يُعتبر الشاعر السعودي إبراهيم زولي صوتًا بارزًا في المشهد الشعري الحديث الذي مزج بين التجربة الشعرية القائمة على سبر أغوار النصّ الجديد، والسير من خلال تلك التجربة في مضمار «الحداثة»، خاصة في تجلياتها الشعرية والسردية. تكونت مداركه في فترة الصراع بين التيار الصحوي، والتيار الذي أخذ على عاتقه الخروج عن النسق السائد.
ولد إبراهيم زولي في جيزان جنوب السعودية عام 1968. كتب عددًا من التجارب الشعرية جمعت بين العمودي والتفعيلة والنثر، توزعت عبر مجموعاته الشعرية المتنوعة. إلى جانب ذلك، ثمة مسحة فلسفية في شعر زولي، الذي يدير رحى القصيدة في بحور من القلق واجتراح الأسئلة.
آخر مجموعة شعرية لإبراهيم زولي كانت «حرس شخصي للوحشة» صادرة عن المركز الثقافي العربي - المغرب (2015). أما أولى مجموعاته فكانت «رويداً باتجاه الأرض» (1996)، تلاها ديوان «أول الرؤيا» (1999) و«الأشياء تسقط في البنفسج» (2006) و«تأخذه من يديه النهارات» (2008) و«رجال يجوبون أعضاءنا» (2009) و«قصائد ضالة... كائنات تمارس شعيرة الفوضى» (2010) و«من جهة معتمة» (2013) و«شجر هارب في الخرائط» (2014).
«الشرق الأوسط» التقت الشاعر السعودي إبراهيم زولي، وأجرت معه الحوار التالي...
> ماذا بقي من دراستك في المعهد العلمي؟ وكيف قاومت ما تسميه «الحشو المنهجي الذي كان لا يؤمن سوى برؤية واحدة وقول واحد»؟
- تلك مرحلة كانت تحاصر فينا التفكير والاجتهاد حتى الإبداع داخل أسوار المدرسة، غير أنني كنت أخرج من ذلك وأذهب لقراءة الروايات العالمية لمؤلفين كبار مثل ديستويفسكي وتشيخوف ووليم فوكنر، وأقرأ لكثير من المفكرين العرب أمثال محمد أركون والجابري وعبد الله العروي، وشعراء كسعدي ودرويش، وكانت الساحة الثقافية صاخبة بجدل نقدي خلّاق على صفحات «ملحق الأربعاء» وصحيفة «الندوة» وملحق «أصداء الكلمة» في «عكاظ»، وأدركت أن في تراثنا العربي والإسلامي فكرًا نيّرًا يؤمن بالاختلاف، وأصبحت مقولة محمد بن إدريس الشافعي: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» وسواها شعارًا وأيقونة في مرحلة من مراحل حياتي.
> لستَ وحدك من الشعراء الذين تكّونت اتجاهاتهم الحداثية أثناء دراستهم في حواضن مناهضة لهذه التجربة، كيف تفسر ذلك؟
- تلك حقبة قاسية وشديدة الوطء على شاعر لا يزال يتلمس خطواته الأولى في عالم الكتابة، إنها حالة تشبه الطوفان الذي لا يمكن لأحد مجابهته، فكيف بفتى يدرس في المرحلة الثانوية؟! بيد أن الأمل في غدٍ أجمل، هو الأمل المدجج بالوعي الحاد والقراءة المكثفة. هو من أنقذ قصيدة الفتى في مجابهة السائد والمكرس والمألوف.
> ماذا علق في ذهنك من فترة الثمانينات وصعود التيار الصحوي؟
- الجيل الذي كان يتعاطى مع المشهد الثقافي في تلك الحقبة يعلم أنّ جيلاً من الكُتّاب والمبدعين وجد نفسه في معركة لم يختر زمانها ولا مكانها. هذا الجيل لم يقف مكتوف اليدين بل تصدى لأولئك الذين لم يكن العداء الثقافي إلا لافتة خادعة ومبررًا واهيًا. أولئك كانت معركتهم ضد الوطن بجميع أطيافه، وهو ما حدث فعلا مع تلاميذهم ومريديهم الذين كفَّروا المجتمع، ومارسوا ضد مدخراته التفجير والإرهاب.
> لماذا تعثّر مشروع الحداثة في السعودية؟
- القول بفشل مشروع الحداثة في البلد قول بحاجة إلى مساءلة، أقلّ ذلك على مستوى الكتابة في تجلياتها الشعرية والسردية. ما نلاحظه أنّ أغلب كتاب الثمانينات والتسعينات هم الآن من يشار إليهم بالبنان عند الحديث عن المشهد الثقافي في السعودية.
