«الشرق الأوسط» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (7)‬: أفلام المكان الواحد والحزن العميق

مقهى بيروتي وزقاق مصري يستعرضان الحياة الحاضرة

كوكي في «ورد مسموم»
كوكي في «ورد مسموم»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (7)‬: أفلام المكان الواحد والحزن العميق

كوكي في «ورد مسموم»
كوكي في «ورد مسموم»

يصل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأربعون إلى ختامه مساء اليوم، بحفل توزيع الجوائز وما سيليه من حفل عشاء سيكون اللقاء الجامع الأخير لأهل السينما في إطار المهرجان حتى العام المقبل.
الجهد الذي بذله محمد حفظي، رئيساً، وفريقه المتنامي وفي مقدّمتهم يوسف شريف رزق الله وأحمد شوقي، ملموس على الرّغم من أنّ هناك مشكلات لم تُحل بعد. هذا الجهد المبذول عبّر عنه مطّلع مقرب قائلاً إنّ سعي رئيس المهرجان لإتمام دورته الأولى بنجاح جعله ينكبّ على الشؤون الكبيرة كما الصغيرة بنفسه: «كان يراجع كل شيء. يقرأ كل التّفاصيل ويتأكد من كل شيء. كان جاداً في رغبته تحويل المهرجان من وتيرته السابقة إلى وتيرة أعلى نجاحاً».
- منوال
الكثير من مظاهر هذه العناية عكسها بنفسه خلال أيام المهرجان، بالأمس على سبيل المثال وقبل بداية الندوة الصحافية التي أدرتها مع الممثل والمخرج رايف فاينس حضر ليتأكد فقط من أنّ كل شيء على ما يرام من ثمّ انصرف ليتابع شؤوناً أخرى. ويقول مصدر آخر: «عندما جرى اختيار محمد حفظي ليقود هذا المهرجان شعر أهل السينما في مصر براحة شديدة، كونه يملك علاقات دولية طيبة يستطيع تطويعها لخدمة المهرجان. وهو قلل من اشتراكات عربية مقابل زيادة حصة الصحافة الأجنبية لإدراكه أنّ تلك هي التي سيعول عليها للحديث عن المهرجان للعالم».
لكنّ الواقع أنّ المشكلات المتراتبة على هذا المهرجان لم تُحل كلياً. نعم الأفلام أفضل. خطوات المهرجان لاستعادة مكانته العربية والعالمية سارت بخطى ثابتة. تنظيم الاحتفالات أحسن ممّا كان عليه، لكن هناك التأخير المستمر في العروض.
المسألة هنا ليست مسألة قليلة الشأن. المرء قد يقبل تأخراً يصل إلى خمس دقائق مثلاً أو حتى عشر دقائق في بعض الحالات، لكن أن يتأخر العرض لأربعين أو خمس وأربعين دقيقة لأن الممثل أو المخرج استجاب لدعوات كاميرات التلفزيون التي تصطاد الداخلين عند الباب وأمضى كل هذا الوقت وهو يبتسم ويؤكد أنّه سينمائي فذ، أمر غير مقبول.
ما ينتج عن هذا التأخير إدراك الجمهور بأنّ الفيلم لن يبدأ في الوقت المعلن وتبنيه عادة الوصول متأخراً بدوره. بعد ثلاثة أرباع الساعة ما زال هناك جمهور يصل متمهلاً لينضمّ إلى الجمهور الموجود الذي جلس يتجاذب الحديث غير عابئ بالتّأخير. بالنسبة إليه هناك وقت يمضيه الآن مع أصدقائه أو قريباته أو ما شابه. ومن يدخل وحيداً تراه منكباً على مطالعة الـ«فيس بوك» والرّد على الرسائل التي تسلمها أو كتابة سواها.
لكنّ الناقد الذي لديه فيلم آخر يريد مشاهدته أو موعداً لا يريد التأخر عنه، أو حتى سئم من الانتظار فلا أهمية له ولرأيه في هذا المجال.
ولا يتوقف دخول الناس، في بعض الحفلات، حتى من بعد بداية الفيلم وكثيراً ما يصل البعض قبل نصف ساعة أو أقل من انتهاء الفيلم باحثاً عن مقعد له وسط الظلام ليتابع فقط ما بقي من الفيلم. أحد المشرفين قال: «بس يا أستاذ هؤلاء اشتروا بطاقات ولهم حق الدخول» وعليه جاء رد أحد الحاضرين: «ليشترط عليهم المهرجان بأنّ من لا يحضر على الوقت سيخسر البطاقة والفيلم معاً».
- الشريحة الأدنى
قبل ربع ساعة فقط من نهاية «ورد مسموم»، الفيلم المصري الثاني في مسابقة «آفاق السينما العربية» دخل مشاهد وجلس وتابع المشاهد الأخيرة.
