عطر واحد لا يكفي لاختزال تاريخ «سالفاتوري فيراغامو» وإرثه

جرت العادة أن تطرح شركات العطور، وبيوت الأزياء، عطرا واحدا في كل موسم، بل منها ما يتعمد عدم تقديم أي جديد إلا بعد سنوات للإبقاء على العطر السابق أطول فترة ممكنة. دار «سالفاتوري فيراغامو» في المقابل كسرت هذه القاعدة وقدمت في فلورنسا مجموعة مكونة من 11 عطرا. السبب برأي رئيسها التنفيذي، لوتشيانو بيرتيليني «أننا أردنا أن يحكي كل عطر قصة بلون مختلف». باللون كان يقصد تاريخ الدار مع الأحذية التي كان المؤسس أول من أدخل عليها خامات غريبة وألوانا متنوعة حتى قبل أن تروج هذه الموجة في السنوات الأخيرة بين مصممين شباب. لكنه لم يُخف أيضا أهمية العطور لأي بيت أزياء من الناحية التجارية، الأمر الذي يجعلها مجالا لا يمكن تجاهله «فأي علامة لها قصة أو إرث، تريد أن تسلط الضوء عليهما، وبحكم تاريخنا الطويل، فإننا لا نفتقد إلى قصص رائعة توارثناها عبر الأجيال وتُخول لنا أن ننسج مزيدا منها. من هذا المنظور كان دخولنا صناعة العطور بقوة خطوة طبيعية».
لا يختلف اثنان على أن صناعة العطور أصبحت ميدانا واسعا ومهما، من شأنه أن يدر على بيوت الأزياء المصنعة لها أرباحا لا يستهان بها، فضلا عن وضع اسمها في الواجهة. فمن لا يستطيع شراء قطعة إكسسوارات أو أزياء بآلاف الجنيهات، فبمقدوره شراء قنينة عطر تمنحه السعادة وشعورا بالانتماء إلى نادي النخبة. المشكلة التي تعاني منها صناعة العطور في السنوات الأخيرة أن عملية إنتاجها أصبحت تحكمها توجهات الموضة الموسمية؛ الأمر الذي يستدعي السرعة وأحيانا التكرار. وهذا ما يريد لوتشيانو تجنبه، مؤكدا أن استراتيجية الدار «أن نبقى أوفياء للتقاليد والأصل، وأن نركز على مفهوم (صنع في إيطاليا) حتى نحافظ على الاستمرارية وعلى جودة الخلاصات والتفاصيل الدقيقة».
رغم العدد؛ 11 عطرا، فإن ما يشفع للمجموعة أن ارتكازها على توسكاني ربط بينها. ويشرح لوتشيانو أنها بوصفها منطقة، تعد رمزا من الرموز الإيطالية في العالم أجمع، إضافة إلى أنها كانت ولا تزال مصدر إلهام لدار «سالفاتوري فيراغامو» بحكم أن فلورنسا هي المدينة التي اختارها السيد فيراغامو عندما أسس شركته في بداية القرن الماضي. لم يكن دافعه أنها تتوفر على حرفيين مهرة في هذا المجال فحسب؛ بل لشعوره حينها أن بيئتها التي تعبق بالجمال والفن والتاريخ، يمكن أن تكون مصدر إلهام له، تمنح ابتكاراته مزيدا من الحيوية والديناميكية. كان قراره صائبا، لأن تأثيرها الفني كان واضحا على أعماله؛ فأغلب الأحذية التي ابتكرها، إن لم نقل كلها، كانت مطبوعة بالفنية والعملية، كما يؤكد متحف الدار الواقع في فلورنسا. وكان من الطبيعي أن يلفت حينذاك اهتمام نجمات ونجوم هوليوود. كان قادرا على تشريح القدم من جهة؛ وعلى ابتكار تصاميم أنيقة، وأحيانا ثورية بخاماتها وأشكالها، من جهة ثانية.
مع الوقت، أصبحت توسكاني تُمثل بالنسبة لدار فيراغامو ما تُمثله مدينة غراس الفرنسية لدار «شانيل». فهي مضمارها الذي تجول وتصول فيه بثقة.
وهذا ما أكده لوتشيانو بقوله إن توجيهات الدار للعطارين السبعة كانت واضحة؛ تتلخص في أن يضعوا توسكاني نصب أعينهم وهم يختارون المكونات ويمزجونها بعضها ببعض.
لم يكن العدد، أو الكم، الهدف؛ بقدر ما كان تلميع صورة الدار وتسليط الضوء عليها «ووضعها في مكانها الصحيح بالنظر إلى إرثها العريق وتاريخها الطويل في صناعة الترف». باستثناء عطر «ريناشيمانتو»، لم يكن باقي العطور الستة جديداً. فبعد أن طُرحت في السابق على أنها ماء عطور خفيفة، أعيد ابتكارها وصياغتها هذه المرة بإدخال مكونات جديدة أضفت عليها جرعة قوية من الفخامة. طبعا ساعد على هذا أن كل العطارين يتمتعون بخبرة ورغبة في التميز.