> ألم ينسحب المثقفون «الحداثيون» أو «الليبراليون» من المشهد وتركوه طويلاً لخصومهم؟
- الذين انسحبوا، ومَن فضَّل الصمت في تلك المرحلة، كانت لهم مبرراتهم القوية والمقنعة إلى حدٍّ كبير، ذلك أنّ التيار المتشدد والراديكالي كان نافذًا ومتغلغلاً، كسرطانٍ شرس، في كل مفاصل المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية، وكان كل صوت غير صدى صوتهم يعتبر كفرًا وزندقة ومروقًا من كل الأعراف والتقاليد. ما حدث حينذاك كان نزالاً غير بريء وغير عادل معًا، عندما تلقّى فيه معظم كُتّابنا ضربات «تحت الحزام» بسبب ودون سبب.
البحث عن الشاعر
> متى اكتشفتَ الشاعر في داخلك؟
- حتى اللحظة ما أزالُ في بحث دؤوب ومضنٍ عن الشاعر في داخلي، ومن هو هذا الذي يستطيع القول إنه وجد الشاعر الذي يبحث عنه؟! البحث وتناسل الأسئلة هو ما يحرض على الكتابة، ويوقظ القصيدة من غفوتها. لا أريد لهذه الرحلة من البحث عن الشاعر في داخلي أن تصل إلى نهايتها. لا أريدُ ذلك أبدًا.
> بين مجموعتك «رويداً باتجاه الأرض»، و«حرس شخصي للوحشة» 9 تجارب شعرية في 20 عامًا، هل اصطفتك القصيدة؟
- كلّ ما يحلم به الشاعر هو أنْ تصطفيه القصيدة، ويصل إلى مرحلة من الوجد والعشق اللانهائي. إنّ الاصطفاءَ، هنا، هو ذلك الشيء الذي لن يتأتى لكل من كتب الشعر أو هَمَّ به. كم من الشعراء على مستوى العالم كتبوا القصيدة منذ بدء الخليقة، بيد أنه لا يوجد إلا «متنبي» واحد و«رامبو» واحد أيضًا. قلة هم أولئك الذين اصطفتهم القصيدة بكل أسف.
> كيف نضجتْ هذه التجربة؟ وكيف تنّقلت بين العمودي والتفعيلة والنثر؟
- يقولون إنه بالكتابة يتعلم المرء الكتابة. ومع هذه التجارب التي تحدثتَ عنها ثمة عامل واحد هو التجريب والمغامرة في خلق لغة ورؤيا مختلفة. لم أقم بحرق المراحل كما فعل غيري. كتبت العمود الشعري وشعر التفعيلة وقصيدة النثر ولا أدّعي مجدًا مظفرًا في ذلك. كان هاجسي المغامرة من قبل ومن بعد، ومتى ذهب هاجس المغامرة من الشاعر فقد أضاع كل شيء، وانتكس في شكل وفخ شعري يتيم لن يغادره حتى آخر العمر. إنّه دون حسّ التجريب والمغامرة يحفر الشاعر قبره بيديه.
تأثير القراءة
> ما أكثر ما أثّر في تجربتك الشعرية؟
- لا شيء في تقديري يؤثر في الشاعر مثل القراءة. القراءة وحدها هي من تصنع لغة ووعي الشاعر، وتصنع رؤيته تجاه العالم والذات. الشاعر ابن مكتبته وقراءاته، لا ابن مجتمعه.
> كيف تجد مستقبل قصيدة النثر في السعودية؟
- المستقبل للإبداع دون تأطير بشكلٍ جاهز؛ لأنّ الإبداع الحقيقي يتعالى على التصنيف والتأطير. وقصيدة النثر في مدونة الشعر السعودي خطت خطوات مهمة، وقدمت أسماء لافتة وذات أهمية، لا على المستوى المحلي فحسب، بل على المستوى العربي أيضًا، لكنّ ذلك لا يمنع أنّ هناك دخلاء على هذا الشكل من الكتابة، مثل أي صنعة أخرى، ثمة طارئون ودخلاء. بعضهم ما تزال قصائدهم النثرية لا تتجاوز الخاطرة والتداعيات الرومانسية.
