لماذا تُنقذ النساء قبل الرجال من السفن الموشكة على الغرق؟

الصحافي الأميركي كروثامر يصدر كتابا جديدا عن «الأشياء التي تهم»

غلاف «الأشياء التي تهم»
غلاف «الأشياء التي تهم»
TT

لماذا تُنقذ النساء قبل الرجال من السفن الموشكة على الغرق؟

غلاف «الأشياء التي تهم»
غلاف «الأشياء التي تهم»

تخيل أنك في باخرة كبيرة الحجم تخترق المحيط. فجأة ارتطمت بجبل جليدي ضخم. ساد الذعر بين الركاب وبدأت السفينة بالغرق شيئا فشيئا. تم تجهيز الزوارق الصغيرة ولكنها لا تكفي الجميع. من المرجح أن يهتف صوت أحد المسؤولين معلنا: «الأطفال والنساء أولا» وسيتراجع الرجال إلى الخلف. ذات السيناريو حدث في قصة باخرة التايتانيك حين تم إفراغ السفينة من الأطفال والنساء، وتم طرد الرجال الذين حاولوا التسلل بينهم. إذا كنت امرأة فستشعرين بأنك محظوظة لأنك ستنجين، وإذا كنت رجلا فستشعر بالبؤس المغلف بإحساس البطولة وستتمنى لو كنت امرأة. ولكن حدث شيء غير متوقع هذه المرة. اعترض أحد الرجال الغاضبين بالقول: «ولماذا النساء؟» وحجته: إذا كان من المفهوم أن ينقذ الأطفال أولا لأنهم عاجزون عن حماية أنفسهم ولم ينضجوا عقليا، فإنه من غير المفهوم مساواة النساء بهم. إذا كان ذلك شبه مقبول قبل أكثر من مائة سنة عندما غرقت التايتانيك، لماذا ظل الوضع كما هو عليه بعد مرور كل هذه العقود الطويلة التي أخذت فيها المرأة الكثير من حقوقها؟ النساء أصبحن يقدن الطائرات الحربية ويحكمن بلدانا ويرأسن شركات، ولا يتوقفن عن مطالبة الرجال بالمساواة التامة. ولكن عندما تنشب الحروب وتتطاير الدماء أو تغرق السفن، فسوف يكن أول من يركب الزوارق متشبثات بأطفالهن. لماذا أيضا يتم ربط المرأة مع الطفل حتى في العناوين الإخبارية التي تتردد حول العالم مثل «مقتل عشرات النساء والأطفال!» ولماذا لا يقال مثلا «مقتل عشرات الرجال والأطفال!».
حتى لا أواجه أي غضب من النساء أو من المدافعين عن حقوق المرأة يجب أن أضيف الآن أن هذا ليس رأيي، ولكن هذا ما كتبه الكاتب الصحافي تشارلز كروثامر في أحد مقالاته المنشورة في كتابه الصادر حديثا بعنوان «الأشياء التي تهم». ولكن حتى هو لا يستحق النقد لأنه يصل بعد ذلك إلى بعض التحليلات المنطقية لربط المرأة بالطفل بشكل أكثر من الرجل. هناك من يقول: إن الرغبة العميقة لدى البشر للحفاظ على المرأة أكثر من الرجل يعود ليس لجمالها ولكن لأنها أكثر أهمية منه على المستوى البيولوجي. بمعنى أن قدرة المرأة على الإنجاب تجعلها قادرة على تكوين عائلة كاملة، على العكس من الرجال الذين سيفنى الجنس البشري بسبب عدم قدرتهم على الحمل. ولكن الكاتب لا يقبل هذا التفسير النفساني التطوري بحجة أنه يشبه تفسير لغز البيضة والدجاجة. ولكن التفسير الأقرب للصحة هو أن المرأة أكثر قدرة على العناية بالطفل لهذا يتم في الغالب ربطهما ببعض. لهذا عندما تقع الكوارث وتندلع الحروب، يتم إنقاذ النساء من أجل الأطفال وليس لأنهن كالأطفال.
