ساحة جامع الفنا تخطف الأضواء في رابع أيام مهرجان مراكش

دي نيرو وديل تورو... تحدثا عن تجاربهما السينمائية

من فيلم «البرج»
من فيلم «البرج»
TT

ساحة جامع الفنا تخطف الأضواء في رابع أيام مهرجان مراكش

من فيلم «البرج»
من فيلم «البرج»

تتواصل فقرات برنامج المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، في دورته الـ17، بعروض للأفلام، سواء على مستوى «المسابقة الرسمية» وأفلامها الـ14، أو «بانوراما السينما المغربية» التي تقترح 7 أفلام مغربية حديثة بطموح كشف مختلف أوجه السينما المغربية للمهنيين ووسائل الإعلام الدولية، أو «القارة 11» التي تقترح 14 شريطاً روائياً ووثائقياً لمخرجين جريئين من تايلاند ولبنان وكرواتيا وجنوب أفريقيا والنمسا والفلبين والولايات المتحدة، أو فقرة «العروض الخاصة» التي تتضمن تشكيلة من 11 فيلما من آفاق متنوعة، أو تلك الموجهة لتلاميذ المدارس والجمهور الناشئ، عموماً، والتي تتضمن أفلام تحريك وأخرى كلاسيكية، كما هو الحال مع فيلم «البرج» لمخرجه النرويجي ماتس غرورود، الذي ينقل قصة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال عيون الطفلة (وردي)، الشيء الذي يجعل منه عملاً «يحافظ على صراحة الطفل فيما يروي تاريخاً قذراً من النزوح والظلم».
وبعد كل من الفرنسي تييري فريمو والأميركي مارتن سكورسيزي، فتحت «محادثة مع...» هامشاً للاقتراب أكثر من تجربة وطريقة تفكير واشتغال اثنين من كبار السينما العالمية: الأميركي روبيرت دي نيرو والمكسيكي غييرمو ديل تورو.
من جهتها، انطلقت «ورشات الأطلس»، حاملة هم دعم ومواكبة المخرجين الصاعدين بأفريقيا والشرق الأوسط، بشكل يجعل منها «منصة إبداعية ومهنية في خدمة المخرجين، وفضاء لتبادل الخبرات والتجارب بين المهنيين الدوليين ومواهب المنطقة، في الآن ذاته»، بغية «مواكبة مشاريع الأفلام والأفلام في مرحلة ما بعد الإنتاج، وتمكين المخرجين من تسريع إنتاج أعمالهم، ومنحهم معرفة أفضل بالسوق، وتعزيز شبكات علاقاتهم».
كما كان جمهور ساحة الفنا في الموعد، حيث تابع، في رابع أمسيات المظاهرة، فيلم «إسكندرية كمان وكمان» ليوسف شاهين في حضور بطلته النجمة المصرية يسرا؛ والفيلم الأميركي «كوندون» في حضور مخرجه الأميركي مارتن سكورسيزي.
- شكل الماء
باهتمام كبير، تابع جمهور غفير موعدين مهمين، ضمن فقرة «محادثة مع...»، التي استضافت الممثل الأميركي روبيرت دي نيرو والمخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو: الأول طبع تاريخ السينما العالمية على مدى العقود الخمسة الماضية، بأدواره المتميزة في أفلام تحولت إلى عناوين للمتعة السينمائية عبر العالم، من قبيل «الثور الهائج» و«سائق التاكسي». أمّا الثاني، الذي ولد في غوادالاخارا بالمكسيك، ففضلاً عن كونه مخرجاً غزير الإنتاج، فإنّه يكتب السيناريو والرواية ويتعاطى الإنتاج السينمائي، فيما تسكن أفلامه الكثير من المخلوقات العجائبية، مثل الوحوش، والكائنات الغربية، والأبطال الخارقين، ومصاصي الدماء والأشخاص البرمائيين. والحال أنّه كان، وهو ما زال طفلاً، يؤثث غرفته بصور شخصيات مرعبة، الشيء الذي يبين أن خياله المميز قد تشكل منذ صغره.