> تقول: «منذ البدء وأنا أحلم بكتابة نصّ يمثّلني، يمثّل فيّ الآن مرحلته وزمنه. لا أن يتنفّس من فم امرئ القيس، ويلتحف عباءة المتنبي، ويستعير تجارب الآخرين». هل يقوى الشاعر أن يمتلك فرادته في مجتمع يفرض سلطاته؟
- فرادة الشاعر هي أمرٌ نسبي ومرحلي، والشاعر في ذات الوقت ابنٌ بارٌ لظرفه وسياقه الثقافي والاجتماعي والسياسي. هو ليس كائنًا فضائيًا، ومع كل هذه القيود يستطيع أنْ يخلق لغته ويصنع عالمه الخاص. إن الشعراء الذين اختاروا المهاجر أو المنافي، طوعًا أو قسرًا، ربما كان مناخهم مناسبًا لخلق فرادتهم، بيد أنّ تلك الفرادة لم تتأت إلا لقلة قليلة منهم.
> كيف يحضر المكان في قصيدتك؟ أنت مسكون بتفاصيل البيئة المحلية، وتقول إن من يمتلك تفاصيل المكان ومفرداته الحميميّة يحمل في شرايينه أرضًا وشعبًا من سلالته، كيف؟
- البعض يعدّ المكان هو الأرضية الصلبة التي ينطلق منها الشاعر للعالم، مَن يمتلك تفاصيل المكان يمتلك عالمه الشعري، عالماً لا يمكن أن يضل برفقته السبيل، وحتى لا تكون القصيدة ريشة في مهب الرياح، غريبة الوجه واليد واللسان، يبقى المكان بكلّ تجلياته وتمظهراته هو الذي يمكّن المبدع من كتابة عملٍ زاهٍ، عمل يقف معه على قدمين راسختين، وقامة يمدّ عنقها إلى الفضاء.
> هل تحتاج القصيدة إلى نار المعاناة فعلاً؟
- الأوراق و16 بحرًا وقلم دون غطاء، كلها تتأهب، وقد لا تأتي الكتابة، تغضب وترمي بكلّ شيء في أقرب سلة أمامك. تختلط إيقاعات الوافر والرمل ممزوجين بالمتدارك، ثم ينتصب الخليل بن أحمد أمامك كعفريت صابًّا جام غضبه عليك. تقوم منكسرًا من مكانك الذي هيأته للقصيدة الحلم، ثم في خلسة من كلّ هؤلاء تُقْبِلُ وأنت أعزل إلا من حزنك، عاريًا إلا من البهجة بقدومها، لا لشيء إلا لأنّها هي سيّدة الزمان والمكان... طقس بحاجة إلى طقس آخر، وعملية استحضار تشبه الضرب في الرمل. هي كمَن ينظر إلى قدميه عندما يقود دراجة ليعرف كيف تتمّ عملية القيادة، ثم يتعثّر في الطريق. الكتابة موعد مع الغياب، أو هي انتظار جودو، أو «البحث عن وليد مسعود»، قد تأتي وقد لا تأتي.
> ماذا يوفر لك الفضاء الإلكتروني؟
- بسبب هذه الشبكات المعلوماتية والفضاء الإلكتروني، صار بإمكان المرء في أي ركن من أركان المعمورة، التواصل مع أخيه الإنسان «الافتراضي» في الجهة الأخرى من العالم صوتاً وصورة وكتابة. لم تعد الأخوّة في اللون أو الدين أو العرق، كما تعارف الناس، بل تبدّلت إلى معنى آخر وجديد لم يكن مألوفًا من قبل. «عالم افتراضي، أصدقاء افتراضيّون»، وهكذا. ما من شكّ في أنّ هذه الشبكات باتت تشكّل حضورًا طاغيًا في حياة الناس، بمختلف أطيافهم وشرائحهم، لم ينجُ من ذلك أحد، فقراء وأغنياء، ملونون وغير ملونين، وسقطتْ معانٍ كثيرة، فلم نعد نميّز بين الشيخ والمريد، وبين المعلم وتلميذه. هذه الهدية الكونية من اقتصاد المعرفة لم تأت حكرًا على النخب وطبقات الأنتلجنسيا الذين احتكروا ردحًا من الزمن المعلومة ومصدرها، الكِتاب ومؤلّفه، البحث ومحتواه، وبالتالي كانوا يهبون أو يمنحون - لا فرق - الثقافة لمن شاؤوا، وكيف شاؤوا. ذلك زمن ولّى وانقضى إلى غير رجعة، زمن أضحى في سلة الذكريات، زمن غير مأسوف عليه.