«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز: جوائز «غولدن غلوبز» متنوعة ومثيرة وترسم معالم الأوسكار

الفيلم اللبناني رسم مآسي البلد

«مولد نجمة» بين برادلي كوبر وليدي غاغا
«مولد نجمة» بين برادلي كوبر وليدي غاغا
TT

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز: جوائز «غولدن غلوبز» متنوعة ومثيرة وترسم معالم الأوسكار

«مولد نجمة» بين برادلي كوبر وليدي غاغا
«مولد نجمة» بين برادلي كوبر وليدي غاغا

أعلنت، في السادس من هذا الشهر، ترشيحات جوائز غولدن غلوبز السنوية، وهي الدورة السادسة والسبعون لمؤسسة صحافية اسمها «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (Hollywood Foreign Press Assocaition) قامت سنة 1943 وأطلقت حفلتها السنوية الأولى سنة 1944.
سنوات مديدة مرّت منذ ذلك الحين وكل ما يمت إلى صناعة الفيلم وفنه تغير عدة مرّات وصولاً لما هو عليه اليوم. أحد المتغيرات الأساسية أن ما كان بسيط التنفيذ في جمعية قوامها لا يزيد على عشرين شخصا (رحل اليوم معظمهم) بات كياناً سينمائياً جامعاً يحتل داخل هوليوود أهمية قصوى.
جوائز «غولدن غلوب» هي المناسبة الثانية في هوليوود من حيث الحجم والأهمية. والمحطة التي تمر عبرها الكثير من الأسماء والعناوين في طريقها إلى المناسبة الأولى وهي الأوسكار. الإعلام يلتف حولها وينتظرها ويتداول ترشيحاتها ويبدأ من يوم إعلانها تعداد الأيام الفاصلة بين هذه الترشيحات وترشيحات الأوسكار المرتقبة في الشهر المقبل.
- الفيلم اللبناني
لكن هل «غولدن غلوبز» مهمّة خارج الولايات المتحدة أيضاً؟
السينمائيون الذين تتبارى أفلامهم للفوز بغولدن «غلوب أفضل فيلم أجنبي» يعتقدون ذلك. في كل سنة ينتظر المخرجون الذين تقدمت أفلامهم لدخول ترشيحات هذه الجائزة النتائج بفارغ الصبر. وهم بالتأكيد يعتقدون أن المناسبة مهمة عالمياً لأنها تمنحهم الحضور الإعلامي الكبير كما تهدي أحدهم جائزة ثمينة حين فوزه.
تستطيع المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن تؤكد ذلك. ففيلمها «كفرناحوم» من بين الأفلام الخمسة المرشحة للغولدن غلوب في هذا المجال، هي قفزت من فرحها أول ما وصلها النبأ وأدلت لكاميرا أحد التلفزيونات العربية بتصريح عبّـرت فيه عن سعادتها المطلقة وبدأت - ولو باكراً - بشكر عدة أسماء شخصية ومهنية من تلك التي أحاطت بها أثناء العمل.
لكن «كفرناحوم» ليس وحده بالطبع في هذا القسم المهم بل هو محاط بأربعة أفلام أخرى اثنان منها من تلك التي سيكون من الصعب إغفالهما. الأول هو «نشالون» (Shoplifters) للياباني هيروكازو كورييدا. شهد هذا الفيلم الذي يدور حول عائلة من النشالين المتخصصين بسرقة الدكاكين في مهرجان «كان» الماضي وخرج بجائزته الكبرى («كفرناحوم» من عروض مهرجان «كان» أيضاً ونال جائزة «لجنة التحكيم»).
الفيلم الآخر هو «روما» وهو للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، وتم عرضه في مهرجان فنيسيا حيث نال جائزة المهرجان الذهبية الأولى.
