ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

باريس تحبس أنفاسها في «سبت حاسم}

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟
TT

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

ماكرون أمام تحدٍ كبير... أم سقوط عظيم؟

تحبس فرنسا اليوم أنفاسها ويقض الخوف مضاجعها. إنه الخوف من المجهول وتحديدا مما سيحمله لها «السبت الأسود» الذي يطل برأسه منذراً بمزيد من العنف والفوضى ليس فقط في العاصمة باريس بل أيضا في المدن الرئيسية والمتوسطة. ومصدر الخوف أيضاً أن الحركات الاحتجاجية لم تعد فقط محصورة بـ«السترات الصفراء» التي انطلقت في السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وتتأهب اليوم لـ«الفصل الرابع» و«للنزول» مجددا إلى باريس إذ انضمت إليها الحركة الطلابية التي تشمل تلامذة التعليم الثانوي والجامعي ولكل مطالبه.
ولقد عرف يوم الخميس الماضي مشاهد من العنف لا تختلف كثيرا عما يجري في فرنسا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. إلا أن ما حصل في مدينة مانت لاجولي الواقعة شمال غربي باريس أثار استياء الفرنسيين. عشرات من الشبان راكعون وأيديهم فوق رؤوسهم ووجوههم إلى الحائط وحولهم رجال الأمن من الشرطة وقمع الشغب بكامل معداتهم. إنهم مزيج من تلامذة ومن شبان من الخارج تم إيقافهم لأن الشرطة اعتبرت أنهم مثلوا تهديدا للأمن بسبب المظاهرة الاحتجاجية التي كانوا يقومون بها رفضا «لإصلاحات» وزير التربية التي أدخلها على شهادة البكالوريا وولوج المرحلة الجامعية. وكانت الصدمة عظيمة لدى الفرنسيين حتى أن جان ميشال بلانكيه، وزير التربية نفسه، لم يتردد في التعبير عن صدمته هو عندما شاهد مقاطع من الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كافة وعلى منصات القنوات التلفزيونية والصحافة.

لم يعد أصحاب «السترات الصفراء» والطلاب وحدهم في الساحة الاحتجاجية الفرنسية، إذ انضمت إليهم شرائح قطاعية إضافية لتزيد المشهد تعقيدا: القطاع الزراعي، سائقو الشاحنات، سائقو سيارات الإسعاف وغيرهم من أصحاب المطالب الذين يرون أن «الضعف» الذي ألم بالحكومة يشكل الفرصة المناسبة لانتزاع شيء ما في «مهرجان» المطالب المتكاثرة.
غير أن الأساس يبقى تحرك «السترات الصفراء» الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يصل إلى ما وصل إليه وأن يرخي هذا الجو من الخوف فوق رؤوس الفرنسيين، ويشلّ العمل الحكومي، ويبيّن التوتر في أعلى هرم السلطة، ويغيّب رئيس الجمهورية عن المسرح رغم الأحداث العنيفة تاركا رئيس حكومته في خط المواجهة الأول.
سُميت الحركة الاحتجاجية «السترات الصفراء» استنادا إلى السترة الصفراء التي يفترض أن توجد في كل سيارة في فرنسا ـ ويتوجب على سائقها ارتداؤها حين حصول حادث من أي نوع كان. أما جديد هذه الحركة فهو أنها لم تخرج من عباءة أي حزب من الأحزاب أو النقابات، بل انطلقت من خلال عريضة وضعت على الإنترنت، ومن أشخاص مجهولين تطالب بوقف زيادات الرسوم على المشتقات النفطية التي ما فتئت الحكومة تزيدها شهرا وراء شهر، خصوصاً على مادة الديزل (المازوت).
حجة الحكومة أن الزيادات ليس غرضها تحميل المواطنين، خصوصاً سكان الأرياف والمزارعين وكل من يحتاج لسيارته للتنقل، مزيدا من الرسوم التي تضاف إلى الكم الكبير من الضرائب التي يدفعها الفرنسي العادي - التي هي الأعلى في أوروبا -، بل التسريع في «النقلة البيئوية» التي التزمت بها فرنسا وكل البلدان التي وقعت على «اتفاقية باريس للبيئة» في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2015.
إذن، الغرض نبيل وتحقيقه يمرّ عبر رفع الرسوم للانتقال من الاعتماد على «الطاقة الملوثة» والانتقال إلى «الطاقة النظيفة».
وكان من المفترض أن ترتفع الرسوم المشار إليها بدءا من العام 2019 وتستمر في الأعوام التالية: 2020 و2021 و2022. وبصورة عامة، ومن غير هذه الزيادات، فإن الدولة تجني من الرسوم المفروضة على المحروقات ما لا يقل عن 35 مليار يورو سنويا ويفترض بالرسوم الجديدة أن توفر لها 4 مليارات إضافية.