في 1993 أخرج ديل تورو فيلم «كرولوس» وحاز اعترافاً فورياً وعالمياً. وفي فيلمه الأخير، «شكل الماء»، الذي يعتبر الأكثر نجاحاً، والأكثر رشداً، حسب النقاد، يتناول ديل تورو قصة «إليسا»، وهي شابة خرساء تشتغل في مختبر حكومي سري، تسقط في حب مخلوق من الزواحف يعاني الأسـر. وقد رشح فيلمه هـذا لنيل 13 جائزة أوسكار، حاز منها أربعة («أفضل مخرج» و«أفضل فيلم» و«أفضل ديكور» و«أفضل موسيقى»)، كما حاز على الأسد الذهبي في مهرجان البندقية في 2017. وحصد، أيضاً، 3 جوائز بافتا (جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام) في 2018 («أفضل إخراج» و«أفضل موسيقى» و«أفضل ديكور»)، كما حصل على جائزة «غولدن غلوب» لـ«أفضل مخرج، وذلك بفضل هذه التحفة، التي اعتبرت قصيدة في مدح الاختلاف.
بجرأته واستخدامه التأثيرات الخاصة، شكل ديل تورو عالماً فريداً يضاعف الجسور بين الواقع والخيال والكوابيس والمخلوقات الشريرة والبشر البشع.
- روبين رايت... لم تحضر
تخلفت الممثلة الأميركية روبين رايت عن الحضور إلى مراكش، حيث كان من المبرمج تكريمها في ثالث أمسيات التكريم. وبررت رايت ذلك بـ«التزامات مهنية طارئة». وجاء في خطاب وجهته الممثلة الأميركية إلى إدارة المهرجان: «تأثرت كثيرا بتكريمي في مراكش. كنت متشوقة لاكتشاف مراكش، وملاقاة الجمهور وعشاق السينما في المغرب. لكنّ التزامات مهنية مستعجلة، لم تكن في الحسبان، جعلت كل ذلك مستحيلاً. شكراً للجميع».
قبل اعتذارها، كانت الممثلة الأميركية قد رحبت كثيراً بخبر تكريمها في مهرجان مراكش، حين كتبت: «يشرفني أن أتلقى نجمة ذهبية في مهرجان مراكش الدولي للفيلم هذا العام. يسرني أن أكون في زيارة للمغرب، وأشكركم على إعطائي هذه الفرصة للتّعرف على الثقافة المغربية والتمتع بهذا المكان الجميل».
تخلف رايت عن حفل تكريمها، لم يمنع جمهور المهرجان من الاستمتاع بطلّتها، من خلال أربعة أفلام، هي «فورست غامب» (1994) لمخرجه روبرت زيمكيس، الذي تلعب فيه دور البطولة إلى جانب توم هانكس وكاري سينيس وميكلتي ويليامسن وسالي فيلد؛ و«بلايد رانر 2049» (2017) لمخرجه دينيس فيلنوف، الذي تلعب فيه دور البطولة إلى جانب رايان غوسلينغ وهاريسون فورد وآنا دي أرماس وسيلفيا هويكس؛ و«الأميرة العروسة» (1987)، من إخراج روب راينر، الذي تلعب فيه دور البطولة إلى جانب كاري إلويس ومضندي باتنكن وكريس سارندون وكريستوفر كيست ووالاس شاون وأندريه ذي جاينت وفريد سافاج؛ و«ما أجملها» (1987) من إخراج نيك كاسافيتس، الذي تلعب فيه دور البطولة إلى جانب سين پين وهاري دين ستانتون وجيمس كاندولفيني وجون ترافولتا.
- «روما» الأبيض وبالأسود
إلغاء فقرة تكريم رايت، لم يفوت على عشاق السينما، بقاعة «الوزراء»، متابعة فيلم «روما» (2018) لمخرجه المكسيكي ألفونسو كوارون، وبطولة يايليتزا أباريسيو ومارينا دي تافيرا.
ويحكي الفيلم قصة كليو التي تشتغل كعاملة منزلية في بيت عائلي فخم لزوجين مكسيكيين من الطبقة الميسورة. وتعيش معهم كأحد أفراد العائلة ثم يبدأ سيد المنزل رحلة عمل طويلة لا تروق للزوجة، لتقع جميع المسؤوليات المنزلية على أكتاف كليو. وبعد أن تخلّى صديق كليو عنها ستكتشف أنّها حامل، لتشرع في بحث يؤدي بها إلى قلب الاضطرابات السياسية والاجتماعية العنيفة التي اندلعت في المكسيك في أوائل سبعينات القرن الماضي. ويعتبر «روما»، الذي يروى قصته عبر الصور البانورامية السوداء والبيضاء المبهرة والمريحة للعين، عبر حوار يدمج، بشكل أنيق، بين الأحلام والكوابيس وذكريات الطفولة وإعادة بناء حقبة عاصفة، ثالث شريط طويل لمخرجه.
