10 سينمائيين ينتخبون لـ «الشرق الأوسط» أفضل أفلام العام

ساندرا بولوك كما ظهرت في «جاذبية»
ساندرا بولوك كما ظهرت في «جاذبية»
TT

10 سينمائيين ينتخبون لـ «الشرق الأوسط» أفضل أفلام العام

ساندرا بولوك كما ظهرت في «جاذبية»
ساندرا بولوك كما ظهرت في «جاذبية»

في الشهر الأول من عام 2013، شهدت الصالات الأميركية عرض 17 فيلما؛ واحد منها حمل مجموعة من الممثلين المعروفين هو «فريق الغانغسترز» الذي أخرجه روبن فلايشر، ابن المخرج الراحل ريتشارد فلايشر (الذي كان والده سينمائيا أيضا). من هؤلاء الممثلين: رايان غوزلينغ، وإيما ستون، وشون بن، وجوش برولين.
مارك وولبرغ كان في فيلم آخر عنوانه «مدينة محطـمة» مع راسل كراو، وجسيكا شستين ظهرت في فيلم بعنوان «ماما» (وندمت عليه)، ثم أودع أرنولد شوارتزنيغر سنوات خبرته في أفلام الأكشن وقدم منها «الوقفة الأخيرة».
لم يحقق أي من هذه الأفلام أي نجاح يذكر، بل كرس اعتقاد أن عصر النجوم الذين يستطيعون حمل الأفلام إلى مراتب النجاح انقضى. هذا الاعتقاد وليد عامين أو ثلاثة خلت نتيجة إخفاق أفلام كثيرة، اضطلع ببطولتها نجوم من وزن توم هانكس، وجيم كاري، وجوليا روبرتس، ومات دامون، وتوم كروز، وجنيفر أنيستون، وبراد بيت، وجوني دب، وبراندون فرايزر، من بين آخرين.
المنوال استمر في عام 2013؛ فالنجم قد يحمل فيلما فقط إذا ما أراد الجمهور أن يشاهد هذا الفيلم، لكنه لن يستطيع فعل شيء حيال غياب أرضيـته. التساؤل الذي طرحته هوليوود وهي ترقب مصير عدد من الأفلام التي أسندتها إلى طاقمها المفضـل من الممثلين في الأشهر الأولى من ذلك العام - هو إذا ما كانت النجومية «موضة» قديمة بات من الممكن الاستغناء عنها.
لكن، ما حدث هو أن هوليوود ربـت، في عصر الديجيتال، جمهورا من الناشئة الذي لا يكترث للبطولة البشرية كثيرا ما دامت البطولة الفعلية هي للكومبيوتر (غرافيكس) وأصناف المؤثرات السمعية والبصرية والموازييك اللوني والصوتي. هل يكترث فعلا إذا ما تولى إيوان مكروغر بطولة «جاك السفاح العملاق» أو كولين فارل ما دام في الفيلم ما يضمن الإثارة الناتجة عن المؤثرات المبهرة؟
طبعا إلى حد ما، وفي أمثلة أخرى، يهم أن يرى المشاهدون روبرت داوني جونيور في شخصية «آيرون مان» أو كريستيان بايل في دور «باتمان»، لكن في حالة استبدال ممثلين آخرين بأي منهما، (كما الحال الآن بقيام بن أفلك بدور «باتمان» عوض بايل في الفيلم المقبل «باتمان ضد سوبرمان»)، فإن الجهد المبذول لترويج الفيلم سيضمن تعويض النقلة بمزيد من العناصر الأكثر دهما وإثارة: معارك وانفجارات ومدن مدمـرة وأجساد طائرة وكل ما يتطلـبه الخيال اليوم من عناصر جنوح.