طفح الكيل
حقيقة الأمر أن الرسوم المشار إليها لم تكن سوى الشرارة التي أطلقت الحريق الذي انتشر كالنار في الهشيم. وأساس المشكلة أن الدولة تتصرّف منذ أن وصل إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية في ربيع العام 2016 بكثير من الفوقية. ومشكلتها أنها صمّت أذنيها عن مطالب «السترات الصفراء»، معتبرة أنها موجة عابرة سبق أن واجهت أعتى منها في السابق، وبالذات، عند إطلاق إصلاح قانون العمل والقوانين الناظمة لقطاع السكك الحديد وقوانين أخرى كثيرة تندرج في سياق طموح الرئيس ماكرون في إحداث «تحولات عميقة» في المجتمع الفرنسي... الذي وصفه ماكلاوم يوما بأنه «رافض للتغيير».
وانطلاقا من هذا المعطى، رفضت الحكومة الاستجابة لمطلب محدد. وأكد ماكرون ورئيس الحكومة إدوار فيليب والوزراء المعنيون أن الدولة «لن تتراجع» وأن الرسوم الجديدة «باقية». وراهنت الدولة على تراخي الحركة الاحتجاجية التي انطلقت بإعاقة السير في المدن وعلى الطرقات السريعة، ومحاصرة مستودعات الطاقة الرئيسية.
وحصل أول «نزول» محدود إلى العاصمة في السبت الأول. وكما في كل حركة احتجاجية، تندس مجموعات «مشاغبة» تنتمي إلى اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، لا تتردّد في اللجوء إلى العنف والاشتباك مع القوى الأمنية. وحقاً، استخدمت الحكومة هذه الحجة لنزع الشرعية عن الحركة الاحتجاجية، كما استخدمت حجة تحريكها من الخارج، وتحديداً من اليمين المتطرف ومن حزب مارين لوبن «التجمع الوطني». لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ زاد تعاطف الرأي العام معها، ووصل حتى بعد أعمال العنف التي شهدتها العاصمة إلى 80 في المائة. والأهم من ذلك أن الحركة التي كان لها مطلب واحد في البداية أصبحت أكثر راديكالية، لا بل إن مطالبها تكاثرت لتشمل، إضافة إلى إلغاء زيادات الرسوم على المحروقات، خفض الضرائب ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية، وحتى إلغاء مجلس الشيوخ وإجراء استفتاء.
كان واضحاً، لمن يريد أن يفتح عينيه، أن حركة «السترات الصفراء» تعكس مزاجاً شعبياً رافضاً للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها عهد ماكرون منذ البداية. والأمر الثاني أن الرئاسة والحكومة يغلب عليهما طابع التكنوقراطية التي لا تعرف حقيقة مشاكل الناس، لا بل إنها تنظر إليها بفوقية. ومن هنا، فإن السائل الذي أشعل الحركات الاحتجاجية، وحوّلها إلى ما أصبحت عليه كان بالدرجة الأولى ردّ فعل ماكرون نفسه، ثم الحكومة، وكلاهما لم يفهم طبيعتها أو عمقها. والأمر الثالث أن السلطات تعاملت بكثير من «الارتجال» مع «السترات الصفراء»، وهو ما ظهر في القرارات التي اتخذت التي جاءت إما متأخرة أو منقوصة. ولم يعد سراً وجود «خلافات» على رأس السلطة، وتحديداً، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة... وكيفية تعاطي الأول مع الثاني.
كان أول الغيث رفض إدوار فيليب، الآتي إلى الحكم من صفوف حزب «الجمهوريون» اليميني، التجاوب مع رغبة ماكرون في الاستجابة جزئياً لمطالب «السترات الصفراء» قبل أقل من أسبوعين. ومع ذلك، خطا ماكرون نصف خطوة بإعلانه اعتماد «آلية» تكون مهمتها النظر في زيادات الرسوم وتكييفها وفق تحولات السوق النفطية. إلا أن هذه الخطوة «الناقصة» دفعت بـ«السترات الصفراء» إلى جادة الشانزليزيه في أول «سبت أسود».
وجاء «السبت الأسود» الثاني ليقلب الأمور رأساً على عقب بسبب بما عرفته باريس وعدد من المدن الكبرى من أعمال شغب واشتعال الحرائق، ومعارك كرّ وفرّ بين المحتجين ومن اندس في صفوفهم والقوات الأمنية... وعجز الأخيرة عن السيطرة على الوضع. وتبين للسلطات أن التمسك بالموقف الرافض الاستجابة لمطالب المحتجّين، بحجة أن التراجع عنه يعني «انكسار» الدولة بوجه الشارع، أصبح مستحيلاً، لا سيما، أن جميع الأحزاب - وبينها أصوات من داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» - ما فتئت تحثّ الحكومة على التخلي عن تصلّبها. ومن هنا، جاء إعلان رئيس الحكومة أول من أمس في البرلمان، بعد اجتماع ليلي في قصر الإليزيه برئاسة ماكرون، عن «تجميد» الزيادات على المحروقات، بما فيها الغاز والكهرباء طيلة ستة أشهر. ولأن رد الفعل جاء سلبيا واعتبار الحركة الاحتجاجية أن التدابير الحكومية «مجزوءة ومتأخرة»، دخل قصر الإليزيه على الخط ليعلن أن الرئيس ألغى كل الزيادات لسنة 2019 كاملة.