الفيلمان الآخر محصوران بين هذه الأفلام الثلاثة في الواقع. الفيلم البلجيكي للوكاس دونت خرج من «كان» بجائزة «الكاميرا الذهبية» التي تمنح للفيلم الأول أو الثاني لمخرجه. والفيلم الثاني هو «لا تنظر بعيداً أبداً» (Never Look Away) للألماني فلوريان هنكل ڤون دونرسمارك.
بذلك فإن كل هذه الأفلام الخمسة المتسابقة لنيل غولدن غلوب «أفضل فيلم أجنبي» هي من خريجي مهرجاني «كان» و«فنيسيا» فقط. واحتمالات فوزها - بكل حيادية ممكنة - تتوزع على النحو التالي:
> «روما» (المكسيك)
> «كفرناحوم» و«نشالون» (لبنان، يابان)
> «لا تنظر بعيداً أبداً» (المكسيك)
> «فتاة» (بلجيكا).
لا بد من ملاحظة مهمّة هنا هي أن «كفرناحوم» و«نشالون» المتساويان في المركز الثاني يدوران حول موضوع متشابه إلى حد بعيد. «كفرناحوم» عن ولد مشرّد وعائلة مفككة وشوارع تنتمي إلى بيئة فالتة من ضوابطها الأخلاقية، و«نشالون» عن أولاد تم تدريبهم على السرقة وعائلة تخفي أسرارها في بيئة قد لا تكون بفوضى تلك اللبنانية، لكنها تعاني مما تعاني منه أيضاً.
- دراما وكوميديا
وجود «كفرناحوم» وحظوظه الجيدة، للساعة، يهم الجمهور العربي بالدرجة الأولى. يهم أقل الإعلاميين الأميركيين الذين يتحلقون حول الأفلام الأميركية العشرة الموزعة في مسابقتي «أفضل فيلم درامي» و«أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي».
يجب عدم الاستهانة بالاختيارات المبثوثة حتى وإن حوت المسابقة الأولى على فيلم «بلاك بانثر» القائم على الفانتازيا ومغامرات السوبر هيرو. ولا حتى إذا ضمت مسابقة «أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي» فيلماً من مستوى «آسيويون أثرياء مجانين». ما يمنح جوائز هذه الجمعية جزءاً من قيمتها الكلية هو أنها تنطلق من آراء صحافيين ونقاد سينما لا ينتمون إلى المهن السينمائية ذاتها. هم ليسوا مخرجين ولا منتجين ولا كتاب سيناريو ولا ممثلين (رغم أن اثنين من الأعضاء التسعين يزاولان هذه المهنة كلما استطاعا)، هم صحافيون. بالتالي تختلف الاختيارات باختلاف انتماءات ذوقية ومفاهيم متعددة في الأساس. على أن هذا ليس للقول بأن هؤلاء الأعضاء غير جديرين بمعاينة الأفلام على أساس نقدي. على العكس، برهن معظمهم على دراية جيدة بكل مكوّنات وطبائع العمل السينمائي لذلك عاشت هذه الجائزة أكثر من سبعين سنة وازدادت حضوراً وتأثيراً وبالتالي قوّة.
> الأفلام الخمسة التي تم ترشيحها لجائزة غولدن غلوب في مسابقة الفيلم الدرامي هي «بلاكككلانسمان» لسبايك لي و«لو أن شارع بيلز تكلم» لباري جنكنز و«مولد نجمة» لبرادلي كوبر و«بلاك بانثر» لرايان غوغلر و«بوهيميان رابسودي» لبرايان سينجر.
> تلك التي تتنافس على غولدن غلوب الفيلم الكوميدي والموسيقي هي: «آسيويون أثرياء مجانين» لجون شو و«المفضلة» ليورغوس لانتيموس و«كتاب أخضر» لبيتر فارلي و«عودة ماري بوبينز» لروب مارشال و«رذيلة» لأدام ماكاي.