هذه نهاية مقبولة لهذا المقال الجميل المكتوب بحس كوميدي رائع وشرير في الوقت نفسه. ولكن من يتابع مقالات كروثامر في جريدة «واشنطن بوست» لن يعثر في الغالب على مقالات من هذا النوع الفريد الذي يفضله، كما يقول. أغلب مقالاته تركز على الشؤون السياسية التي يبرع أيضا في تناولها. هذه الأيام هو مشغول بتوجيه نقد شديد اللهجة للرئيس باراك أوباما الذي يختلف معه في كل شيء تقريبا. يؤكد كروثامر الذي كان ديمقراطيا في شبابه وأصبح جمهوريا فيما بعد (سأله مؤخرا المعلق جون ستيوارت عن هذا التحول فقال ساخرا: هذا التحول الطبيعي من المراهقة إلى النضج!) إنه يكتب في السياسة مضطرا. يقول في أحد مقالاته بأنه يفضل الكتابة عن الأشياء التي تحرك الروح وترقي العقل وتلهب الخيال مثل الفن أو الفلسفة أو الأدب، ولكن كل هذه الأشياء الجميلة تنهار دفعة واحدة إذا لم تضبط السياسة بالشكل الصائب. أكبر مثال على ذلك هو ألمانيا عام 1933، السياسة الصائبة هي الجدار الذي يحمي الناس من البربرية المستعدة للانقضاض في أي وقت. ولكن لأن ألمانيا لم تستطع وضع السياسة بالشكل الصائب لذا هدمت النازية بقيادة هتلر جدارها المتآكل وسحقت بعد ذلك كل الفنون والآداب والفلسفات والعلوم والحياة كلها. رائحة الحرية والسعادة التي كانت تملأ الهواء، حلت محلها رائحة البارود والجثث المحروقة.
في هذا السياق يذكر كروثامر إحدى مقولات جون آدمز، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية الذي كتب مرة: «يجب أن أتعلم السياسة والحرب لأمنح أبنائي الحرية ليتعلموا الرياضيات والفلسفة والتاريخ والهندسة والتجارة والزراعة ولكي يمنحوا بدورهم الحق لأبنائهم لكي يدرسوا الرسم والشعر والموسيقى». لهذا السبب تحديدا يعترض المؤلف على رأي البيولوجي والفيلسوف لويس توماس الذي أجاب عندما سئل عن أهم منجز يرشحه لكي يرسل للفضاء كدليل على العبقرية البشرية، فقال: «سأصوت لموسيقى باخ، كل صوتي لباخ، ترسل مؤلفاته للفضاء مرة بعد أخرى. بالطبع، سنبدو كالمتبجحين!» يتفق الكاتب على عبقرية باخ، ولكن بسبب اعتقاده أن الفنون الأخرى تنحني أمام قوة السياسة، فسوف يكون الخيار الثاني الذي سيبعث على الفضاء هو الدساتير التي تؤمن بالحرية والعدالة مثل وثيقة الماجنا كارتا الإنجليزية أو الدستور الأميركي.
لهذا السبب يعقد في أحد مقالاته مقارنة بين العالم الفيزيائي اينشتاين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. رغم عظمة اينشتاين في القرن العشرين فإن الشخص الذي كان من دونه سيتغير مسار التاريخ هو تشرشل بكل تأكيد. اينشتاين حقق اختراقا علميا إعجازيا، ولكن وجد علماء فيزياء اقتربوا من فكرته الرئيسية ولكنهم عجزوا عن فهمها بالكامل. كان من المتوقع أن الزمن سينجب لا محالة علماء آخرين سيصلون لما توصل له. ولكن تشرشل من الشخصيات النادرة في التاريخ التي من دونها سينهار كل شيء. الحضارة كلها كانت ستنحط وتنزلق في الظلام لو تمكن هتلر من السيطرة على أوروبا بالكامل.
كروثامر يحمل درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة هارفارد، ولكن يعترف أنه أدرك بعد سنوات من الدراسة أنه يفتقد للقدرات الحقيقية لكي يكون مميزا في هذا المجال. ولهذا لم يتجه للكتابة الصحافية إلا في الثلاثين من العمر، ولكنه استطاع بسرعة أن يكون لنفسه اسما لامعا وأن يكتب في كبريات الصحف والمجلات الأميركية. من الواضح أن معرفته الواسعة بعلم النفس ساهمت في إبراز موهبته الكتابية، ولكنه يرفض أن يقحمها في قضايا سياسية واقتصادية لا يربطها شيء بعلم النفس. لذا يرفض في مقال له بعنوان «الإنسان الجواني. من يهتم؟!» التفسيرات النفسية التي طبقها الكثير من كتاب السياسة