رئاسة تخطتها الأحداث
الواضح أن الرئاسة الفرنسية، التي عُرف عنها خلال عام ونصف جديتها وتمكّنها من إدارة شؤون الدولة بيد من حديد، تخطّتها الأحداث. لقد تراجعت بعدما أكدت سابقاً أنها «لن تتزحزح»، ولم تكتف بإلغاء الزيادات... بل أبطلت قراراً سابقاً بتشديد المعايير التقنية المفروضة على السيارات، وألغت الزيادات المقرّرة - ككل بداية عام - على أسعار الغاز المنزلي والكهرباء، وسعت لاسترضاء المزارعين وكل من رفع مطلباً...
من ناحية ثانية، قرار ماكرون «المزايدة» على رئيس الحكومة وضع الأخير في موقف حرج، ونزع عنه «هيبة» الموقع الذي يحتله. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فبالنظر إلى مطالبة غالبية الطيف السياسي بأن تتراجع الحكومة عن قرارها العام الماضي إلغاء «الضريبة على الثروة»، اعتبر بعض الوزراء وعلى رأسهم إدوار فيليب أنه من المفيد تنفيس الاحتقان و«فتح كوة» للنقاش في هذا الملف المتفجّر الذي جعل الناس ينظرون إلى ماكرون على أنه «رئيس الأغنياء». ولذا، لم يستبعد رئيس الحكومة في خطابه أمام النواب، أول من أمس، أن تعمد الحكومة إلى مراجعة قرارها، والنظر فيما إذا كان حقيقة يدفع المستفيدين من إلغاء الضريبة المذكورة إلى الاستثمار في الاقتصاد الفرنسي. كذلك فعل الناطق باسم الحكومة بنجامين غريفو ووزيرة الثقافة مارلين شيابا.
إلا أن الرد من ماكرون جاء صاعقاً، إذ أغلق الباب تماماً أمام هذه الاحتمالات، بتأكيده في مجلس الوزراء يوم الأربعاء أن «ما تقرر لن يعاد النظر فيه». واختار ماكرون، الذي يدير العمليات عن بعد الصمت منذ عودته من العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس الأحد الماضي. وأعلن ريشار فران، رئيس مجلس النواب والمقرّب منه، أنه سيتوجه إلى الفرنسيين «الأسبوع القادم»، والسبب في ذلك أنه «لا يريد صبّ الزيت على النار» الأمر الذي يبدو غريباً، إذ أن وظيفة رئيس الجمهورية إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين لا تأجيجها.