بعض الأسئلة هنا مبررة حول توزيع تلك الأفلام ما بين الجائزتين. واللجنة المتخصصة بتصنيف الأفلام داخل الجمعية لا بد أنها تداولت الأمر طويلاً قبل أن تضم «بلاكككلانسمان» للدراما عوض الكوميديا و«كتاب أخضر» للكوميديا عوض الدراما. كذلك مثير للاهتمام أن فيلم «رذيلة» الذي يسرد بعض علاقة ديك تشايني بالبيت الأبيض ورئيسه أيام ما كان تشايني نائباً للرئيس دخل المسابقة الكوميدية بينما تم ضم «بوهيمان رابسودي» الذي يروي بعض سنوات حياة المغني الأول لفرقة «كوين» إلى الدراما.
بعض العذر يكمن في أن الخيوط متقاربة. «بوهميان رابسودي» درامي ولو أنه موسيقي و«رذيلة» معالج من قِـبل المخرج أدام ماكاي بالسلاسة ذاتها الذي عالج فيها فيلمه السابق «التقصير» (The Big Short) محاذياً الخط الكوميدي الساخر. أما فيلم سبايك لي فهو درامي الاهتمام كوميدي المعالجة في الوقت ذاته.
ما هو لافت أيضاً أن ثلاثة من مخرجي الأفلام المحسوبة درامياً هم من الأفرو - أميركيين (أمر لم يحدث بعد داخل ترشيحات الأوسكار) وهم سبايك لي (بلاكككلانسمان») وباري جنكينز («لو تكلم شارع بيلز») ورايان غوغلر («بلاك بانثر»).
كذلك فإن جون تشو («آسيويون أثرياء مجانين») هو صيني الأصل وليورغوس لانتيموس يوناني يحقق فيلمه، «المفضلة»، بالإنجليزية.
لافت أيضاً غياب بعض الأفلام التي تمحور النقد حولها بإعجاب في الآونة الأخيرة. ومن بينها فيلم داميان شازيل «رجل أول» (من عروض فنيسيا أيضاً). هذا ما دفع أحد النقاد للقول: «يبدو أنه من السهل وصول رجل إلى القمر بينما من الصعب وصول الفيلم إلى الترشيحات». المفارقة بالطبع هي «رجل أول» يتحدث عن كيف حط نيل أرمسترونغ على ظهر القمر.
هذا الفيلم يرد ذكره في مسابقتي «أفضل ممثلة مساندة» (ذهبت لكلير فوي) وكأفضل موسيقى (التي وضعها جوستين هورفيتز).
فيلم آخر تغاضت عنه الجمعية في ترشيحاتها هو «أرامل» للبريطاني ستيف ماكوين. أذكره هنا فقط لأنه نال تقديرات نقدية عالية من قِبل جمعيات نقدية مختلفة. لكن هناك الكثير من الأفلام الجيدة التي من الطبيعي أن يتم العبور فوقها من بينها «فيرست ريفورمد» لبول شرادر الذي أنجز أيضاً نقاطاً عالية بين النقاد داخل وخارج الولايات المتحدة.
- نيكول كيدمان و14 ترشيحاً
في التمثيل النسائي الدرامي تأكد الآن للجميع بأن أعضاء الجمعية يحبون نيكول كدمان فهي من بين أكثر الممثلات نيلاً لترشيحات «غولدن غلوب». تحديداً تم ترشيحها 13 مرّة سابقة وربحت الجائزة 5 مرات. وهي الآن في عداد الممثلات المرشحات للمرة الرابعة عشرة وذلك عن دورها في «مدمِّرة» وهو دور مهم لكدمان في إخراج متوعك لكارين كوساما.
المرشحات الأخريات هن روزمند بايك عن «حرب خاصة» وميلسا مكارثي التي انتقلت في «هل تستطيع أن تسامحني؟» من الكوميديا إلى الدراما. هناك أيضا ليدي غاغا التي تغني وتمثل بطولة «مولد نجمة»، كما غلن كلوز (أكثر المذكورات استحقاقاً) عن دورها في «الزوجة».