ما حدث مع «الوقفة الأخيرة» هو أن أحدا لم يكترث لشوارتزنيغر وهو يعيد قديمه. عدم الاكتراث نتج عنه 37 مليون دولار من الإيرادات، علما بأن تكلفة الفيلم بلغت 45 مليونا باستثناء ميزانية الدعاية والترويج. بعد أسابيع قليلة، وجد سلفستر ستالون نفسه في الورطة ذاتها بنتائج مالية أسوأ: «رصاصة إلى الرأس» تكلـف 55 مليونا وحقق أقل من عشرة ملايين دولار محليا ونحو أربعة ملايين دولار عالميا. لكنهما معا أثارا ما يكفي من الاهتمام بعد أشهر عندما قاما ببطولة فيلم تكلـف 50 مليون دولار وأنجب عالميا 122 مليونا. ليس بالمبلغ الكبير، لكنه أكد أن ما يـقصد به حين تتحدث هوليوود عن أهمية الـ(Concept) ليس المفهوم، كما ينص المعنى المباشر، بل «التوليفة» الإنتاجية والقصصية بالكامل.
في مستهل الصيف، سقط فيلمان آخران سقوطا مدويـا: «بعد الأرض» من بطولة ول سميث (الذي سابقا ما عد اسما خارقا)، و«ذا لون رانجر» بطولة جوني دب الذي سبق له أن شهد سقوط بعض أفلامه الصغيرة، لكنها المرة الأولى التي يتخبـط فيها فيلم كبير له. كلا الفيلمين تمتـع بميزانية تجاوزت الـ150 مليون دولار، وكلاهما لم يجن ما يكفي لاسترداد أرباح ما.
أحوال العرب الجمهور - وما يريد - معضلة كبيرة. وعربيا، الوضع أسوأ من نظيره في الخارج، ففي الخارج ما زال هناك مجال واسع لإنجاز النجاح، وها هو «أيرون مان 3» اخترق سقف المليار دولار، جاعلا من روبرت داوني جونيور نجم نجوم السنة. جورج كلوني أنجز نجاحا تجاريا وفنيـا في «جاذبية»، وجنيفر لورنس كانت نجمة العام بين الإناث عن «ألعاب الجوع: الاشتعال» (تلتها ساندرا بولوك. لكن الجمهور أقبل، بمعظمه، على عمل مؤثرات، وليس بسبب من داخل الفيلم). براد بيت سلم من الإخفاق بفضل إنتاجه وبطولته «الحرب العالمية ز»، في حين لم ينجز توم كروز في فيلم خيالي - علمي آخر هو «متاهة». في الخارج، ما زالت هناك ثقة، وما يخفق اليوم قد ينجح غدا، والحركة مستمرة، والعروض لا تعرف أعمالا فنيـة أو ترفيهية؛ فالأسواق مفتوحة على مصراعيها أمام الاحتمالات والمفاجآت.
لكن، عربيا يبدو الأمر معكوسا: 15 فيلما هي جل ما جرى إنتاجه من أفلام مصرية في العام الذي مضى، معظمها مما لا يستحق أن يـنتج أساسا. عهد النجوم كان مضى وبقي ماضيا، في هجرة مخيفة لحق الممثل أن يبقى على الشاشة. لا تلم المنتج كثيرا (إلا من حيث مسؤوليته في حفر الفخ الواسع)، بل الجمهور الذي انقسم لفئتين: واحدة مخضرمة اكتفت بشاشات المنازل، وأخرى شابـة تدخل صالات السينما التي تعرض أفلاما مصرية بخجل. «هاتولي راجل» و«عش البلبل» سجلا، (حسب مصادر)، أعلى إيرادات أفلام مصرية داخل مصر، لكن أين هي تلك الأيام التي كانت فيها الإنتاجات تصل إلى أكثر من 50 فيلما مصريا في السنة وتتنوع بحيث تتوزع النجاحات سواسية بينها؟
الجمهور العربي في مصر وسوريا وتونس محكوم حاليا بظروف سياسية وأمنية قاهرة بلا ريب، وفي لبنان هو مزاج متقلـب، وفي الجزائر والمغرب تكاد لا توجد صالات سينما تذكر. في العراق الحال واقف، وفي الأردن يعلو ويهبط. فقط في الإمارات والكويت وقطر والبحرين، هناك ذلك الإقبال الشاسع، والإمارات هي الأولى فيه هذا العام أيضا.