ماذا سيجري اليوم؟
من المبكر السعي لمحصلة نهائية للحركات الاحتجاجية المتشابكة والمتواصلة لأنها لم تتكامل فصولا. لكن الاختبار الأخطر بالنسبة للدولة هو ما سيجري اليوم السبت الذي يدشّن «الفصل الرابع» من «انتفاضة السترات الصفراء».
وتحسباً لما سيحصل، عمدت الدولة إلى حشد نحو 90 ألف رجل أمن منهم 8 آلاف لباريس وحدها، في محاولة منها للسيطرة على الوضع، وتلافي تكرار مشاهد العنف التي أدمت باريس والكثير من المدن السبت الماضي. وللمرة الأولى سيشاهد الباريسيون في شوارعهم مدرّعات قوى مكافحة الشغب في غير مناسبة احتفالات العرض العسكري الذي ينظم سنوياً يوم 14 يوليو (تموز). وبموازاة ذلك، عمدت السلطات إلى إغلاق المراكز السياحية الرئيسية، وعلى رأسها برج إيفل ومتحف اللوفر ومتحف أورساي. وحثّت بلدية باريس أصحاب المتاجر في منطقة الشانزليزيه والجادات المتفرعة عن ساحة «الإيتوال»، حيث قوس النصر، إلى اتخاذ تدابير وقائية، لا بل الإغلاق.
كل يوم سبت في فرنسا يأتي بجديد. وبعدما كان يوماً عاديا، ككل أيام السنة التي تشهد مظاهرات واحتجاجات في كل أنحاء البلاد، تحوّل شيئا فشيئاً إلى يوم «أسود»... بدا «داكناً» بعض الشيء في مستهل الأحداث، لكنه مع كل أسبوع تزداد «دكانته» حتى أصبح اليوم «حالكاً». وربما كان من الأدق الحديث عن «سبت أحمر»... نظراً لأعداد الجرحى بالمئات من المحتجين ورجال الأمن، أو بسبب الحرائق التي لفّت الأحياء الباريسية الراقية السبت الماضي.