على الرئيس نيكسون ووصفها بالسطحية. من يهتم بماذا يفكر نيكسون بينه وبين نفسه، أو ماذا يحب أو يكره. الحكم يجب، كما يقول الكاتب، على السياسات على أرض الواقع وليس أي شيء آخر. ولكن لا يستطيع كروثامر - ككل المتخصصين في علم النفس فيما يبدو - كبح غضبه وحتى احتقاره لموجة ما يسمى ب «تطوير الذات». في أحد مقالاته يكتب كروثامر أن المخرج وودي آلن اعترف أثناء قضية الوصاية على الأولاد بينه وبين طليقته الفنانة ميا فارو أنه لم يحمم أطفاله أبدا أو يأخذهم إلى الحلاق، ولا يعرف من هو طبيب أسنانهم، ولم يحضر أبدا الاجتماعات المدرسية، ولا يستطيع أن يسمي أي أحد من أصدقاء أطفاله. كيف يمكن لهذا الشخص الغارق في نفسه والمفتقد للشعور الطبيعي للأبوة أن يتم إخضاعه لدروس تطوير الذات التي تحولت إلى «بزنس» يعتمد على مكننة المشاعر والتصرفات من دون نتائج حقيقية. المسألة إذن أعمق من ذلك. يضيف الكاتب: «نجح هذا البزنس لأن الأميركيين آمنوا أنهم بحاجة لخبير في شيء. خبير يعلمهم كيف يمشون أو يتكلمون أو كيف يثنون ركبهم». مع موضة تطوير الذات، أصبح كل سلوك وشعور إنساني بضاعة للتصنيع والتجارة. لم يعد يعرف الإنسان كيف يشرب ويأكل ويتزوج ويحب وينام ويعمل ويصادق إلا إذا دربه خبير على ذلك.
يشن كروثامر في الكتاب غضبه ونقده المتواصل على الأفكار الليبرالية فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد. هو محافظ اقتصاديا وسياسيا وليس اجتماعيا أو دينيا. في أحد مقالاته يشير ساخرا إلى أن الفرق الأساسي بين فريق المحافظين والليبراليين هو أن المحافظين يعتقدون أن الليبراليين أغبياء وسذج، والليبراليون بدورهم يعتقدون أن الجمهوريين مجرد حفنة من الأشرار قساة القلب. يذهب بعد ذلك للدفاع بأسلوبه العميق واللاذع عن رؤيته التي يصفها بالواقعية التي تؤمن بالتجربة والنتائج الملموسة وليس الأمنيات (من هذا النتائج إيمانه الكامل بفشل الحكومة الأميركية بمشاريع كثيرة مثل محاربة الفقر لذا يجب أن تبقى الحكومة صغيرة ومحدودة وتترك المجتمع بأفراده ومؤسساته وقيمه لكي يقوم بتصحيح نفسه).
تعرض كروثامر أثناء دراسته الجامعية لحادث سيارة أدى إلى شلل النصف السفلي من جسده، ولكن لم يفقد أبدا حسه الساخر. في أحد مقالاته يحلل الكاتب بأسلوب طريف اعتقاد الأميركيين غير المفهوم بأن تحمل المعاناة والصبر على المشاق، هما ما يمنحان الأشياء قيمتها. هذا ما يفسر هوسهم بسباقات الماراثون الذي لا يتحصلون منها إلا على بطانية تلف عليهم وزجاجة ماء. هذه السباقات مهمة لأنها تشعرهم بقيمتهم الذاتية التي لا تبدو بأحسن حالاتها إلا من خلال الصبر والمعاناة. هذا أيضا يفسر الحركة الغريزية التي يقوم بها الناس عندما يركلون عجلات السيارة المستعملة قبل شرائها. إذا تحملت الركل فستكون صالحة للشراء! وفي مقال آخر يكتب بحزن عن رحيل كلبه «شتسر» الذي مات فجأة. يعترض الكاتب على من يعتقد بأن الحزن على رحيل الكلب مسألة زائدة في عالم مليء بالمعاناة الإنسانية. يقول من الطبيعي جدا أن يحزن الإنسان على رحيل مخلوق في غاية الجمال والطيبة والنقاء كـ«شتسر». ينقل عن أحد أصدقائه الذي حزن على موت كلبه قوله: «إنه ألطف مخلوق عرفته في حياتي. الكلب الوحيد الذي شاهدته يقبل قطة!».



علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.