كل أنحاء البلاد، تحوّل شيئا فشيئاً إلى يوم «أسود»... بدا «داكناً» بعض الشيء في مستهل الأحداث، لكنه مع كل أسبوع تزداد «دكانته» حتى أصبح اليوم «حالكاً». وربما كان من الأدق الحديث عن «سبت أحمر»... نظراً لأعداد الجرحى بالمئات من المحتجين ورجال الأمن، أو بسبب الحرائق التي لفّت الأحياء الباريسية الراقية السبت الماضي.

صورة قوس النصر
كم هي بعيدة صورة قوس النصر يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) عن صورته يوم السبت الماضي.
في التاريخ الأول، كان ملتقى قادة العالم الذين اجتمع منهم 75 ملكاً ورئيساً ورئيس حكومة... جاءوا كلهم للاحتفال بالمئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية التي أدمت بدايات القرن الماضي. أما السبت الماضي، فقد تحوّلت باريس ذاك اليوم الممطر إلى ساحة حرب حقيقية... قنابل مسيلة للدموع وقنابل صوتية من جهة، مقابل حجارة الأرصفة والعبوات وكل ما وقع تحت أيدي المحتجين، وخصوصاً، مجموعات المشاغبين من اليسار المتطرف «البلاك بلوك» أو اليمين المتطرف التي «تتسلق» كل القطارات الاحتجاجية وغرضها الاشتباك مع القوى الأمنية وزرع الفوضى.
باريس عادت مجدّداً لتتحول إلى «عاصمة العالم». والمشهد الباريسي تحوّل إلى حدث كوني نقلته القنوات الإخبارية دقيقة وراء دقيقة. العالم كله تسمّرت أنظاره على مجموعات من الشباب الذين يغطون رؤوسهم ووجوههم كيفما اتفق، ويضعون أقنعة واقية من الغاز الذي انهمر بكثافة على المحتجين. ويُحسب لهم أنهم نجحوا في إرباك القوى الأمنية التي وفّرت منها مديرية الشرطة في العاصمة ووزارة الداخلية أكثر من 5500 رجل أمن، بينهم كثيرون من وحدات مكافحة الشغب بمنظرهم الخارجي المخيف، ومئات السيارات وعشرات الشاحنات المجهّزة بخراطيم المياه.
لكن ذلك كله لم يكن ذا فائدة. وكانت الخطة الأمنية تقضي بمنع الوصول إلى «المربع الذهبي»، الذي قلبه القصر الرئاسي في شارع فوبور سانت هونوريه، لكنه يمتد جنوبا ليضم ساحة «الكونكورد»، بمسلتها الفرعونية وفنادقها الفخمة مثل فندق لو كريون الملاصق لمبنى السفارة الأميركية، إضافة إلى مبنى المجلس النيابي بأعمدته الإغريقية... ووصولا إلى مبنى رئاسة الحكومة.
غير أنه ما خلا هذه المنطقة البالغة الحماية، كان مسرحاً لأعمال عنف لم ينج منها قوس النصر الذي كان الإمبراطور نابوليون بونابرت قد أمر بتشييده لتخليد انتصاراته العسكرية وإنجازاته المدنية.
وخلال ثلاثة أسابيع من التحرّكات سجّل مئات التوقيفات وعشرات الجرحى. والحقيقة أن المحصلة تبدو ثقيلة للغاية: 820 جريحا في أوساط المحتجين و200 في صفوف رجال الأمن. والقبض على 1600 شخص منهم وأوقف ما لا يقل عن 100 شخص... حتى أن المحاكم في باريس وخارجها بدت عاجزة عن التعاطي مع هذه الأعداد الكبيرة من الموقوفين. وبجانب الخسائر المادية ومنها الممتلكات والسيارات المحروقة، فإن الخسارة الأكبر هي تدهور صورة باريس قبل أيام من أعياد الميلاد ونهاية السنة، وما لذلك من تأثير على المدى البعيد على جاذبية هذه المدينة.
يبقى سؤال يتعين طرحه: كيف انحدرت الأمور إلى هذا الدرك في بلد ديمقراطي كفرنسا، يكفل دستوره حق التظاهر والاحتجاج، بل كان البلد الأول في العالم الذي أوجد شرعة لحقوق الإنسان مباشرة بعد ثورة العام 1789؟
حقيقة الأمر أن الفرنسيين حائرون، ويبدون عاجزين عن فهم ما حصل للرئيس إيمانويل ماكرون، الشاب الطموح الذي قبض على الرئاسة وهو تحت سن الأربعين. وجاء ببرنامج إصلاحي «جذري» يريد بموجبه إحداث «تغييرات عميقة» في المجتمع الفرنسي... فشل سابقوه أو لم يرغبوا في القيام بها.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.