ويلفت كل واحد منهم، عند الحديث معهم، إلى أن عطورهم ليست عن الرائحة أو الخلاصات فحسب؛ بل أيضا عن أسمائها وألوانها. فبما أن الهدف كان ربطها بالدار أولا والمنطقة ثانيا، فقد عدّوا أن الألوان والمكونات المحلية لا تنفصل عن هذه المنظومة. من هذا المنظور، كان من البديهي أن يتميز كل واحد منها بلون خاص، يتباين بين الوردي والأخضر والبرتقالي والبنفسجي... وغيرها من الألوان التي لا يضاهيها تنوعاً سوى أسمائها ذات الدلالات الإيطالية القوية، من «فانديميا» أي الحصاد، و«كونفيفيو» أي الوليمة، و«لاكورتي» المحكمة، إلى «كاليمالا»، و«تيستا دي مورو» أي البني الداكن، وباقي الأسماء التي ترتبط بشكل أو بآخر بالثقافة الإيطالية عموما والتوسكانية خصوصا، مثل «بونتا ألا»، و«فيولا إيسانزيالي»، و«لاكوميديا»، و«بيانكو دي كارارا»، و«تيرا روسا»، وأخيرا وليس آخرا «ريناشيمانتو» أي النهضة.
ويعد هذا الأخير العطر الوحيد الجديد في المجموعة؛ أبدعه العطار الأميركي الشاب أليكس لي، الذي صرح بأن أول ما قفز إلى ذهنه عندما استمتع إلى اقتراحات وتوجيهات الدار؛ اللون الأخضر. لم تفارقه صورته، فكلما أغمض عينيه للتفكير، ألح عليه أكثر، وهو ما تجلى في العطر والقارورة بعد عدة أشهر. وأشار العطار الشاب إلى أن طريقته في ابتكار أي عطر تبدأ دائما برسم صورته في خياله؛ قبل أن يبدأ في ترجمته على أرض الواقع بالبحث ثم مزج المكونات. ويتابع: «من الأشياء التي تعلمتها خلال دراستي، أنه من الضروري أن يتضمن أي عطر عنصرين مهمين؛ الأول: أن يكون فريدا من نوعه، بحيث يمكن التعرف عليه من النظرة الأولى، والثاني أن يُخلف أثرا لا يُنسى. لهذا كان هدفي أن أضمن توفر هذين العنصرين في عطر يفرض نفسه على الذوق العالمي بقوته وشكله وأيضا بتفرده». الأدوات التي اعتمد عليها للوصول إلى هدفه كانت باقة من المكونات الفلورنسية مثل زهرة مسك الروم والقزحية والزنبق، إلى جانب المندرين الإيطالي والفلفل الأخضر والريحان مع رشة خفيفة من خشب الصندل والفيتفير. يعترف بأن البداية كانت سهلة لأنه شعر بأن الجمع بين زهرة مسك الروم والقزحية أساسي لمنح العطر شخصيته. المشكلة كانت في بقية المكونات. فكيف له أن يمزج الأخشاب بالورود ويُزاوج بينها بتناغم؟ لم يكن الأمر سهلا واستغرق منه عدة أشهر قبل أن يتوصل إلى الوصفة الأخيرة التي جعلته يرضى عنها. مثل باقي العطارين المشاركين في هذا المشروع، أنيطت بأليكس لي مهمة ابتكار عطر واحد، صب فيه كل ما يتمتع به من خيال وقدرات كيميائية. باقي العطارين استلهموا إما من تراب توسكاني، أو رائحة الرخام والمرمر؛ بل وحتى من رائحة المسارح الكبيرة التي تحتضن حفلات الأوبرا والكوميديا. لم يكن الأمر سهلا؛ لكنه كان «تحديا لذيذا» بحسب اعترافهم.
في المقابل، كان العطار فابريس بيليغرين، من شركة «فيرمنيش» الفرنسية الوحيد الذي أنيطت به مسؤولية ابتكار 5 عطور مرة واحدة. كان فخورا ومعتدا بنفسه وهو يشرح الخطوات التي اتبعها في جعل كل واحد يختلف عن الثاني. يقول إنه استلهم اثنان منها، «فانديميا» و«كونفيفيو»، من موسم حصاد العنب في توسكاني، بينما اعتمد في عطر «لاكورتي» على نوعين من الياسمين وحليب اللوز والفانيلا، بينما جعل عطر «كاليمالا» غنيا بالأخشاب الثمينة، و«تيستا دي مورو» بخلاصات البخور والزعفران والباتشولي وخشب الصندل. كلها عناصر من شأنها أن تدغدغ الحواس وتجذب زبائن من كل أنحاء العالم، وإن كانت الدار تُعول على أسواق الشرق الأوسط والصين والولايات المتحدة، بالنظر إلى عشقها للعطور.
وما يُحسب للمجموعة أنها، رغم العدد وباعتراف الدار بأنها تريد من ورائها تلميع صورتها وضمان البقاء في الصدارة، تتبع تقليدا جديدا بات مرادفا لصناعة العطور المتخصصة، يتلخص في احترام التقاليد والاعتماد على إرث قديم مقارنة بشركات عالمية تعتمد على الحملات الترويجية الضخمة. ما توصلت إليه الدار أنها عندما تنسج قصة متكاملة؛ شكلا ومضمونا، فإنها تنجح في إثارة الانتباه ولا تحتاج إلى مؤثرات أو وجوه شهيرة لتسويقها.