حكايات شفهية من ذاكرة قرية

«الرسالة التي طُويتْ في جيب بيكاسو» للأردني محمد أبو عرب

حكايات شفهية من ذاكرة قرية
TT

حكايات شفهية من ذاكرة قرية

حكايات شفهية من ذاكرة قرية

يقول الشاعر الصحافي الأردني محمد أبو عرب، في مقدمة كتابه «رسالة في جيب بيكاسو»، الصادر عن دار «دوّن» المصرية (2018)، إنه يؤمن أن «مهمة الكاتب هي إخراج أسرار العالم إلى الملأ وفضحها، وذلك بتحويلها إلى مادة لغوية حيّة»، وإن «كل إنسان فارق الحياة ولم يكتب أسراره هو خسارة كبيرة للبشرية، فالحياة قصيرة، ولا يوجد ما يستحق أن يظل سراً بعد الموت».
هكذا، يُستدرجْ القارئ للدخول لخبايا هذا الكتاب الذي يصعب تصنيفه؛ هل هو قصص شفهية من ذاكرة قرية، أراد كاتبها الحفاظ عليها من التبدد والنسيان، ودونّها حكايات مكتوبة، أم هو مجموعة مقالات معمقة، تبحث في استبطان عقائد وأعراف وسلوك البشر في تلك القرية، إزاء ظواهر وقف العلم عاجزاً عن تفكيكها وتفسيرها؟ يدوّن الكاتب حكايات شفهية من ذاكرة قريته (القليعات)، الواقعة على الجهة الشرقية من نهر الأردن، لكن كل الحكايات في الكتاب، رغم ارتباطها بالمكان الذي تنتسب إليه، وخصوصيتها، تتحول لدى القراءة التأويلية لها إلى مسارات للوصول إلى مفاهيم إنسانية واسعة، منها: الحب والخوف والوجود والسحر واللغة والدين.
ينقسم الكتاب إلى 3 أبواب: الباب الأول هو حكايات في الحب؛ يفتتح الكاتب هذا الباب بفصل عن حكاية حب لم يُكتب لها النجاح يسمعها من جارته، وهل من شيء يشغل بال الدنيا غير الحب؟ وهذا بالضبط ما يحاول الكاتب الإجابة عنه حين تنتهي الحكاية، يقودنا استبطانه في مغزى الحكاية إلى أسئلة عن جوهر الحب، ومفارقة العيش بنصف قلب، ومعنى أن تحتفظ عاشقة بقميص حبيبها لمدة خمسة وثلاثين عاماً تحت مخدتها! تبدو الإجابة عن هذه التساؤلات مثل تسلق جبل شاهق، كلما اجتزتَ مرحلة في صعوده، تضاعف الجبل في علوه. هل يتحول الحب إلى تعب، والذكرى إلى عبء وجرح لا يندمل حتى لو مرّ وقت طويل؟ وما التنهدات والحسرات إلا ظواهر لهذا العبء، كلما ذُكرَ المحبوب أو خطر بالبال! تضعنا هذه الحكاية البسيطة بمواجهة مع ذاكرتنا، كما يقول الكاتب، إذ ستظل معرفتنا بذواتنا قاصرة، ما لم نعرف كنه ذاكرتنا جيداً، فما الإنسان وتفاصليه الكثيرة والبسيطة سوى ذاكرته. وتتوالى حكايات هذا الباب، في تماهٍ بين ذاكرة الحب وما نحتفظ به بداخلنا من هذه الذكرى، متمثلة ثيمة الرائحة في الحكاية الأولى، وثيمة الوشم في الحكاية الثانية، وثيمة اللون واكتشاف النفس بالحب بالحكايات التالية.
في حكاية الوشم، تتحول الذكرى إلى حروف مكتوبة على الجسد، فكأن الوشم في الحكاية هو الإعلان والتحرر والكشف عن الهوية العاطفية، ومحاولة محو النسيان وقتل الغياب، حينما يشم العاشق اسم محبوبته على ذراعه. يستعين الكاتب في هذا الباب بكثير من أقوال المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا موضوع الحب، مثل أفلاطون وآلان باديو وجيمس فريزر وغيرهم، ليخضع هذه الآراء المعرفية لمنطق الحكايات البسيطة، ومحاولة استنطاق الحكمة من الحكاية، وتقديم قراءة ذهنية فلسفية لقيم يحتكم إليها أهل القرية.
في الباب الثاني، ندخل إلى حكايات القرويين اليومية، وكيف يستعينون بقوة النص المقدس، بتحويله إلى طلاسم وتعويذات، للتغلب على معضلات الحياة التي تفوق قدرتهم الإنسانية البسيطة، وكيف يتمكن يقينهم المطلق بقدرة هذه الطلاسم من التغلب على مصاعب حياتهم فعلاً، وكيف تبتكر ذهنية المجتمع القروي أشكالاً من الممارسات الطلسمية لمواجهة المحن التي يمرون بها. ومنها حكاية رد الشاة الضائعة، وابتهالات عجوز عارفة تسكن في أطراف القرية لطقوس السقيا ونزول الغيث. الكاتب يبحث في ثنائية الخوف والضعف في سيرة البشرية، من خلال هذه القرية كنموذج، وكون الأول هو وليد الثاني، الذي يظل الإنسان يكافحه طوال وجوده على هذه الأرض، والإنسان بالتالي مدين لهذين المحركين الداخليين اللذين يدفعان به نحو المعرفة والتجريب والابتكار. إن عقل الإنسان القروي يخترع أسطورته استجابة لمعطيات بيئته، وإن الذات النكوصية القروية تشعر بقدرتها على غلبة ما هو خارج إرادتها البسيطة بالاستعانة بالنص المقدس الذي يستمد قوته الغيبية من هيمنته عل ما هو يومي ومرئي وملموس.
يبحث الباب الثالث من الكتاب في التنجيم، وفي لغة البدن وعرافة اليد (التويتمة - المفردة هنا أما تحوير لتميمة أو طوطم)، باعتبار أن الجسد تجربة لتكثيف قوة الطلاسم في اللحم والدم، وذلك حين تتحول حركة الجسد إلى لغة تنبؤات وعرافة، كما في الحكاية الأولى من هذا الباب، وكيف أن انقباض عضلة يد شيخ غريب الأطوار في القرية تنبأت بموت شاب في منتصف عمره. فالتويتمة هي تنجيم قائم على قراءة لغة البدن، ورمزية خطابه.
الحكاية التالية تخبرنا عن العبث بطين الجسد بإطعامه طعاماً مسحوراً.
لم يفلح العلم بالوصول إلى إجابة قطعية حول مفهوم وطاقة السحر ووسائله. فالسحر، كما يقول جيمس فريزر، أول مظهر من مظاهر التفكير الإنساني، باعتباره ظاهرة اجتماعية مهمة، كما أنه موجود في كل زمان ومكان. وهو أيضاً حالة تخيّل وتمرد على الواقع، كما في سياق القصة. وتتوالى بقية الحكايا، بثيمات مثل النار التي تحرس الكنز، والتي تسمى «الرصد»، والتداوي بريق المبروكة.
إن الحلم هو تجربة موازية للوصول إلى الممكن والمعجزة والجنون والكتابة، وليست اللذة في الوصول بقدر ما هي في تراكم المعرفة في المسير. وإن المعرفة ستظل قاصرة أمام تجربة وجود الإنسان على هذه الأرض، لذلك تبرز الحاجة إلى الغيبي والأسطوري، كرديف لتجربة الوجود، لذلك نشأت حتمية وجود العارف والمبروكة في مجتمع القرية.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي
TT