المقابل الرجالي في سباق التمثيل الدرامي يتألف من (المصري الأصل) رامي مالك ومن برادلي كوبر عن «مولد أمّـة» وجون ديفيد واشنطن عن «بلاكككلانسمان» كما لوكاس هدجز عن «فتى ممحى» والجائزة قد تذهب إلى ويليام دافو عن «عند بوابة الأبدية».
على صعيد التمثيل الكوميدي - الموسيقي بين الرجال لدينا فيغو مورتنسن عن «كتاب أخضر» وكرستيان بايل عن «رذيلة» كما لين مانويل ميراندا عن «عودة ماري بوبنز» وجون س. رايلي عن «ستان وأولي». أكبر المرشحين سنا (ومن بين أكثرهم استحقاقاً) روبرت ردفورد عن «العجوز والمسدس»).
نسائياً في هذا القسم رشحت إميلي بلنت عن «عودة ماري بوبنز» وأوليفيا كولمن عن «المفضلة» ثم إليسي فيشر عن «الصف الثامن» كما تشارليز ثيرون عن «تولي» وكونستانس وو عن «آسيويون أثرياء مجانين».
اللواتي يتسابقن لنيل غولدن غلوب أفضل ممثلة مساندة (هذا القسم لا يعرف التصنيف الكوميدي أو الدرامي) هن آمي أدامز عن «رذيلة» وراتشل فايز («المفضلة») وإيما ستون («المفضلة» أيضاً) ورجينا كينغ («لو أن شارع بيل يتكلم») وكلير فوي («رجل أول») وهي المرجحة الأولى في هذه المرحلة المبكرة من التوقعات.
رجالياً، ماهرشالا علي عن «كتاب أخضر» وتيموثي شالامت عن «صبي جميل» كما أدم درايفر («بلاكككلانسمان») ورتشارد إ. غرانت («هل تستطيع أن تسامحني؟») وسام روكوَل («رذيلة»).
برادلي كوبر في عداد المخرجين الخمسة المتنافسين على غولدن غلوب الإخراج. معالجته لفيلم «مولد نجمة» (الأول له في هذا المجال) فاجأت الكثيرين بحسن تناولها الموضوع الذي تناولته السينما في هوليوود أربع مرّات من قبل.
لجانبه نجد أدام ماكاي عن «رذيلة» وسبايك لي عن «بلاكككلانسمان» وبيتر فارلي عن «كتاب أخضر» وألفونسو كوارون عن «روما».
هنا لا بد من ذكر أن الجمعية التي توزع هذه الجوائز منقسمة تبعاً لهويات أعضائها. فهناك أعضاء إيطاليون وأميركيون وبريطانيون وألمان وإسبان ولاتينيون وبضعة آسيويين وحفنة من العرب أو ذوي الأصول العربية.
بالتالي، لن يكون مستبعداً فوز مخرج ما بفضل الحشد الواقف وراءه من بني هويته. بكلمات أوضح إذا ما فاز ألفونسو كوارون بغولدن غلوب أفضل إخراج، فإن جزءاً كبيراً من الفضل سيعود إلى لفيف اللاتينيين القادمين من المكسيك والأرجنتين والكولومبيين والإسبان. على ذلك فإن فوز هذا المخرج سيتوقف على الأعضاء المستقلين وبعض الأوروبيين كذلك.
يستحق ألفونسو كوارون بلا ريب. ففيلمه من بين الأبرز على أكثر من صعيد هذا العام. لكن التوسع في قراءة الاحتمالات ما زال مبكراً وسنعود إليه قريباً كذلك إلى أهم ما تتضمنه الترشيحات على صعيد الأعمال التلفزيونية التي تحتل النصف الآخر من اهتمامات الجمعية وجوائزها.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)