على ذلك، وعلى نحو لا يخلو من الغرابة، هناك حركة إنتاج كبيرة في معظم الدول العربية المذكورة: ثلاثة أفلام إماراتية طويلة، 20 فيلما مغربيا على الأقل، 13 فيلما جزائريا، 15 فيلما لبنانيا، ومجموعة من الأفلام العراقية (ولو أن نصفها على الأقل كردي الهوية)، وحفنة من الأفلام التونسية، ومثيل لها من الأردن، وأخرى من فلسطين.
حتى السينما المصرية على هوان سوقها الحالي، فاجأت النقاد بطرحها خمسة أفلام جيـدة هذا العام؛ بدأت بفيلم «الخروج للنهار» لهالة لطفي، ثم تواصلت مع فيلمين من عروض «مهرجان أبوظبي»؛ هما: «فيلا 69» لآيتين أمين، و«فرش وغطا» لأحمد عبد الله، واستكملا بفيلمين آخرين عرضهما «مهرجان دبي»؛ هما: «فتاة المصنع» لمحمد خان، و«أوضة الفيران» لستة مخرجين هم: نرمين سالم، ومحمد زيدان، ومحمد الحديدي، ومي زايد، وهند بكر، وأحمد مجدي مرسي (الفيلم المصري الروائي الثالث الذي قدمه «مهرجان دبي» هو «المعدية» لعطية أمين، يبدأ مختلفا وينتهي تقليديا).
فلسطين تأرجحت: فيلم جيد هو «عمر» لهاني أبو أسعد، وفيلمان متوسط القيمة هما «زرافاضة» لراني مصالحة، و«فلسطين ستيريو» لرشيد مشهراوي.
الأردن بين فيلمين أو ثلاثة؛ أفضلها التسجيلي «حبيبي بيستناني عند البحر»، ولبنانيا طفرة كثير منها جيـد (خصوصا التسجيلية «طيور أيلول» لسارة فرنسيس، والتسجيلي «ميراث» لفيليب عرقتنجي، و«يوميات شهرزاد» لزينة دكاش) والمثيرة للاهتمام إيجابيا («طالع نازل» لمحمود حجيج)، وصولا إلى أفلام تجارية بحتة لم تصل إلى الشاشات المهرجاناتية باختيارها أساسا.
حضور وغياب عام 2013 ودع السينما التسجيلية التي تدور حول الحدث الماثل. مرة أخرى، السينما المصرية تصلح للدراسة: ففي حين قامت السينما التسجيلية بلعب دور الريبورتاج التلفزيوني إثر ثورة 2011 وما بعدها، التقطت السينما الروائية الخيط المختلف وأبدعت في تداولها مواضيع لا تدور مباشرة عن الثورة، بل تتشربها حتى من دون كلمة واحدة عنها.
أفضل التسجيليات التي شاهدناها موزعة بين مهرجانات عدة، بدأت ببرلين وانتهت بدبي، كانت تلك التي أخذت مسافة من الآني والتأمت مع الوضع المستمر، ومنها اللبناني «العالم ليس لنا»، والأردني «حبيبي بيستناني عند البحر» كما الأفلام اللبنانية المذكورة أعلاه التي تجاوزت بدورها الراهن وحده لتوسع دائرة اهتمامها لتشمل محيط ذلك الراهن كله.