- «عاملة تنظيف داخلي» و«ثلج أحمر»
فيلمان جديدان، دخلا سباق التنافس للفوز بجوائز المهرجان: «عاملة تنظيف داخلي» (المكسيك - الولايات المتحدة) لمخرجته ليلا أفيليس، وبطولة غابرييلا كارتول وتيريزا سانشيز وأوغوستينا كوينزي وكلمانتينا غواداراما؛ و«ثلج أحمر» (اليابان) لمخرجته ساياكا كاي، الذي يقوم ببطولته كل من ماساتوشي ناكاسي وناهانا أراتا إيورا ويوي ناتسوكاوا وكويتشي ساتو. يحكي فيلم «عاملة تنظيف داخلي» قصة إيفيليا الهادئة، الشديدة الانطواء والخجل، التي تسافر لساعات كثيرة كل يوم لتصل إلى مقر عملها كمنظفة غرف في فندق فخم في المدينة، حيث تبدو الفجوة بين مستوى الدخل صارخة من خلال الطلبات الباذخة للوافدين على الفندق. وتأمل إيليفيا أن تحظى بحياة أفضل فتقرر حضور دروس في برنامج تعليم الكبار الخاص بالفندق. يعمد الفيلم، في بعض الأحيان، إلى التصوير على النمط الوثائقي، راصداً حياة البطلة وهي تقوم بأعمال التنظيف والتنعيم والتوضيب والتلميع. كما تنقل لحظات الفيلم التأملية روح دعابة مع تلمس هذه المرأة الشابة الخطوات الأولى على الطريق نحو مستقبل أفضل. من جهته، يحكي فيلم «ثلج أحمر» قصة صبي صغير اختفى قبل ثلاثين عاماً في ظروف غامضة، انفتحت على ركام من الذكريات السيئة المخيبة، والصمت العنيد والأكاذيب المحبوكة. من ثمّ، يظهر صحافي ليعيد إثارة القضية التي أُغلقت منذ فترة طويلة، فتشتعل المشاعر المكبوتة، وتتصاعد موجة العنف جراء تسارع الأحداث المتزاحمة والمعاناة النفسية. فيلم استخدم فيه مخرجه منهجا أليفاً ومذهلاً في الصورة، لرسم عالم يحيل الماضي إلى ظل غامض وشرير ومزعج في الحاضر. ظل إذا ما رفع سيهدد بالكشف عن حقيقة بالغة البؤس.
- إسكندرية كمان وكمان
واصلت فقرة «أفلام جامع الفنا» حشد الجمهور المراكشي لمتابعة روائع السينما العربية والعالمية. كان الدور هذه المرة مع فيلمين لمخرجين طبعا مسيرة السينما العربية والعالمية. يتعلق الأمر بالأميركي مارتن سكورسيزي وفيلمه «كوندون» والمصري يوسف شاهين وفيلمه «إسكندرية كمان وكمان»، ثالث ثلاثيته الشهيرة، إلى جانب «حدوتة مصرية» و«إسكندرية ليه».
عبر فيلمه، يعود شاهين إلى مراكش، التي سبق أن احتفت به في دورات سابقة، وذلك انطلاقاً من مشاهد نكون معه فيها وهو يقوم بدور يحيى الإسكندراني، مخرج الأفلام الذي ينضم لإضراب يندّد بتردّي ظروف العمل في المجال السينمائي وصناعة الأفلام. يقع في حب نادية، الممثلة الشابة والمناضلة الجسورة والمعجبة بدورها بزميلها عمرو. بعد نقاش حاد وجاد مع هذا الأخير، سيعيد يحيى التفكير في مسيرته على ضوء التحولات التي تعرفها السينما المصرية وتأثير البترو دولار في الميدان الفني.
من جهته، نقل «كوندون» الجمهور المراكشي إلى أقصى آسيا، متحدثاً عن اقتراب مجهودات البحث عن خليفة للدلاي لاما الثالث عشر من نهايتها، بعد أن وجد تمثالا لبوذا في قرية نائية من التيبيت، ليبدأ سكورسيزي سرده لقصة تنبزين غياتسو، الدلاي لاما الرابع عشر: إتقان تام وجودة في التصوير، مع اهتمام خاص بأدق التفاصيل التي تضفي على الفيلم لمسة ساحرة لرحلة روحانية يقوم بها قائد ومناهض للعنف، وفي الوقت نفسه تفضح عمليات القمع التي يتعرض لها شعب التيبيت من طرف الصين.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)