إنّه الفيلم الأول للمخرج أحمد فوزي صالح الذي عمل مساعداً في أفلام تسجيلية وحقّق وعلى نحو مستقل تماماً، هذا الفيلم الذي ينحو فيه إلى التسجيل أيضاً ولو أنّه فيلم ذو حكاية يرويها.
إنه حول فتاة محجبة اسمها نور (تكتفي بطاقة الفيلم باسم واحد لها هو كوكي) تعيش في حي المدابغ في ضواحي القاهرة. تعمل منظفة حمّامات وتعيل أمها وشقيقها صقر (إبراهيم النجاري) الذي يعمل في مصنع للدباغة كلما كان ذلك ممكناً (وهو يصرف من عمله قبيل نهاية الفيلم). صقر يود السّفر بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا عبر البحر. يستدين المبلغ ويبدأ بالاستعداد. لكن نور لا تستطيع أن تقبل فكرة رحيل شقيقها وتلجأ إلى مشعوذ (محمود حميدة) الذي يعطيها دمية ويطلب منها حرقها ورمي رمادها في النيل. تفعل ذلك ويشعر شقيقها بتوعك وضعف. لكن ما إن يتغلب على وعكته حتى يؤم ما قرر القيام به.
تبلغ عنه ويتم القبض عليه وعلى من كان معه وينتهي الفيلم بعودة الحياة بوتيرتها لما كانت عليه سابقاً.
«ورد مسموم» عن حياة مكبّلة. لم يعد هناك طموحات لها ولا آمال، بل واقع معاش يشبه أشلاء الحياة. وهو يبدأ بمشهد من اللقطات الصادمة: مياه آسنة تسري في أحد الأزقة. يمشي العابرون بجانب الجدار مختارين خطواتهم بحذر لئلا يدوسون في الماء. بعد قليل تندلق مياه سوداء من أحد الأنابيب لتزين الآسن أسناً. تمر عربة يجرها حصان في ذلك الزقاق. يستمر المشهد لنحو دقيقة ونصف وبه يغلّف المخرج الواقع والمكان وينتقل منه للتفاصيل التي لن تختلف كثيراً عما بثه ذلك المشهد.
ليس أنّ المخرج لا يرى جمالاً في القاهرة لكي يصوّره، لكنّه غير معني بذلك، تاركاً هذا العمل لمن يرغب من صانعي أفلام الكوميديا والأكشن الجماهيريين. ما يريده هو توثيق تلك الشريحة من الحياة الأدنى من معظم ما شوهد من قبل من أفلام مشابهة عبر السنين. أسلوبه تسجيلي راصد. الممثلون لا يمثلون عواطف ولا الدراما لها تلك المكانة العالية. وهو ربما خافت أكثر بقليل ممّا يجب كونه بلا حدث بارز فيه. فيلم بلا حكاية والبديل ليس - بدوره حيوياً، ولو أن ذلك من شروط العمل. شيء لتعويض هذا الافتقار كان يمكن له أن يتم عبر زيادة نبرة الأداء ولو قليلاً. الناس حتى في تلك المواقع الاجتماعية الرّازحة تحت الفقر والعوز تبقى ذات صوت عاكس لعواطف ما تُقال بنبرات أقوى وردود فعل حاسمة.
محمود حميدة له دور صغير جداً تريده لو يكبر. هو مثل اللؤلؤة في كل فيلم يؤديه. في بعضها هو لؤلؤة بحجم كبير وفي بعضها الآخر هو لؤلؤة صغيرة، لكنّه دوماً لؤلؤة.
- مقهى لأوجاع البلد
أحد آخر الأفلام المعروضة في هذا القسم هو اللبناني «غود مورنينغ» لبهيج حجيج الذي وصل من الرباط، حيث نال فيلمه هذا جائزتين، واحدة كأفضل سيناريو (كتبه المخرج) والثانية كأفضل تمثيل (نالها كل من عادل شاهين وغبريال يمّين).
فيلم آخر محدود الميزانية ومتقشف لكنّه يختلف كلياً عن «ورد مسموم». قريب في صياغته العامة من الفيلم اللبناني الآخر «غداء العيد» للوسيان بورجيلي من حيث أن المكان واحد والفيلم بلا شخصية واحدة محورية.