إذا ما كان نصيب المهرجانات العربية من الأفلام العربية وصل إلى نحو 140 فيلما (بين طويل وقصير) ونصيب المهرجانات الغربية («برلين»، «كان»، «فينيسيا»، «صندانس»، «تورونتو») سجل نحو عشرين فيلم - فإن النسبة مرتفعة. ما لا يـطرح للنقاش هو إلى أي مدى تستطيع هذه السينما الاستغناء عن القاعدة الجماهيرية والاكتفاء بمهرجانات السينما ذاتها؟
السؤال كان حاضرا في عام 2013 على نحو أقوى مما سبق في الأعوام السابقة حتى مع عد هذه الأزمة ليست جديدة. تراكمها هو ما يجعل طرحها ملحـا اليوم أكثر من أي يوم مضى، خصوصا أن العدد الكبير الذي بات يتمتع بدعم صناديق وأسواق وورش سينمائية منتشرة بين ثلاث مدن هي أبوظبي ودبي والدوحة، بات يجد في هذا الدعم المورد شبه الأساسي لاستمرار دوران دولاب الإنتاجات، كل في بلده ومنطقته.
من بين الـ140 فيلما عربيا أو نحوها، لن تشهد الأسواق التجارية عرض أكثر من خمسة في المائة منها. وبينما من السهل لوم الجمهور لأنه لا يكترث، إلا أن اللوم الأساسي يقع على عاتق الموزعين الذين يأنفون مد يد عون هم قادرون عليه. صحيح أن شركات التوزيع ليست جمعيات خيرية، لكنها تملك ذلك المفتاح الذي سيوفر الأرضية الصلبة والوحيدة للصناعات المحلية أينما كانت. تلك الأرضية التي لا تستطيع المهرجانات تأسيسها، بل الاكتفاء فقط بتنشيطها كما تفعل اليوم.
عشرات المواهب على صعيد المهرجانات العربية ذاتها، بقي الأمر، وللأسباب الواردة أعلاه كما لأسباب أخرى إدارية وتنظيمية، على ما كان عليه في الأعوام القليلة السابقة: المهرجانات العربية في منطقة الخليج هي موطن الثقل لكل ما يحرك السينما العربية الممتدة من أفريقيا إلى آسيا، بل مقصد المخرجين العرب العاملين في الخارج وبعض المخرجين الأجانب الذين ينشدون - بأفلام تتناول مواضيع عربية - إقامة علاقة ما بينهم وبين المهرجانات العربية. الشاشات العربية في أبوظبي ودبي والدوحة باتت أساسا لا غنى عنه أمام المنتج والمخرج، كما أمام الناقد والمشاهد. ومع غياب مهرجان القاهرة الذي سيحتجب حتى مطلع خريف العام المقبل، فإن الوضع الجديد معزز بحقيقة أن هناك - في العالم العربي - مهرجانات ما قبل وما بعد ما أسسته تلك الخليجية من مناهج إدارية وتنظيمية وما أكـدته من ضرورة توفير الميزانية، حتى ولو ارتفعت، لضمان نشاطاتها المختلفة وصناديق دعمها ولضمان المنافسة الصحية بينها.
المعضلة التي تزداد تعقيدا هي أن تقييم كل مهرجان من تلك العربية الكبرى هذا العام (بترتيب ورودها: «أبوظبي» و«الدوحة» و«مراكش» و«دبي»)، أمر تتداخل فيه الكثير من العناصر التي قد يساء فهمها، مما يستوجب تقسيم ذلك التقييم إلى خانات. ضمن هذا الوضع، فإن أفضل مكان لمشاهدة أفلام عربية ما زال «دبي السينمائي» الذي عزز مكانته في هذا المجال عبر الاحتفال بذكراه العاشرة. لكن، حين يأتي الأمر للأمور التنظيمية، فإن «مهرجان أبوظبي» ما زال يحظى بنواح مهمـة توفـر الراحة على نطاق أوسع للوافدين (سيارات ليموزين للجميع، صحافيين كانوا أم سينمائيين. قدرة على حجز مسبق لكل أفلام المهرجان المقبلة وليس يوما بيوم كما الحال في «دبي»).