صورة قوس النصر
كم هي بعيدة صورة قوس النصر يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) عن صورته يوم السبت الماضي.
في التاريخ الأول، كان ملتقى قادة العالم الذين اجتمع منهم 75 ملكاً ورئيساً ورئيس حكومة... جاءوا كلهم للاحتفال بالمئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية التي أدمت بدايات القرن الماضي. أما السبت الماضي، فقد تحوّلت باريس ذاك اليوم الممطر إلى ساحة حرب حقيقية... قنابل مسيلة للدموع وقنابل صوتية من جهة، مقابل حجارة الأرصفة والعبوات وكل ما وقع تحت أيدي المحتجين، وخصوصاً، مجموعات المشاغبين من اليسار المتطرف «البلاك بلوك» أو اليمين المتطرف التي «تتسلق» كل القطارات الاحتجاجية وغرضها الاشتباك مع القوى الأمنية وزرع الفوضى.
باريس عادت مجدّداً لتتحول إلى «عاصمة العالم». والمشهد الباريسي تحوّل إلى حدث كوني نقلته القنوات الإخبارية دقيقة وراء دقيقة. العالم كله تسمّرت أنظاره على مجموعات من الشباب الذين يغطون رؤوسهم ووجوههم كيفما اتفق، ويضعون أقنعة واقية من الغاز الذي انهمر بكثافة على المحتجين. ويُحسب لهم أنهم نجحوا في إرباك القوى الأمنية التي وفّرت منها مديرية الشرطة في العاصمة ووزارة الداخلية أكثر من 5500 رجل أمن، بينهم كثيرون من وحدات مكافحة الشغب بمنظرهم الخارجي المخيف، ومئات السيارات وعشرات الشاحنات المجهّزة بخراطيم المياه.
لكن ذلك كله لم يكن ذا فائدة. وكانت الخطة الأمنية تقضي بمنع الوصول إلى «المربع الذهبي»، الذي قلبه القصر الرئاسي في شارع فوبور سانت هونوريه، لكنه يمتد جنوبا ليضم ساحة «الكونكورد»، بمسلتها الفرعونية وفنادقها الفخمة مثل فندق لو كريون الملاصق لمبنى السفارة الأميركية، إضافة إلى مبنى المجلس النيابي بأعمدته الإغريقية... ووصولا إلى مبنى رئاسة الحكومة.
غير أنه ما خلا هذه المنطقة البالغة الحماية، كان مسرحاً لأعمال عنف لم ينج منها قوس النصر الذي كان الإمبراطور نابوليون بونابرت قد أمر بتشييده لتخليد انتصاراته العسكرية وإنجازاته المدنية.
وخلال ثلاثة أسابيع من التحرّكات سجّل مئات التوقيفات وعشرات الجرحى. والحقيقة أن المحصلة تبدو ثقيلة للغاية: 820 جريحا في أوساط المحتجين و200 في صفوف رجال الأمن. والقبض على 1600 شخص منهم وأوقف ما لا يقل عن 100 شخص... حتى أن المحاكم في باريس وخارجها بدت عاجزة عن التعاطي مع هذه الأعداد الكبيرة من الموقوفين. وبجانب الخسائر المادية ومنها الممتلكات والسيارات المحروقة، فإن الخسارة الأكبر هي تدهور صورة باريس قبل أيام من أعياد الميلاد ونهاية السنة، وما لذلك من تأثير على المدى البعيد على جاذبية هذه المدينة.
يبقى سؤال يتعين طرحه: كيف انحدرت الأمور إلى هذا الدرك في بلد ديمقراطي كفرنسا، يكفل دستوره حق التظاهر والاحتجاج، بل كان البلد الأول في العالم الذي أوجد شرعة لحقوق الإنسان مباشرة بعد ثورة العام 1789؟
حقيقة الأمر أن الفرنسيين حائرون، ويبدون عاجزين عن فهم ما حصل للرئيس إيمانويل ماكرون، الشاب الطموح الذي قبض على الرئاسة وهو تحت سن الأربعين. وجاء ببرنامج إصلاحي «جذري» يريد بموجبه إحداث «تغييرات عميقة» في المجتمع الفرنسي... فشل سابقوه أو لم يرغبوا في القيام بها.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
TT

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات البرلمان المحلي. واصطف الناخبون في طوابير طويلة، خارج مراكز الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم. وأفادت لجنة الانتخابات الهندية بأن نسبة المشاركة في التصويت تجاوزت 61 في المائة، ما يشكل أعلى نسبة منذ 35 سنة. ويذكر أن الصراع في كشمير، الذي يعود بجذوره إلى تقسيم الهند وباكستان عام 1947، مستعر منذ أكثر من سبعة عقود. ولذا بدا مشهد طابور المقترعين عَصياً على التصديق، بالنظر إلى تاريخ منطقة كشمير الطبيعية العنيف لأكثر عن ثلاثة عقود. ويُذكر أن كلاً من الهند وباكستان تدعي أحقيتها بالسيادة الكاملة على كشمير الطبيعية، إلا أن كلاً منهما تسيطر على جزء من الإقليم، في عداء مستحكم زاد عمره على 75 سنة شهد توتراً ومجابهات عسكرية بين الجارتين النوويتين، منذ استقلالهما عن الحكم الاستعماري البريطاني عام 1947.