«غود مورنينغ» يقع في مقهى في طابق مرتفع عن مستوى الأرض. هناك نافذة عريضة تطل على ميدان صغير في شوارع مختلفة. في المقهى النّظيف الماثل زبونان مسنان أحدهما اسمه الجنرال (كونه كان في إحدى سرايا الجيش)، والثاني صديقه الحميم. هما مسلم ومسيحي. ووراءهما كل يوم ينكب صحافي أصغر سناً اسمه سليم (رودريك سليمان) على الجلوس إلى حاسوبه والكتابة، متدخلاً من حين لآخر في حديث الصديقين. النادلة التي تعمل في المقهى (مايا داغر) تستلطف سليم وسليم يستلطفها، لكنّه مسيحي وهي مسلمة ولا ترى مستقبلاً مشتركاً بينهما.
يُكوّن بهيج حجيج فيلمه من مقاطع (فقرات) كل منها بعنوان مختلف. هذا العنوان عادة ما هو مأخوذ من عبارة سترد في الحوار. شغل العجوزين الشّاغل حل الكلمات المتقاطعة وقراءة عناوين الصحف والتعليق على ما يشاهدانه من تلك النافذة الرحبة.
كل فقرة تتبع يوماً مختلفاً في الروزنامة لكنّه غير مختلف في الممارسة. هذا يضعف سياق الفيلم الذي كان يحتاج إلى تفعيل أعلى حدة. شيء مثير بعد انقضاء شهوة متابعة الأيام الخمسة الأولى مثلاً. يقوم الجنرال من مقعده قاصداً زبائن آخرين ليحكي لهم نكاتاً مختلفة. يتظاهر بعضهم بالضحك ويغادر غالبهم المقهى تخلصاً من إزعاجه. وهذا المنوال الواحد يستمر إلى نهاية الفيلم حيث سيغيّب الموت أحدهما.
الفيلم حزين النبرة بدوره. حديث العجوزين يتناول الماضي والحاضر معاً ولا شيء يبدو مسرّاً اليوم كما كان بالأمس. ما يريانه من النافذة عالماً من انعدام المسؤولية. ما يقرآنه في الصّحف أو ما تعلنه شاشة التلفزيون القريب هو سلسلة من الانفجارات الانتحارية داخل لبنان وحتى فرنسا عاكساً وضعاً لعالم مات ضميره، كما يقول أحد عناوين الفيلم.
هو فيلم خاص بصياغة خاصة تستدعي الاهتمام من ثمّ يفتر ذلك الاهتمام بعض الشيء بسبب تكرار منوالها. لا جديد يُضاف إلى ما سمعناه وشاهدناه والأيام تتوالى من دون تعداد وتتشابه. كان يمكن للمخرج مثلاً، استبدال فقراته بعدد أيام محدودة في ذلك المكان الواحدة («سبعة أيام في مقهى» مثلاً). وكان يمكن له أن يكبر حجم بعض الشخصيات الخلفية كذلك أو يجعلها تقول شيئاً لامعاً من حين لآخر. بالنسبة لنكات الجنرال زادت قليلاً عن حدها وجعلت المشاهد يسخر مما يقوم به، عوض أن يدرك تمام حاجته للتواصل مع الآخرين.
- تحكيم
في السنوات الأخيرة ارتفعت نسبة الأفلام التي تدور في موقع واحد داخلي. ليس أن هذا النوع جديد. الراحل نبيل المالح أقدم على ذلك في «كومبارس» (1993) مع شخصيتين أساسيّتين في شقة. قبله (سنة 1984) حقّق الأميركي روبرت ألتمن «شرف سري» Secret Honor)) بطولة شخص واحد في مكتبه.
هذا العام شاهدنا لرشيد مشهراوي «كتابة على الثلج» الذي دار بأسره داخل منزل و«غداء العيد» دار كذلك في منزل واحد. «غود مورنينغ» يتبع هذه الأعمال وما يدور في خلد المخرج من تأطير المكان وما يدور فيه من أحاديث مهمّة، لكنّه قليل الحيلة عندما يأتي الأمر إلى ما يفرضه المكان وشخصياته من استطراد.
حفل اليوم سيعلن عن فوز الفيلم المتسابق في قسم «آفاق السينما العربية»، وهذه الجائزة ستهم فريقاً موازياً في الحجم لمسابقة المهرجان الأساسية التي يرأسها المخرج الدنماركي بل أوغوست وتضم كذلك المخرجة هالة خليل (مصر) والمخرجين بريانتي مندوزا (الفلبين) وفرانشسكو مونزي (إيطاليا) والمنتج الأرجنتيني خوان فيرا والممثلين ديامان بوعبود (لبنان) وظافر العابدين (تونس) وناتاشا رينييه (بلجيكا) وسامال يسلياموفا (كازخستان).
كيف سيرى هؤلاء الأفلام الستة عشر التي شاركت في المسابقة هو أمر مهم كون الكثير منها جيد ومثير للاهتمام، مما جعل هذه الدورة واحدة من أنجح دورات المهرجان في هذا الصدد.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)