«مراكش»، من ناحية أخرى، قد يكون مفيدا للجمهور المحلي بالطبع، لكن معظم ما عرضه من أفلام مسابقة أجنبية كان شوهد في مهرجانات أخرى بالنسبة للوافد الذي جال ما يكفي من المهرجانات. كذلك ومع أنه حر في عدم اكتراثه كثيرا للعروض العربية، إلا أن مشكلته الأخرى أنه لا يحتوي، على جانبه، لبانوراما فعلية للسينما المغربية، مما يعوض الناحية المشكو منها. بالإضافة إلى أن عدم الاكتراث له سلبياته الأساسية وهي انكماش حضور السينما العربية إلى أكبر حد ممكن. هذا الأمر ربح لمهرجانات السينما الأخرى، وبالتأكيد سيكون ما سيعول عليه مهرجان القاهرة مستقبلا لاعبا دور المعوض، وهو الذي سيقام في الفترة ما بين «أبوظبي» و«دبي»، عن هذا التغييب، محاولا شق طريق مستقل حتى عن طريقة احتفاء «دبي» و«أبوظبي» بالسينما العربية.
التفاصيل مهمـة حتى وإن لم تبد كذلك في بعض الأحيان: من الاستقبال في المطار (يتساوى عناية كل من «دبي» و«أبوظبي») إلى نوعية الكاتالوغ («أبوظبي» الأفضل)، ومن تصميم وتلقائية الموقع (أبوظبي) إلى الخدمات الصحافية المتعددة (دبي).
لكن، بالطبع ما هو أهم منها أن مهرجاني «دبي» و«أبوظبي» حصدا أكبر قدر من الأفلام العربية الأهم، وفتحا الأعين على عشرات المواهب الجديدة في السينما تستحق الاهتمام المطلق؛ من بينها مخرجة «شلاط تونس» كوثر بن هنية (تونس)، ومحمد أمين بوعمروي مخرج «وداعا كارمن» (المغرب)، وآيتين أمين التي عملت في رحاب السينما التسجيلية وحققت رواءها الأول «فيللا 69» (مصر)، وأحمد عبد الله في فيلمه الثاني «فرش وغطا» (مصر)، وكمال كمال مخرج «الصوت الخفي» (المغرب)، كما محمود حجيج صاحب الفيلم اللبناني المختلف «طالع نازل»، أو اللبنانية زينة دكاش («يوميات شهرزاد»)، أو اليمنية سارة إسحق («بيت التوت»).
هذا وسط عودة حميدة، أو استمرار متواصل لبعض أهم الأسماء في السينما العربية، ومنهم: محمد ملص («سلم إلى دمشق» - سوريا)، ومحمد خان («فتاة المصنع» - مصر)، وجيلالي فرحاتي («سرير الأسرار» - المغرب)، ومرزاق علواش («السطوح» - الجزائر)، وبالطبع العودة المشهودة لهاني أبو أسعد في «عمر» المطروح باسم دولة فلسطين عند شاشات أكاديمية العلوم والفنون السينمائية في لوس أنجليس طمعا في الأوسكار.
لكن مهرجانات اليوم (العربية) مشتركة في موضوعين مقلقين: الأول قدر من الشللية توزع مصالحها على الصديق الأقرب من ناحية، وتعامل أقل مما يجب مع الثقافة السينمائية المنشورة. في هذا المجال، لم يصل بعد اهتمام عربي لما حققه «مهرجان دمشق» سابقا من حضور في هذا المجال. صحيح أنه طفح بالأخطاء التنظيمية وسعى لأن يكون فم الدولة وأذنها طوال الوقت، إلا أن الزائر كان يخرج بعدد من الكتب المهمـة التي كانت دائما ما تصب في صالح الموضوع الثقافي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)