كانت أول انتخابات برلمانية في جامو وكشمير قد أجريت مارس (آذار) ويونيو (حزيران) 1957، ودار التنافس حينذاك على 75 مقعداً، بموجب الدستور الخاص بالإقليم. أما الانتخابات التشريعية الحالية، فتُعدّ الأولى منذ إلغاء حكومة ناريندرا مودي، الهندية اليمينية المتشددة، المادة 370 عام 2019، وخفض الوضع القانوني لما كان ولاية جامو وكشمير – وهو أعلى التقسيمات الإدارية في الهند – إلى مجرد «إقليم اتحادي» ووضعه تحت الحكم المباشر من العاصمة دلهي. ومعروف أن وضع «الولاية» أعطى جامو وكشمير دستورها وقوانينها وخدماتها الإدارية الخاصة... لكن اليمين القوي الهندوسي لا يريد ذلك.

تحوّل عند المقاطعين؟

تفيد جهات محسوبة على حكومة مودي بأن الناخبين الذين قاطعوا الانتخابات طوال السنوات الـ34 الماضية، أظهروا «تحولاً لافتاً» نحو الديمقراطية التشاركية، وتوجّهوا إلى صناديق الاقتراع لخوض تجربة التصويت الأولى لهم، ولم يكن هناك خوف من العنف المسلح أو الإكراه من أي جانب.

وتاريخياً، لطالما كانت مشاركة الناخبين في كشمير ضعيفة بسبب قوة النزعة الاستقلالية. إلا أنه للمرة الأولى منذ 30 سنة، لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين، الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة. وبينما بدا التغيير واضحاً للبعض، فإن هذا لا يعني أن الإقليم تحوّل فردوس سلام، وأن القلق تلاشى إلى الأبد؛ إذ لا تزال الأرضية السياسية مضطربة جراء التغييرات الحاسمة التي شهدها العقد الماضي.

في هذا الصدد، علق المحلل السياسي والصحافي الكشميري المخضرم زاهور مالك، قائلاً: «لحسن الحظ، يجري نقل الجدال إلى صناديق الاقتراع وسط مشاركة جماهيرية. وما سيخرج من هذا التفويض يحمل أهم ختم داخل دولة ديمقراطية: إرادة الشعب». وأردف: «تشكل هذه الانتخابات الاختبار الرئيسي للتحولات السياسية بالمنطقة بعد انتهاء الوضع الخاص لجامو وكشمير، وهي ستكون مؤشراً رئيسياً على المزاج السياسي في منطقة شهدت تغييرات جذرية على امتداد العقد الماضي».

الاستقلاليون والانتخابات

كما سبقت الإشارة، لأول مرة، شارك عدد كبير من الاستقلاليين السابقين إلى الانتخابات، بما في ذلك أعضاء سابقون في جماعات محظورة. من بين هذه الشخصيات سرجان أحمد واغاي، وهو رجل دين بارز كانت له مواقف معادية للهند. لكن واغاي يترشح اليوم، من داخل السجن في دائرتين انتخابيتين بوسط كشمير، هما غاندربال وبيرواه.

وهناك أيضاً حافظ محمد سكندر مالك، القيادي المتمرد، الذي كان أول من تقدّم بأوراق ترشحه مرشحاً مستقلاً، مع أنه لا يزال مصفّداً بجهاز تتّبع في رجليه يعمل بتكنولوجيا «جي بي إس». وكان مالك قد اعتقل عام 2019، وجرى احتجازه مرتين بموجب قانون السلامة العامة.

كذلك، سيار أحمد ريشي (42 سنة) زعيم «الجماعة الإسلامية» المحظورة السابق والمرشح المستقل اليوم، الذي كان يروّج لآيديولوجية انفصالية، ارتأى على ما يبدو أن الاقتراع أفضل من الرصاص لمواجهة الظلم، وهو يتولى تنظيم حملته الانتخابية عبر التنقّل والتفاعل مع الناخبين من باب إلى باب. وللعلم، كانت «الجماعة الإسلامية» من مكوّنات «مؤتمر الحريات»، الذي هو مزيج من الأحزاب السياسية الاستقلالية في كشمير، وقد سبق له دعم دعوات مقاطعة الانتخابات بعد عام 1987.