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة والتوزيع صدر حديثاً كتاب «أقلمة سرد الحيوان» للدكتورة نادية هناوي ويأتي استكمالاً لمشروعها في «الأقلمة السردية»، وكانت قد بدأته بكتابها «أقلمة المرويات التراثية» وأتبعته بكتابين هما «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر» و«الأقلمة السردية: مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية».

ويدور كتاب «أقلمة سرد الحيوان» في إطار النظرية السردية وما يجري في العالم من تطور في مجال دراسات الأقلمة، بغية الإفادة منها في دراسة تراث السرد العربي بكل ما فيه من نظم وتقاليد وأساليب وتقنيات، ترسيخاً لدوره التأصيلي في السرد الحديث والمعاصر، وتدليلاً على عالميته التي ترى المؤلفة أنها قد «حجبت بستر التبعية، بكل ما في الاتباع من تقريع الذات ودفن قابلياتها والتشكيك في قدراتها».

ويدخل هذا النوع من الدراسات في إطار نزعة ما بعد الإنسان التي ساهم بعض المفكرين والنقاد في تعزيزها. وممن تناولهم الكتاب بالدراسة الفيلسوف جاك دريدا بمقالته «الحيوان الذي أكون» وفيها رأى أن الحيوان يملك وجوداً متجانساً ومتناغماً مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية. واستعاد دريدا ما قاله ميشال دي مونتيني (1533 - 1592) حين كتب اعتذاراً إلى ريموند سيبوند، متسائلاً عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه تأمل وله معنى. أما جان فرنسوا ليوتار فطرح أسئلة كثيرة حول علم الأجناس وما هو غير إنساني وتساءل: «ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟ ماذا لو كان ما نعرف أنه مناسب للبشر قد أصبح ملائماً لغير البشر؟». ومن جهته افترض فرانسيس فوكوياما في كتابه «مستقبلنا ما بعد البشري» أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي، ومن المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان، وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات، ومثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون.

وتؤكد المؤلفة أن تبني المدرسة الأنجلوأميركية لنزعة ما بعد الإنسان، هو الذي وسّع مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية، ويعد علم سرد الحيوان واحداً من تلك العلوم المستجدة وميداناً بحثياً يُختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الإنسان بالحيوان من جهة ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الإحيائي النباتي والحيواني. ويساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو إلى الرفق بالحيوان.

في السياق نفسه، صدر حديثاً عن المؤسسة نفسها كتاب آخر للدكتورة نادية هناوي بعنوان «العبور الأجناسي: الأشكال - الأنواع - القضايا»، ويعد الكتاب السادس فيما بحثته المؤلفة في هذه النظرية من قضايا وتفريعات بعد كتبها «نحو نظرية عابرة للأجناس» 2019 و«الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود لعبد الرحمن طهمازي» 2021 و«غاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي» 2022 و«قصيدة النثر العابرة في مطولات الشاعر منصف الوهايبي» 2024 و«السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر» 2023.