وأيضاً التحق القيادي الاستقلالي السابق سليم جيلاني بركب المشاركين بعد 35 سنة من العمل الدؤوب في جبهة الاستقلاليين. وبرّر الرجل تغييره موقفه برغبته «في إنجاز التنمية الاقتصادية لكشمير، وحلّ وضع كشمير داخل الهند... ثم كيف يمكنني أن أنكر حقيقة أنني أحمل جواز سفر هندياً وأستخدم العملة الهندية؟».

سرّ التحول المفاجئ

المحلل السياسي مزمّل مقبول، يرى أن كثيرين ممّن عارضوا لفترة طويلة اندماج كشمير مع الهند غيّروا مواقفهم منذ إلغاء صفة الحكم الذاتي الخاص بالإقليم عام 2019. وبالمثل، قال الصحافي إشفاق سلام، الذي عمل على الأرض في كشمير على مدى العقدين الماضيين: «إن نجاح الزعيم الاستقلالي الشيخ عبد الرشيد، الذي فاز بمقعد في البرلمان أثناء الانتخابات الوطنية في وقت سابق من العام، بينما هو يقبع داخل سجن تيهار في نيودلهي، أعاد ثقة الناس في نزاهة الانتخابات. وجاء نجاحه بمثابة تعبير عن إحباط الناخبين تجاه الأحزاب السياسية القائمة، علاوة على كون ذلك بمثابة تصويت ضد نيودلهي». ويُذكر أن عبد الرشيد خرج من السجن بكفالة مؤقتة، وهو يتولّى حالياً تنظيم حملة قوية لصالح مرشحي حزبه السياسي البالغ عددهم 34 مرشحاً. وقد ألهم العديد من الاستقلاليين للانضمام إلى المعركة؛ ما أدى إلى زيادة المشاركة العامة في المؤتمرات الانتخابية.

انزعاج الأحزاب الرئيسية

من جهة ثانية، أثار العدد الكبير من المرشحين الذين خاضوا هذه الانتخابات من المرتبطين سابقاً بالتيارات الاستقلالية، القلق والشكوك في صفوف أقوى حزبين سياسيين تقليديين في كشمير، أي «المؤتمر الوطني» و«حزب الشعب الديمقراطي».

وفي هذا السياق، تساءل عمر عبد الله، رئيس وزراء جامو وكشمير السابق، الذي تعرّض للهزيمة أمام عبد الرشيد، عن مصدر الأموال التي يحصل عليها هؤلاء المرشحون - الذين صنّفتهم نيودلهي فيما مضى باعتبارهم «مسلحين» - ما مكّنهم من خوض الانتخابات، وأيضاً «السر» وراء التغيير المفاجئ في آرائهم. واتهم عمر هؤلاء بأنهم «فريق مرشحي الاحتياط» لحزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني الحاكم بزعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.

وهنا نشير إلى أنه من الناحية الرسمية ليس لحزب «بهاراتيا جاناتا» (هندوسي قومي متشدد) أي وجود يذكر في إقليم كشمير ذي الغالبية المسلمة. فنظراً لتوقعه الخسارة، لم يدفع الحزب الحاكم في الهند تحت اسمه بأي مرشح في الانتخابات الوطنية بالإقليم في وقت سابق من 2024، وهذا رغم ادعائه أنه عزّز هيكله ورفع عضويته إلى 700 ألف داخل الإقليم، على امتداد العقد الماضي.

أهمية الانتخابات

يقول مراقبون إن انتخابات كشمير هذه ذات أهمية خاصة لأكثر من سبب، أبرزها أنها أول انتخابات تشريعية بعد إلغاء حكومة مودي المادة 370. وبجانب ذلك، يظهر أن لحكومة مودي وحزبه «بهاراتيا جاناتا»، مع هذه الانتخابات ما يشكّل «لحظة حساب». وحقاً، يُعد إلغاء المادة 370، التي منحت وضعاً خاصاً لجامو وكشمير، أخطر خطوة اتخذتها أي حكومة هندية منذ عام 1952. وترى الحكومة الهندية أن تغيير الوضع السابق يساعدها في تشكيل الحكومة بمفردها داخل جامو وكشمير، وأن هذا سيكون كافياً لمحو جميع أخطائها السابق. للمرة الأولى منذ 30 سنة لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة